السبت، 22 أكتوبر 2011

الاشتراكية بداية التاريخ

) نهاية التاريخ

لقد انتهت الهدنة بين الطبقات، وطرح الصراع الطبقي في المجتمع الليبرالي أسئلة كثيرة عما يقوله فوكوياما -أو الاقتصاد السياسي على العموم- عن نهاية التاريخ والإنسان الأخير وهو إنسان المجتمع الرأسمالي، وها هو الصراع ينتشر شيئًا فشيئًا مثل الوباء على مستوى التاريخ العالمي، ويزيد من حيرة فلاسفة الأخلاق على الأخص أمام هذا الوضع الرهيب، فها هي معارضة واقعية تهدد مصالح الرأسماليين من يونان إلى وول ستريت، ومنها إلى بريطانيا وفرنسا وتونس ومصر. فدهشة الفلاسفة أمام الانتقال المفاجيء للحركة الثورية من الشرق إلى قلب الليبرالية نفسها في الغرب وأمريكا، يعني في نفس الوقت عجزهم التام عن جواب السؤال الذي بدأ الناس يطرحونه حول الليبرالية التي ينتظرها الشرق، فالحركة الثورية في الغرب وأمريكا، جعل من الليبرالية الشرقية آمالا مزيفة لا أكثر، فإذا كان شعار الشرق الدكتاتوري هو المدنية والليبرالية، فما شعار الغرب المدنية - الليبرالية نفسها؟ أهو مجتمع أكثر ليبرالية؟ أو الديمقراطية الحقيقية؟ أو إجبار أصحاب المال تقليل أرباحهم وتوزيعها على الناس بصورة عادلة؟ أو التخلي عن الأفكار الدنيئة، والاسترشاد بالفضيلة والأخلاق الرفيعة، والتعهد بالشرف؟ أو الأسعار العادلة التي هي مرهونة دائمًا بتموجات السوق؟

2) ثرثرة الليبراليين

لقد انتهى السلم الاجتماعي، وأعلن التاريخ من جديد عجز الليبرالية التام عن إدارة مجتمع خالٍ من النزاعات. ولكن مع ذلك لا تنتهي ثرثرة الليبراليين. وهم لا يزالون يدَّعون أن الرأسمالية ممكن أن توجد، ولكن دون وجود الحقد والصراع والعنف في المجتمع. إن الرأسمالية ذات منجزات فائقة، وذات مآثر اقتصادية عظيمة، ومعجزات غريبة عن البشر. لذلك فعلينا أن نقر بوجودها وتطويرها نحو الأحسن لصالحنا نحن جميعًا، حسب الليبراليين.
وهكذا، يتحدث الليبراليون عن الكائنات الإنسانية ويقولون لنا: نحن جميعنا أخوة! فهم ينادون إذًا بمحبة الجنس البشري، كما يقول كارل ماركس، ولكن دون ذكر أسباب الحقد والعنف بيننا. وفي أفكارهم الأخلاقية، فهم يتوجهون إلى الخير والحسنات، يعني إلى حلول الفلاسفة الوهمية، ويحاولون حتى توفيق الحركة الاشتراكية العالمية مع الأفكار السائدة كالحب، والصدق، والأخلاق، والسلم الاجتماعي.

ولكن رغم هذا الهراء الليبرالي، فالشروط التاريخية الجديدة، بدأت تشغل بال كل الناس في العالم حول التصورات الجامدة البائدة عن التاريخ وعلاقة الطبقات ببعضها البعض، وأسباب عدم استمرار السلم الاجتماعي، والأفعال التاريخية للقوانين الاقتصادية التي لا يمكننا تشبيهها بالقوانين الثابتة للطبيعة إطلاقًا، كما يقول كارل ماركس، فحركة المجتمع الحديث مثلها مثل المجتمعات السابقة، خاضعة في تطورها للقوانين لا للأيديولوجيا الفلسفية وأفكار العباقرة ونظريات العظماء. وقد أسهمت بالفعل مختلف أنواع الأوهام الفلسفية السابقة في تكوين تصورات زائفة عن التاريخ وربط حركته، وثم صانعي الثورة، بمفاهيم الأيديولوجية، وتمجيد الأفكار والأفراد، وتعريف الاشتراكية بعلم اكتشفه العلماء. أو كما يقول كارل ماركس:

"وإنها لتتضمن فيما تتضمنه اعتقاده بأن الأفراد الذين يصنعون ثورة مرتبطون برباط أيديولوجي وإن (رفعهم) لراية الثورة يقتصر على تمجيد مفهوم جديد، فكرة ثابتة، شبح أو طيف -المقدس" (كارل ماركس، الأيديولوجية الألمانية، ترجمة الدكتور فؤاد أيوب، ص 411).

