الثلاثاء، 9 فبراير 2016

الله والدولة 4




ونشير مرة أخرى إلى أن الرسالة الوحيدة للعلم هي إنارة الطريق. فالحياة قادرة على الخلق عندما تُزال كل عوائقها السلطوية والعقائدية وعندما تُمنح حرية الحركة الكاملة.
إذًا كيف سنتمكن من حلِّ هذا التناقض؟
العلم ضروري من أجل التنظيم المنطقي للمجتمع، ولكن من جهة أخرى وبسبب عدم قدرته على الاهتمام بما هو حقيقي وحيٌّ يجب ألّا يتدخل في التنظيم الحقيقي والعملي للمجتمع.
ويمكن حلُّ هذا التناقض بطريقة واحدة فقط؛ وذلك عن طريق تصفية العلم ككينونة أخلاقية متواجدة خارج الحياة بالمطلق ومُمثلة من قبل مجموعة من علماء ذوي امتيازات مفروضة من الجموع. على العلم أن يُمثٍّل الوعي الجمعي ويتحول حقًا إلى ملكية عامة. وبدون أن يخسر شيئًا من سمته الشمولية التي لا غنى له عنها، وبينما يستمر في الاهتمام بالأسباب العامة حصريًا والشروط والعلاقات الثابتة للأفراد والأشياء، سيصبح منسجمًا مع الحياة الحقيقية والحاضرة لكل الأفراد. وستكون هذه الحركة مشابهة لما قيل للبروتستانت إبان بداية حركة الإصلاح حول عدم الحاجة بعد الآن إلى كهنة قوامون على الإنسان الذي سيكون كاهن ذاته، والفضل طبعًا يعود ليد يسوع الخفية الذي تمكن في النهاية من ابتلاع ربِّه الخيِّر. لكن المسألة هنا لا دخل لها بيسوع المسيح ولا بالربِّ الخيِّر ولا بالحرية السياسية ولا الحقوق الشرعية وكل الأمور المُنزَّلة لاهوتيًا وميتافيزيقيًا، فمن الصعب هضم كل هذه الأمور. فعالم المجردات العلمية ليس مكشوفًا بل هو متأصل في العالم الحقيقي الذي يشكِّل لوحده العالم الشامل أو التعبير المجرَّد. وطالما يؤسس العلم لنفسه منطقة خاصة يمثِّلها بشكل خاص مجموعة من العلماء فإن هذا العالم المثالي الذي يوجده يهدد بأخذ مكانة الله الخيِّر في العالم الحقيقي وسيكون ممثلوه المرخص لهم آنذاك كهنة. لهذا السبب من الضروري بمكان تفكيك التنظيم الاجتماعي الخاص بالعلماء بأمرٍ عام وينطبق الأمر على كل الأشياء. وبالتالي تتوقف الجموع عن كونها قطيع مُسيَّر ومُسيطر عليه من قبل كهنة ذوي نفوذ. وهذا سيجعلهم يأخذون بأيدي بعضهم البعض باتجاه مصائرهم[1].
ولكن حتى تصل الجموع إلى درجة تحقيق مثل هذا الأمر، فهل من الضروري أن نتركهم تحت سلطة رجال العلم؟ بالطبع لا. فسيكون من الأفضل لهم أن يستغنوا عن العلم بدلاً من أن يسمحوا للعلماء أن يحكموهم. وما سينجم عن فرض سلطة هؤلاء العلماء هو تحويل العلم إلى ميدان غير متاح للناس، وستصبح سلطتهم سلطة برجوازية وقد غدت المؤسسات العلميَّة الحالية أرستوقراطية بجوهرها. إنها أرستوقراطية التعلم! ومن وجهة النظر العمليَّة سيكون هؤلاء العلماء الأكثر تعنتًا، ومن وجهة النظر الاجتماعية سيكونون الأكثر غطرسة والأوقح. هكذا سيكون شكل السلطة التي ستتحقق تحت شعار العلم. وسيكون بمقدور هذا النظام شلَّ الحياة وحركة المجتمع. وسيغدو العلماء وقحين دومًا ومغرورين وعاجزين، وسيرغبون بالتدخل في كل شيء، وستنضب مصادر الحياة تحت وطأة تجريداتهم.
نكرر مرة أخرى أنَّ الحياة فقط تخلق الحياة، والفعل العفوي للناس أنفسهم فقط يخلق حريتهم. سيكون أمرًا جيدًا بالطبع لو تمكن العلم، ابتداءً من هذا اليوم، من إضاءة طريق المسيرة العفوية للشعوب نحو انعتاقهم. ولكن إن خُيِّرنا فالأفضل أن يغيب العلم بدلاً من نشر ضوءٍ ضعيف ومُضلِّل، أضيء فقط لتضليل من يتبعه. ورغم هذا فالشعوب لن تنقصها الإنارة. وليس عبثًا أنَّ هذه الشعوب تجاوزت مسيرة تاريخية طويلة ودفعت قرونًا من البؤس ثمنًا لأخطائها. والخلاصة العملية لتجاربهم المؤلمة هي نوع من العلم التقليدي الذي في جوانب معينة يساوي العلوم النظرية. وأخيرًا، على شريحة من الشباب، من الطلاب البرجوازيين ممن يشعرون بالحقد الكافي تجاه كذب ونفاق وظلم وجبن البرجوازيين، أن يجدوا الشجاعة في إدارة ظهورهم لهؤلاء البرجوازيين، وأن يجدوا الشغف الكافي لاحتضان القضية العادلة والإنسانية للبروليتاريا دون تحفظ. هؤلاء الشباب سيكونون، كما قلت لتوي، الأخوة المعلمين للشعوب، وبفضلهم لن يكون هناك داعٍ لسلطة العلماء.
وإن وعت الشعوب حقيقةَ سلطة العلماء فسيقدمون أكثر مما قدمه المثاليون المُلهمون؛ فكلما زادت أصولية المؤمنين وشعراء الجنة كلما أصبحوا أكثر خطرًا. وكما قلت سابقًا فالتجريد العلمي هو تجردي عقلاني وحقيقي في جوهره وضروري للحياة ويسعنا القول إنَّ ممثلها النظري هو ضميرها. ولا بدَّ لها من أن تهضمها الحياة. ففكرة الله، تلك الفكرة المجردة المثالية، أشبه بالسُّمِّ المُهلك الذي يدمر ويفكك الحياة ويشوهها ويقتلها. وكبرياء المثاليين ليس شخصيًا بل إلهيًا لذلك فهو منيع ومتصلب، ولهذا يجب أن ينتهي ولكنه لن يذعن لذلك حتى الرمق الأخير وسيواظب على إخضاع البشر لإلههم. وأكبر مثال على ذلك ضباط بروسيا، مثاليو ألمانيا العمليين ومن يحبون رؤية الناس مسحوقين تحت نعل إمبراطورهم. ويحصل الأمر عينه مع الإيمان. وستختلف النهاية قليلاً لكن النتيجة ستكون ذاتها ألا وهي العبودية.
هذا سيكون بمثابة انتصار لأبشع وأقسى أنواع الماديَّة. فعقلنا وسليتنا للتفكير والتلقي والتمحيص في المشاعر الخارجية والداخلية المختلفة، ولتذكرهم وإعادة خلقهم عبر المخيلة ومقارنتهم والتمييز بينهم، وتجريد الأحكام الشائعة لهم وبالتالي خلق المفاهيم العامة وأخيرًا صياغة الأفكار من خلال المفاهيم الجامعة وفق منهجيات مختلفة. فالذكاء، باختصار، الخالق المثالي الوحيد لعالمنا، وهو ملكية الجسد الحيواني وملكية الوجود المادي للدماغ على وجه الخصوص.
نحن من كل بدٍّ نعلم هذه الحقيقة من خلال التجربة التي لم تناقضها أية حقيقة، وهذه التجربة يستطيع كل إنسان إثباتها في أية لحظة من حياته. ففي كل الحيوانات، دون استثناء الأنواع الثانوية، نجد درجة معينة من الذكاء وبالتالي نلاحظ في سلسلة الأنواع أن الذكاء الحيواني يتطور تناسبيًا كلما اقترب تنظيم الأنواع من التنظيم البشري، ولكن ذكاء الإنسان يملك القدرة على التجريد المؤسس للفكر غالبًا.
وتُظهر لنا التجربة العالمية[2]، المصدر الوحيد للمعرفة، أنَّ الذكاء مرتبط دومًا بجسمٍ حيواني من نوع ما، وبأن شدة وقوة هذه الوظيفة الحيوانية تعتمد على الكمال النسبي للكائن الحيِّ. وآخر نتائج هذه التجربة العالمية قابلية تطبيق هذا على كافة الأنواع الحيوانية وبالتالي هي قابلة للتطبيق أيضًا على الإنسان ممن تعتمد ملكاته العقلية والأخلاقية على درجة كمال الكائن الحي كجنس وكقومية وكطبقة وكأفراد ولهذا ليس من الضروري التركيز على هذه النقطة[3].
يتضح من جهة أخرى قدرة أي إنسان على رؤية العقل الخالص مفصولاً عن شكله الماديِّ ويتواجد بشكل منفصل عن أي جسد حيواني مهما كان نوعه. وإن لم يتكمن أي إنسان من رؤيته فكيف تأتى له الإيمان بوجوده؟ وحقيقة هذا الإيمان مؤكدة، وإن لم تكن عالمية كما يتصور جميع المثاليين، فهي على الأقل حقيقة عامة جدًا. وبناءً على هذا فهي تستحق حقًا اهتمامنا الشديد. فالاعتقاد العام مهما كان سخيفًا يحقق نوعًا من السيطرة الفعالة على قدر البشر ويحذرنا من مغبة تجاهله أو إقصاءه.