3) هل الاشتراكية علمية؟

ليست الاشتراكية نتاج العقل الفلسفي أو اكتشاف علمي، كما يعلنها الأنتلجنسيا -المثقفون البرجوازيون. ومع تطور الحركة ذاتها، ودخول الطبقات صراعهم الحاسم حول بقاء أو فناء المجتمع الليبرالي، يتضح شيئًا فشيئًا أن الاشتراكية ليست شبحًا للعقل العلمي، أو اكتشافًا علميًّا من عالم اقتصادي مثل كارل ماركس، بل إنها صيرورة تاريخية ستقود البشرية في النهاية نحو هذا الاتجاه. وينتقد ماركس في حينه مفهوم الاشتراكية العلمية بوصفه علم غيبي ويقول:

"إن الاشتراكية الحقيقية، التي تزعم إنها قائمة على (العلم)، هي بدورها علم باطني في المحل الأول؛ وأدبياتها النظرية مخصصة لأولئك القلة الذين تدربوا على (الذهن المفكر)" (كارل ماركس، نفس المصدر السابق، ص 498).

إن الحديث عن الاشتراكية هو الحديث عن الوسائل المادية التاريخية لولادة مجتمع جديد. لذلك فعلى المستوى النظري، إن الاشتراكية غير قابلة للتصور في جميع الأوقات وفي كل الظروف الاقتصادية والسياسية. إذًا، إن الاكتشاف العلمي للاشتراكية أمر غير قابل للتحقيق. وإن هذه الظروف تنشأ بصورة طبيعية لا بفعل الأفكار الفلسفية والوصفة الأيديولوجية للمثقفين البرجوازيين -الأنتلجنسيا، فالمسألة تتعلق بإلغاء تاريخي لشكل خاص من الملكية وظهور شكل آخر محلها لا بالتطبيق العلمي في الإنتاج، فالإنتاج الرأسمالي هو في الأساس عملية علمية، وإدارتها إدارة علمية، ولكن دون حل أي نزاع اجتماعي، فالاستغناء عن الإنتاج الرأسمالي لا يعني إطلاقًا الاستعاضة عنه بنظام علمي، بل يعني الاشراف الجماعي للمجتمع على الوسائل الإنتاجية، ولا يصبح هذا العمل واقعة تاريخية ما لم تصبح إلغاء الملكية الخاصة ضرورة تاريخية.

يقول ماركس: "ألا يتبين أن الملكية الخاصة شكل للتعامل ضروري لمرحلة معينة من تطور القوى الإنتاجية؛ شكل للتعامل لا يمكن إلغاؤه ولا يمكن الاستغناء عنه في إنتاج الحياة المادية المباشرة ما لم يتم إيجاد القوى الإنتاجية التي تصبح الملكية الخاصة بالنسبة إليها غلاً وعائقًا" (كارل ماركس، ، نفس المرجع السابق، ص 381).

4) الأنتلجنسيا والاشتراكية

الأنتلجنسيا هم المثقفون البرجوازيون الذين يقومون دائمًا بإعطاء أسماء غامضة عن اشتراكياتهم القومية المختلفة، الاشتراكيات التي ليست في الواقع سوى نظام العمل المأجور نفسه، فالإنتلجنسيا يوهمنا بأن الاشتراكية خلاصة الفكر الفلسفي لا حركة واقعية لطبقة اجتماعية، ولا نستغرب حين نرى أن هؤلاء الاشتراكيين يعارضون الرأسمالية بفكر هيغل الفلسفي -أي الديالكتيك، الفكر المسيحي الذي لا علاقة له بالوقائع التاريخية على الأرض، فهيغل مسيحي أكثر من المسيح نفسه، ويبحث علاقات البشر في السماء لا في التاريخ. لذلك فاللجوء إلى هيغل لفهم التاريخ، ليس سوى جهل بالتاريخ الواقعي. وإن هذه الأفكار الاشتراكية نشأت في ظروف تختلف كل الاختلاف عن ظروفها التاريخية الواقعية، أي إنها أفكار مستعارة من الأنتلجنسيا لا من تجارب ودروس تاريخية لحركات اجتماعية واقعية، فغزل الأفكار مهمة من مهمات هؤلاء المثقفين البرجوازيين.
ولكن دون شك، ستتضح كل هذه الفقرات الغامضة من فكر الأنتلجنسيا حين تبدأ الطبقة البروليتارية بنفسها من جديد برفع رايتها، ونعني بها الحركة الاجتماعية التي ستقودنا إلى نهاية (نهاية التاريخ) أي نهاية الرأسمالية، وبداية التاريخ الإنساني، أي الاشتراكية.

5) نهاية التاريخ أم بدايته؟

إن التاريخ ينتهي في الرأسمالية! هكذا يقول فوكوياما. ولكن التاريخ الفعلي للبشر لا يبدأ إلا بعد عبورهم المجتمع الليبرالي ودخولهم المجتمع الاشتراكي، أي المجتمع الذي يشترك فيه البشر بنتاج إنتاجهم الاجتماعي، فالاشتراكية هي بداية التاريخ الإنساني، والثورة الاشتراكية هي التي ستقود البشر إلى عالمهم الإنساني، إلى عالم خالٍ من منافسة البشر للبشر، فالتاريخ الإنساني يبدأ عند دخول الإنسان عالمًا يتوقف فيه قانون صراع البقاء الحيواني، فلا وجود للمجتمع الإنساني دون نهاية (نهاية التاريخ)، أي دون إنهاء المجتمع الطبقي وتحويل الإدارة السياسية -البيروقراطية الطفيلية- إلى إدارة مجردة للإنتاج، أي تحويل الإدارة العسكرية إلى إدارة مدنية، كومونية ستجعل من ممكلة الحرية حقيقة تاريخية، المملكة التي ستضمن التطور الحر لكل فرد من أفراد المجتمع.

فلترفرف راية الثورة الاشتراكية على ربوع العالم!


نقد الأخلاق عند لينين

تمهيد:

لو بدأنا من عصرنا الحاضر، لرأينا أن فكرة الأخلاق لم تتغير عبر العصور إلا قليلا، ففكرة الأخلاق في العصر الحديث، هي صياغة جديدة للفكر التأملي القديم، وهي تبدأ بدراسة الفرد، وعلاقة الجسد بالنفس، وتجريد الفرد عن عالمه الواقعي، وتكوين كائن أخلاقي منه، فالشخصية الفريدة للإنسان تشكل الشخصية الخالصة التي يتخيلها العقل الفلسفي، وهذا الفرد الفلسفي هو كائن منفصل عن كل العلاقات البشرية.
إن هذا الانفصال بين أخلاق الفرد وحياته المادية، هو أساس تجريد الإنسان عن كل العلاقات الدنيوية. وهذه الفكرة تشكل مفهومًا فلسفيًّا يفقد الأفراد فيه كل صفاتهم الاجتماعية المشتركة، لا في الفلسفة فحسب، بل في علم النفس أيضًا، أو كما يقول كارل ماركس: (إن كل فرد متميز كليًّا عن أي فرد آخر، شيء ما أوحد)، وهو ما يشكل مفهوم (الأنا) في الفلسفة -أو في علم النفس أيضًا.

يقول ماركس: "المفهوم هو (الأنا) -انظر المنطق لهيغل، القسم الثالث-، المنطق بوصفه الأنا. هذه هي العلاقة المحضة للأنا بالعالم، علاقة مجردة من جميع العلاقات الفعلية المتعلقة بها - الأيديولوجية الألمانية، تعريب الدكتور فؤاد أيوب، ص 291.

وهكذا، فـ (الأنا)، أو الفرد المنفصل عن العالم الواقعي، هو سر من أسرار الفلسفة يلخصه الأوحد، أي الأفراد المتميزيين عن بعضهم بعضًا. وإن مفتاح هذا السر الفلسفي هو الأخلاق. فما هذا السر؟

السر في فلسفة الأخلاق:

الأخلاق أو فلسفة الأخلاق، تبحث البشر وعلاقاته في قوى الخير والشر، فالخير كالشر فكرة خاصة بالفرد ناتجة من المعرفة والجهل. وإن كل النزاعات البشرية الموجودة على الأرض، تأتي من نزاع قوى الخير والشر -من المعرفة والجهل- لا من النزاعات العملية الناتجة من المصالح الاقتصادية والسياسية المتناقضة.

إن الأخلاق أو فلسفة الأخلاق، تعني بكل بساطة نزع الأفكار الشيطانية -الأفكار الشريرة - من رؤوس الناس وتخلي الفرد عن فكرة التناقضات بدل السيطرة على المصدر المادي التاريخي لهذه التناقضات. ويلخص ماركس هذا الفرد الفلسفي المتصور، في الشكل التالي:

(ومثال آخر)، ألا وهو مثال أعم على تكريس العالم، هو تحويل النزاعات العملية، أي النزاعات بين الأفراد وشروطهم الحياتية الفعلية، إلى نزاعات مثالية، أي نزاعات بين هؤلاء الأفراد والأفكار التي يشكلونها أو يقحمونها في رؤوسهم .. إن التناقضات الفعلية وهي تناقضات الفرد نفسه تتحول إلى تناقضات الفرد وفكرته الخاصة .. وهكذا ينجح في تحويل النزاع الفعلي -المصدر الأصلي لانعكاسه المثالي- إلى نتيجة لهذا المظهر الأيديولوجي. وهكذا فهو ينتهي بهذه الطريقة إلى النتيجة التالية: ليس المقصود هو الإلغاء العملي للنزاع العملي، بل مجرد التخلي عن فكرة النزاع، وهو التخلي الذي يستحث الناس بكل إصرار على تنفيذه، وذلك بوصفه داعيةً أخلاقيًّا صالحًا" (كارل ماركس، نفس المصدر السابق، ص 301.

وهكذا، إن الإنسان الأخلاقي هو الإنسان الفاضل، والنزاع الموجود في المجتمع، هو نزاع الفضيلة والرذيلة لا الصراع بين المنافع والمصالح المختلفة. وإن هذه الفكرة قديمة قدم الأخلاق التي تنادي بها الأديان القديمة.