علاوة على ذلك فإن تبرير هذا الاعتقاد منطقي جدًا. وتُظهر لنا الأمثلة التي يقدمها الأطفال والشباب وحتى العديد من الناس ممن تجاوزوا سن الرشد، قدرة الإنسان على استخدام ملكاته العقلية لوقت طويل قبل أن يستطيع تقديم تفسير لكيفية عملها وقبل أن يتضح وعيه بها. وخلال هذه السيرورة غير الواعية للعقل وعمل الذكاء النقي والمؤمن يخلق الإنسان، هذا الإنسان المأخوذ بالعالم الخارجي والمدفوع بذلك الهدف الداخلي المعروف بالحياة وضروراتها العديدة، مجموعة من التصورات والمفاهيم والأفكار الناقصة بالضرورة في البداية والمتماثلة قليلاً مع واقعية الأشياء والحقائق التي تحاول وصفها. ولأنه غير واعٍ بعمل ذكاءه وغير مدرك لحقيقة أنه من ينتج هذه التصورات والمفاهيم والأفكار، وجاهلٌ أنها بالمجمل ذاتية لكونها ذات مصدر بشري، لا بدَّ له وبشكل طبيعي من اعتبارها كينونات موضوعية؛ كينونات حيَّة ومستقلة عنه وتوجد بذاتها وفي ذاتها.
وهكذا خلقت الشعوب البدائية الصاعدة ببطء من براءتها الحيوانية، الآلهةَ. ولأنهم من خلقوا هذه الآلهة ودون أن يشكوا أنهم الصانعون الحقيقيون لها أخذوا يعبدونها، ونظروا إليها ككائنات حقيقية وسامية أبدًا ومنحوها القدرة الكليَّة، وأقروا أنهم مخلوقات وعِباد هذه الآلهة. ومع تطور الأفكار البشرية أصبحت هذه الآلهة، وكما قلت سابقًا، الانعكاس العظيم والمثالي والشاعري أو الصورة المعكوسة مثالية أيضًا. في البداية كانت الآلهة الفيتشية فاضحة ولكن شيئًا فشيئًا تحولت إلى أرواح نقية متواجدة خارج العالم المرئي، وفي النهاية وعبر مسار التطور التاريخي الطويل تم اختصارهم إلى كينونة مقدسة وطاهرة وأبدية وذات روح مطلقة وخالقة وسيدة العوالم.
وفي كل تطور مهما كان عادلاً أو مخادعًا، حقيقي أو مُتخيَّل، جمعي أو فردي، كانت الخطوة الأولى والحركة الأولى الأصعب أبدًا. وعندما يتم تخطي تلك الخطوة سيأتي التالي بشكل طبيعي وكنتيجة ضرورية. كانت الخطوة الأصعب في التطور التاريخي لهذا الجنون الديني المريع والماضي في امتلاكنا وسحقنا، وضع مثل هذا العالم الإلهي خارج العالم. ولم يتحقق أول عمل من أعمال الجنون، الطبيعي جدًا من وجهة النظر الفيسيولوجية والضروري في تاريخ البشرية، بضربة واحدة فقط. ولا أعلم عدد القرون التي تطلبها ليتطور هذا المعتقد ويملك تأثيرًا مسيطرًا على العادات العقلية للإنسان. ولكن عندما تأسَّست هذه العادات أصبحت مطلقة القدرة كما تصبح كل فكرة مجنونة عندما تأخذ بملكة العقل البشري. فلنأخذ على سبيل المثال الإنسان المجنون بغض النظر عن سبب جنونه، ستبدو تلك الفكرة الغريبة والثابتة التي تتملكه الشيء الأكثر طبيعية في العالم، وستبدو الأشياء الحقيقية التي تناقض هذه الفكرة حماقات سخيفة وبغيضة. على أي حال يمكن اعتبار الدين حالة جنون جماعي وعظيم في قوته لأنه سخافة تقليدية ولأنه جذوره ضائعة في عمق الأزمنة السحيقة. وكجنون جماعي فقد اخترق الدين كل أعماق الوجود البشري العام والخاص؛ فهو مُجسَّد في المجتمع وأصبح، إن جاز التعبير، الروح والفكر الجمعي. ومنذ ولادته يُغلَّف كل إنسان بالدين ويرضعه مع حليب أمه ويمتصه في كل شيء يلمسه وكل شيء يراه. فهو يعتاش عليه حصريًا ولذلك فهو مسمم به ويخترق وجوده بالكامل. وهذا ما يدفعه لاحقًا بغض النظر عن مدى قوة عقله الطبيعي أن يقوم بجهود كبيرة لتخليص نفسه منه، وحتى عندما يفعل لا ينجح تمامًا. لدينا دليل واحد على هذا بين مثاليينا المعاصرين وآخر هؤلاء الماديين الدوغمائيين الشيوعيون الألمان. فهم لم ينجحوا في التخلص من ذلك الدين الذي اسمه الدولة.