الأديان والأخلاق:

في التاريخ القديم، إن الأخلاق الكريمة هي الهدف الأسمى لبعث الأنبياء. هذا هو ملخص تاريخ أكثر من ثلاثة آلاف السنة من الحضارة اليهودية والمسيحية والاسلامية. والأخلاق صفة راسخة من النفس تدعو البشر إلى فعل الخير أو الشر، ففي نظر معظم الباحثين، تعتبر الأخلاق نتاجًا للأفكار الدينية، وإنها جوهر الأديان السماوية لدى البعض، إنها تحقيق لأحكام الشرائع الدينية وعلاقتها بتحقيق الفضائل الأخلاقية. وتبدأ مسيرة الأخلاق من الحضارات البشرية القديمة، من بلاد الفارس والهند والصين وبابل والحضارة الفرعونية. وفي وقت متأخر من التطور البشري، أي بعد التطور عبر آلاف السنين من الحضارات القديمة، تصل الأخلاق إلى فلاسفة الإغريقيين القدامى مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو. والفلسفة تبحث سر (الأنا) في منطق الحكمة الجديدة، وإن هذه اللعبة المنطقية تشكل كل أساس فلسفة الأخلاق، وكأن البشر وأفكاهم الأخلاقية، تؤسس قاعدة التحرك نحو التحرر حتى من مجتمع استثمار الإنسان من قبل الإنسان، وها هو لينين يعلمنا بأن الأخلاق هي التي ما يتيح هدم المجتمع الحاضر.

لينين والأخلاق:

يقول لينين: "إن الأخلاق تتيح للمجتمع الانساني أن يرتفع إلى أعلى، أن يتحرر من استثمار العمل"، "إننا نقول إن أخلاقنا خاضعة تماما لمصالح نضال البروليتاريا الطبقي إن أخلاقنا تنبثق من مصالح نضال البروليتاريا الطبقي .. إن الأخلاق الشيوعية إنما هي الأخلاق التي تخدم هذا النضال وتوحيد الشغيلة ضد كل استثمار"، "نحن نقول الأخلاق هي ما يتيح هدم مجتمع المستثمرين القديم)" (انظر لينين: الأخلاق، والأخلاق الشيوعية).

إن ما يسمى المفهوم اللينيني الجديد للأخلاق لا يختلف إطلاقًا عن المفهوم القديم للأخلاق، والفرق التاريخي هو ما يسمى الفرق بين (إشباع رغائب الجسد الفاني) في الحضارات القديمة، و(السعادة الحسية) و(المتعة) في الحضارة الجديدة. والأخلاق هي نفسها في مجتمع تاريخي معين إذا كانت تسمى الشيوعية أم الاسلامية، وهي القيم الأخلاقية السائدة التي تحددها مرحلة معينة من التطور الاجتماعي يتقاسم بها الأفراد في المرحلة التاريخية المعنية، فلا يختلف الأفراد عن بعضهم البعض في قيمهم الاجتماعية أو أخلاقهم التاريخية، أو كما يقول ماركس:

"إن تاريخ فرد وحيد لا يمكن أن يفصل عن تاريخ الأفراد السابقين والمعاصرين، بل هو على العكس من ذلك محدد بهذا التاريخ - كارل ماركس، نفس المصدر السابق.

إذا قلنا: (إن الأخلاق هي ما يتيح هدم مجتمع المستثمرين القديم) فنعني بذلك أن استثمار الإنسان من قبل الإنسان قضية أخلاقية لا اقتصادية، لذلك فالأخلاق هي التي تتيح للمجتمع أمر التحرر من الاستثمار. وهذا يعني أن ثراء البعض على حساب بعض آخر قضية أخلاقية لا اقتصادية، وأن أمر إنهاء استثمار الإنسان للإنسان أيضًا قضية أخلاقية. وأن الطريق قصير قصر نزع أفكار الاضطهاد من رؤوسنا.

ينتقد لينين فكرة التملك الخاص على الشكل التالي ويقول: "إني أسعى وراء فائدتي أنا. والباقي لايهمني أبدًا...".

إن هذه الفكرة ناتجة من المصالح الاقتصادية الصرفة لا من الأخلاق، فالسعي وراء المنفعة الشخصية، قضية اقتصادية وسياسية، لذلك فلا يحول البشر شيئًا من الاضطهاد من خلال تغيير أفكارهم من الأفكار السيئة إلى الحسنة، من فكرة: (الباقي لا يهمني) إلى فكرة: (الباقي يهمني).

إن فكرة لينين الأخلاقية تنتهي في الواقع إلى النتيجة الآتية: تخلي الفرد عن فكرة الملكية! وهذا يعني تحويل جميع العلاقات والامكانات المادية التي تحيط بالبشر إلى مجرد فكرة الفرد الأخلاقية في رفض عالم الملكية، فالأخلاق اللينينية تنادي أيضًا بتغيير الفرد لأفكاره لا لشروط حياته. لذلك فالفرد الواقعي في فكرة لينين الفلسفية، يتحول إلى نفس الفرد المتصور في الأخلاق. فصفة الإنسان الأخلاقية في فكر لينين، مثلها مثل بقية الأفكار الفلسفية الأخرى، تتغلب على كل صفاته التاريخية.

إن الأخلاق ظاهرة تاريخية، تعبر عن الأيديولوجية السائدة للطبقة السائدة. أو كما يقول ماركس:

"فقد تحولت النبالة إلى التدين والتقوى، والبرجوازية إلى الأخلاق المتزمتة في نظرياتهما ... " (نفس المصدر السابق".

وما كنا لنفهم هذا التحول التاريخي من التقوى إلى الأخلاق المتزمتة إلا حين وصل الصراع الطبقي إلى حد تهديد مصالح الطبقة السائدة. فالأمر إذًا لم يتعلق بالخلاص من فكر الطبقة السائدة والاستعاضة عنها بفكر آخر أكثر إنسانية من أيديولوجية الطبقة الحاكمة، أو كما يقول ماركس:

... "هذه الامور جميعا ما كان يمكن بالطبع ان تكتشف إلا حين أصبح في الامكان نقد شروط الإنتاج والتعامل التي عرفها العالم في سياق تاريخه، أي حين أدى التناقض بين البرجوازية والبروليتاريا إلى نشوء النظريات الشيوعية والاشتراكية. لقد حطم هذا النقد أسس كل الأخلاق، سواء أكانت أخلاق النسك أم المتعة" (كارل ماركس، نفس المصدر السابق).

وهكذا، فالأخلاق بوصفها قوى محركة للتاريخ، ليست سوى تصور وهمي صنعه الفلاسفة عن المجتمع وقواه الوهمية التي يؤسس البشر بموجبها علاقاتهم. أو كما يقول ماركس:

"إن هذه النظرة إلى الحياة - حتى نظرة الفلاسفة الزائفة- لا يمكن بكل تأكيد أن تحدد، في جميع الاحوال، إلا بفعل حياتهم الفعلية" (نفس المصدر السابق).

الخلاصة:

"إذا كانت الظروف التي يحيا المرء فيها لا تتيح له التطور الوحيد الجانب لصفة وحيدة على حساب جميع الصفات الباقية، إذا لم تزوده إلا بالمواد والوقت ليطور تلك الصفة فقط، فان هذا الفرد لا يحقق إذن سوى تطور مشوه، وحيد الجانب، ولا ينفع هنا أي وعظ أخلاقي" (كارل ماركس، نفس المرجع السابق).

وهذا يعني: (أن الأخلاق هي ما يتيح هدم مجتمع المستثمرين القديم) كما يقول لينين، ليس سوى وهم شائع، تبرر في الأساس سياسة مفيدة - ليبرالية أم دكتاتورية - فإخضاع المصالح الطبقية للأخلاق، محاولة لتبرير السياسة الممكنة، أي ربط الأخلاق بمسائل الاستراتيجية والتكتيكية للثوريين، كما يحاول تروتسكي أيضًا إقناعنا به.

ولكن في الواقع، ان هذه الصفة الوحيدة، أي الأخلاق، لا تنفع دون تطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بأكملها. وفيما يتعلق بمستقبل الصراع، فإن هذا التطور سيلغي الأخلاق -فكرة الطبقة السائدة- بدل إعادتها في شكل جديد. فالأخلاق ليست سوى قيم ومعايير، أي انها ليست منظم العلاقات البشرية أو مصدر التطور التاريخي للمجتمع، كما يوهمنا به لينين. ان الفرق بين الأخلاق والفيزياء هو نفس الفرق بين الأخلاق والاقتصاد. أو كما يقول أندره كونت سبونفيل الفرنسي:

"لو ان أحدكم اعترض قائلا: (أجل، أجل، هذا ما يقال؛ ولكن هل هذا كله أخلاقي، عندما ندرك أن هذا ما يؤدي إلى تفجير القنبلة الذرية)؟ عندئذ من شأن عالم الفيزياء أن يرد قائلا: (نحن لا نتحدث عن الشيء نفسه على الاطلاق...! إنني في هذه الأثناء لا أحدثكم في الأخلاق، بل في الفيزياء، وفي الفيزياء لا وجود للأخلاق!)" (هل الرأسمالية أخلاقية؟) ص 67

كما في الاقتصاد لا وجود أيضًا للأخلاق، وإذا كانت أخلاق الشيوعيين تختلف حتى عن أخلاق كل الناس الآخرين، فهذا لا يحرك المجتمع وطبيعته وأسلوبه في الإنتاج وشكل علاقات البشر بالبشر قيد أنملة.

ان الأخلاق تعبر تاريخيا عن المواد التاريخية المجهولة في الأساس (لنقد شروط الإنتاج والعلاقات الإنتاجية التي عرفها العالم في سياق تاريخه السابق). وحين بدأ البشر بانتقاد شروط الإنتاج والعلاقات البشرية الناتجة منها، فقد بدأ إذاك بتحطيم أسس كل أخلاق، وان هذا النقد التاريخي للعلاقات المادية بين البشر، يضع الأفعال الأخلاقية خارجًا عن القوانين الاقتصادية التي تنظم وتحرك المجتمع.

وهكذا، فإن فلسفة الأخلاق عاجزة كليًّا عن تفسير التاريخ وعلاقات الكائنات البشرية ببعضهم البعض، فعلم المادي التاريخي لا الفلسفة -الافلاطونية كانت أم المادية الديالكتيكية- بمقدورها تفسير علاقات البشر المادية بالبشر، فالمادية التاريخية علم اقتصادي - تاريخي يبحث البشر وعلاقاتهم التجريبية بالاقتصاد التاريخي لا بالعلاقة بين الجسد والنفس. وإذا بدلنا مفهوم الأخلاق من مفهوم خرافي إلى مفهوم ليبرالي أو شيوعي، فاننا ما زلنا نتحدث عن نفس المفهوم الذي اختلقه العقل الفلسفي المنفصل عن الواقع المادي للبشر. وإن اساس هذا التفكير هو أن البشر يستطيعون نزع فكرة الشر من رؤوسهم والاستعاضة عنها بفكرة الخير. وهذا ما لا يمكن أن يقره المفهوم المادي للتاريخ، وسيبقى النزاع هذا بين فلسفة الأخلاق والعلم المادي للتاريخ، بصورة أبدية.


الأزمة المعاصرة في تأملات الليبراليين الأخلاقية

لقد كتبنا في (هل نحن على أعتاب انفجار عالمي جديد؟) في عام 2008 في الحوار المتمدن: "إنَّ كلَّ عنصر يمنع تكرار الأزمات السابقة في السوق الكونية، يصبح بدوره بذرة جديدة لأزمة أقوى وأعم من كلَّ ما سبقها من أزمات في تاريخ المجتمع العالمي لرأس مال .. وإنَّ أزمة اليوم، ككلِّ الأزمات الصناعية السابقة في تاريخ الرأسمالية، هي أدلة متكررة لعدم قدرة الرأسمالية، على إدارة مجتمع إنساني خالٍ من الأزمات، وما يلازمها من المصاعب الاجتماعية، أي البطالة، والمجاعة، والفقر، والحروب".

وها هي حركة احتلال وول ستريت تنتشر وستصل تدريجيا إلى بوسطن، ولوس انجلس، وسان لويس، وكانساس سيتي، ومن ثم ستخترق حدودها الأمريكية وستضرب كندا وأوروبا. وإن الحركة في مجموعها تعبر عن غضب العاطلين عن العمل إزاء جشع الحكومات والشركات الرأسمالية. وها هي الأزمة اليونانية تتسرب إلى أمريكا وأوروبا الموحدة كلها بفضل وصولها على الأخص إلى بنك ديكسيا (
DEXIA) الفرنسي - البلجيكي الذي تعرض للديون اليونانية والدول الأوروبية الأخرى ذات السيادة في السوق العالمية، وهو لاعب فعال في السندات الأمريكية أيضا. وفيما عدا ذلك، فقد انخفضت أسواق الأسهم في أوروبا وآسيا بشكل حاد وسط مخاوف من تصاعد الأزمة اليونانية إلى أزمة مصرفية في منطقة اليورو كلها، الأمر الذي لا بد أن يؤدي من جديد إلى ركود شامل في الاقتصاد العالمي، فالركود سيعوق بشدة الشحنات من كافة أنواع السلع الاستهلاكية، والإلكترونيات، والكهربائيات، والسيارات، والمواد الأولية. ولهذه التطورات عواقب وخيمة على الاقتصادات الضعيفة الأخرى في منطقة اليورو وهي على الأقل 17 دولة من دول الاتحاد الأوروبي التي ستحتاج قريبًا مساعدة هذا الاتحاد والصندوق النقد الدولي. فما اللعبة المحتملة اللاحقة إذا؟ هل يمكن لليونان إيجاد فانوس السحري، أم أنها مجرد استباق لكارثة عالمية؟

لقد ظهرت في التجربة لا في النظريات: ان وجود الاتحاد الأوروبي، وصندوق النقد الدولي، والأولوية الفورية لتأمين اليورو، وزيادة الضرائب، وسياسة التقشف، وانخفاض قيمة العملات، والاصلاحات السياسية والاقتصادية، وسباق الحكومة اليونانية مع الزمن لتحقيق مطالب المقرضين أو حتى تخليها عن يورو وعودتها إلى الدراخما لا يجلب للعالم أو حتى لليونان وحدها، سوى راحة مؤقتة، فمنطقة اليورو غير قادرة على استعادة قدرتها التنافسية في السوق العالمية إلا بأساليب أخرى. لذلك، فإن تحسين الحالة اليونانية - وهو غير ممكن في الوقت الحاضر ومع الشروط الاقتصادية الحالية للرأسمالية العالمية- لا يعني شيئا بالنسبة للأسواق الدولية. وأدرك الاقتصاديون البرجوازيون أنفسهم، أن الوضع أسوأ بكثير مما كانوا يتخيلونه في الأشهر القليلة السابقة، فعجلت الأزمة بحركة الآلاف من المتظاهرين في أثينا احتجاجا على تدابير التقشف، إلى قلب منظم البورصة الأمريكية في وولستريت، الأمر الذي لا بد أن يعجل بأزمة أكبر وركود أكثر، لا في منطقة اليورو فحسب، بل في العالم أجمع، بما فيه الصين والسعودية واليابان، فما يسمى ببناء الجدار (
Firewall) حول البلدان المذيبة للسوائل مثل البرتغال وإيطاليا وأيرلندة، ليس سوى وهم جديد ولعبة جديدة لخدع الناس، فما نسمعه من الإعلام الرسمي، ليس هو ما يحدث وراء الكواليس، وما حدث في وول ستريت ليس سوى بداية جديدة لنشوء حركة طبقية تخترق حدودها السابقة، فتهديد الوزارات من قبل الجماهير في اليونان لا يعني سوى فتح أبواب جديدة أمام صراع طبقي سيصبح التاريخ العالمي المقبل مسرحه، الصراع الذي سيوضح أكثر فأكثر عجز الليبرالية التام في منع تكرار الصراعات الحاسمة بين القوى الاجتماعية التي تتنازع من جديد حول بقاء هذا النظام الاقتصادي المختل أو فنائه والاستعاضة عنه بنظام إنتاجي خاضع للوعي المشترك والمصلحة المشتركة لكافة أفراد المجتمع، فبقدر تعمق الأزمة المعاصرة، تتراجع الأوهام القومية والليبرالية إلى مؤخرة المسرح الوطني في كل مكان، وتتقدم حركات تضامنية مع شعاراتها الطبقية الجديدة إلى مقدمة المسرح العالمي. وسوف يعود بالتأكيد الشرق الذي ساهم بنضالاته الجماهيرية في تعميق الأزمة العالمية لرأس المال، وسيرفع هذه المرة شعاراته إلى مستوى أعلى من مستوى الليبراليين البرجوازيين الذين لا يستهدفون من كفاحهم سوى إنقاذ الرأسمالية من مأزقها، فيحاول الليبرالييون تفسير الأزمات بخطايا أخلاقية يرتكبها الأفراد، وكأن الأزمات ناتج من سلوك الأفراد لا من قانون اقتصادي خاص بنظام إنتاج الرأسمال، وحسب الليبراليين فمن الممكن للناشطين وممثلي المجتمع المدني الاتفاق على اقتصاد أخلاقي أكثر ملاءمة مع لقمة العيش للفقراء، فالسؤال الذي يشغل بال فلاسفة الأخلاق، هو كيفية إيجاد نظام رأسمالي أكثر إنصافا واستدامة، فمن خلال جعل العالم الليبرالي أكثر أخلاقية، سنجعل من الأرباح أكثر تعاظمًا، وسنجعل النمو الاقتصادي أكثر حرية، وهو الأمر الذي سيفسح المجال لاستخدام صناعة أكثر عقلانية، وتقليل التكاليف في الإنتاج، والازدياد في الموارد الطبيعية، ومن ثم تقليل الفقر، فكأن الأزمات ناتجة من قلة الموارد البشرية لا الكثرة منها.

هكذا يمكن للبشر أن يبحثوا أسباب الأزمة المعاصرة وما تلازمها من الصراعات في فلسفة الأخلاق وعلم اللاهوت، فالتأملات الاخلاقية بمثابة نظرة فاحصة للإنسان وأسراره التي تفرد بها وقدرته على التأثير في مجرى الأمور الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فبدون اتخاذ طريقة أخلاقية في التنمية، لا يمكن القضاء على الفقر وإقامة الرفاهية في المجتمع، لذلك، ففي عالم غارق في المال، والمنتجات، والصناعة، والمدنية، لا يجد فلاسفة الأخلاق حلا للأزمة المعاصرة ومصائبها، إلا في زيادة المال والمنتجات.

وهكذا، فالأمر لدى فلسفة الليبراليين الأخلاقية يتعلق بالحياء، والجهل، والوجدان، والحب الإنساني، والمعرفة الأخلاقية، فبدل نقد شروط الإنتاج والتوزيع، على الإنسان أن ينزع أفكار الشريرة من رؤوسهم ويستعيض عنها بالأفكار الإنسانية الخيِّرة، فالحل تجده الفلسفة في التأملات الأخلاقية الموروثة في الأساس من التأملات الدينية التي تعود جذورها إلى الديانات الشرقية القديمة مثل البوذية والهندوسية والزرادشتية ثم الفلسفة اليونانية القديمة التي استعارت أفكار الخير والشر من هذه الديانات، ففلسفة الأخلاق تجد الحل في إعادة التربية، والتعاليم الأخلاقية، والسعي وراء الفضيلة، ومعرفة علاقة الخير والشر بالسعادة الإنسانية، ومنهج الوصول إليها، فالخير يأتي من المعرفة، من العلم، أما الشر فنتاج الجهل، وكأن الأزمات ونتائجها المأساوية، عاقبة أفعال الأخلاقية للأفراد لا المصالح الاقتصادية والسياسية التي تحكم كل العلاقات البشرية، فبدل النقد الدنيوي للمصالح الدنيوية، يجب إعادة توجيه الرأسمالية لصالح العام من خلال الصدق، والاخلاص، والمنافسة الأخلاقية، والبيع الأخلاقي، علما بأن فلسفة الأخلاق نفسها ليست سوى نتاج الجهل، فالأزمات والصراعات الحادة التنافسية والطبقية الناتجة منها تعبير متحضر عن تطور المدنية والليبرالية السياسية التي تنظمها، وإنها ظاهرة اقتصادية ناتجة من اختلال التوازن لا من أخلاق الأفراد. وإن النظام العالمي معيب اقتصاديا في جوهره، وإن هذا العيب سيدوم ما لم يسيطر البشر على الأسباب التاريخية لهذا الإنتاج المختل، فلا ذكاء إدارة أوباما ولا الأخلاق، يغير شيئا من هذا الجوهر المختل - في المجتمع الذي يقوده أوباما، وصل عدد العاطلين عن العمل إلى 14 مليون وعدد هؤلاء الذين يعيشون في خط الفقر إلى 50 مليون- فالمصدر الأصلي للاختلال هو فوضى المزاحمة، وهي قانون اقتصادي يتعارض في فترات تاريخية معينة، تعارضًا حادًا مع نمو الإنتاج الراسمالي. إن هذا التعارض يجب تجاوزه بالأزمات، فنمو انتاجية العمل يجري بصورة غير متناسبة في الفروع المختلفة للانتاج، وإن هذا النمو يجري في اتجاهات متعارضة بين الرأسماليين أنفسهم واقتسام الغنيمة - أي الربح بينهم - فالربح ونسبته إلى رأس المال، أي ما يسمى معدل الربح، هو الذي يحدد ضرورة توسيع الإنتاج أو الحد منه بدل حاجات البشر الاجتماعية. وهكذا، فالإنتاج يجري كقانون أعمى بدلا من أن ينظمه وعي المنتجين المشترك، وهذا هو الأساس التاريخي للاختلال الاقتصادي لا الأخلاق. لذلك، فلا يمكن القضاء على هذا الاختلال، دون تنظيم الإنتاج حسب خطة موضوعة مسبقة. وهذا الاختلال هو الذي يدفع المجتمع البشري بين الحين والآخر نحو الخروج من دائرة نظام الإنتاجي المعاصر والاستعاضة عنه بإنتاج واعٍ منظم، فمن خلال التجربة يصل المجتمع إلى أن البشر لا يجدون حلا للفقر والبؤس والبطالة في التنمية، وأعمال البر والاحسان، وايجاد فرص العمل، والعاطفة الإنسانية، وقضاء الخير على الشر، وتغيير وجه صدام حسين بالطالباني، وبن علي أو مبارك أو قذافي أو الأسد برؤساء ذات روؤس ليبرالية وأخلاقية، فالأزمة المعاصرة قد تضع بنفسها حدًّا لكل هذا الهراء الفلسفي وتخلف وراءها جيلا يفقد كل ثقة بالليبراليين وأخلاقهم الإنسانية الحقة، وهم الجماهير الموجودين سلفًا في الشوارع ويواجهون عنف الدولة في كل مكان في العالم، في اليونان كتونس، في أمريكا كمصر، في بريطانيا كاليمن، فما يجري في عالم اليوم هو نتاج النظام الليبرالي، فالأزمات وما تلازمها من البطالة والمجاعة، تحدث بسبب وجود فوضى المزاحمة الناتجة من النظام الاقتصادي الليبرالي. إذًا فالأمر يدور حول الاختلال في الاقتصاد الليبرالي لا الصلة بين الفرد والأخلاق، فالمنفعة لا الحق والباطل، والسياسة لا الحب الإنساني، والمصلحة الشخصية لا الصدق، هي التي تحكم العالم وعلاقات البشر ذات مصالح متناقضة، فالمجتمع لا يتغير من خلال تغيير الأفراد أنفسهم، وتغيُّر وجوه الدكتاتورية بوجوه الليبرالية، بل يتغير من خلال الاستعاضة عن هذا الإنتاج المختل بإنتاج منظم. ولكي يتخطى المجتمع البشري أزماته، أو اختلال توازنه الاقتصادي، فلا بد أن يطرح التاريخ أسلوبًا إنتاجيًّا أعلى من الأسلوب المعاصر للإنتاج. وكما نفهمها نحن، فليس الأسلوب الإنتاجي هذا، سوى التعاونيات الاشتراكية الخاضعة للتسيير الذاتي للمجتمع أي الكومونات، فلا إدارة أكثر علمانية، ولا إدارة أعمال أكثر أخلاقية، ولا الإنتاج العقلاني، ولا الحريات المدنية في الشرق، تغير شيئًا من الطبيعة القاسية لهذا الإنتاج المختل، فلا تختفي الأزمات دون اختفاء اختلال التوازن الاقتصادي بصورة مسبقة، وإن اختفاء هذا الاختلال مشروط بظهور أسلوب آخر في الإنتاج أعلى من الأسلوب الرأسمالي للإنتاج، وما هذا الأسلوب إن لم يكن الأسلوب الاشتراكي في الإنتاج؟ ولذلك، فلا بد أن نسمع من جديد إلى هذا الاتجاه التاريخي في حركة الجيش الجماهيرية الواسعة التي ستحرك العالم من جديد نحو هذا الهدف، أي الاشتراكية، الحركة التي لا بد أن تهز العالم من جديد بصرختها الصاخبة: لتعش الاشتراكية!