عندما ترسَّخ عالمُ ما فوق الطبيعة، أي عالم الألوهية، في مخيلة الشعوب، اتخذت المنظومات الدينية المتعددة مسارها الطبيعي والمنطقي. وانسجمت بالكامل مع التطور الحديث للعلاقات الاقتصادية والسياسية التي سادت في كل العصور وفي عالم الخيال الديني والتقليد الواضح والترسيم الإلهي. بهذه الطريقة ومنذ الفيتشية (الشيئية) تطور هذا الجنون الجمعي والتاريخي الذي يُطلق على نفسه تسمية الدين، ومرَّ بكل المراحل الإيمانية؛ من الإيمان بالآلهة إلى التوحيد المسيحي.
ومن دون أدنى شك كانت الخطوة الثانية في تطور العقائد الدينية الأصعب، وهي تتمحور حول تكوين عالمٍ إلهي منفصل عن العالم البشري. هذا الانتقال من الإيمان بعدة آلهة إلى التوحيد، من المادية الدينية للوثنيين إلى الإيمان الروحي المسيحي. فالآلهة الوثنية كانت آلهة قومية بالمطلق. وكانت هذه الآلهة متعددة جدًا لكونها آلهة مادية، والتنوع هو أحد السمات الرئيسية للعالم الحقيقي. ولم تكن الآلهة الوثنية نفي حاسم للأشياء الحقيقية بل كانت فقط تضخيمًا خارقًا لها.
وقد كان هذا الانتقال للشعب اليهودي قاعدة أسَّس عليها تاريخه بالكامل. وبشَّر موسى والرُسل بالإله الواحد ولكن الناس ما فتأوا يرتدون إلى عبادتهم البدائية، إلى ايمانهم القديم والطبيعي والمريح لوجود آلهة عديدة خيِّرة؛ آلهة ماديَّة وأكثر إنسانية ومحسوسة. وكان يهوه نفسه، ربهم الوحيد وربُ موسى والرُسل، لا يزال ربًا قوميًا بالمطلق. هذا الرب الذي يكافئ ويُعاقب أتباعه المخلصين، شعبه المختار، بالاستناد إلى حجج ماديَّة، في الغالب حجج غبية ودائمًا ما تكون مقززة ووحشية. ولا يبدو أن الإيمان بوجوده يعني نفيًا لوجود آلهة سابقة. ولم يُنكر رب اليهود وجود هؤلاء المنافسين فهو ببساطة لم يكن يريد لشعبه أن يعبدونهم معه، فيهوه في النهاية ربٌ غيور. وكانت وصيته الأولى: "أنا الربُّ إلهُك، لا يكن لك آلهة أخرى أمامي"*.
كان يهوه آنذاك نسخة أولية وماديَّة وخشنة جدًا عن المعبود الأسمى للمثالية المعاصرة. إضافة إلى ذلك فقد كان ربًا قوميًا تمامًا كالقيصر، الرب الروسي، وقادته - أتباعه المخلصون وأبطال الإمبراطورية الروسية. كان ربًّا كالرَّب الألماني ويليام الأول وأتباعه من الورعين والقادة الألمان. ولا يمكن أن يكون القائد الأسمى ربًا قوميًا فهو من كل بد يجب أن يكون ربًا للبشرية بأكملها. ولا يمكن أيضًا أن يكون الوجود الأسمى كينونة مادية؛ لا بدَّ أن يكون نفيًا للمادة وروحًا نقية. وقد تم إثبات أمرين ضروريين من أجل الوصول إلى عبادة الكائن الأسمى:
1.    إدراك الإنسانية من خلال نفي الأشكال الأممية وغير الأممية للعبادة.
2.    تطور متقدم كثيرًا للأفكار الماورائية من أجل روحنة (جعله روحيًا) يهوه اليهود.
وقد حقق الرومانيون الشرط الأول، بطريقة سلبية دون شك، من خلال غزو كافة المناطق التي عاش فيها القدماء وتدمير كل مؤسساتهم القومية. وجمعوا كل آلهة البلدان المُحتلة في البانثيون (هيكل الآلهة) وهذا بدروه ألغى وجودها. كانت هذه النسخة الأولية للإنسانية وهي نسخة مقززة وسلبية تمامًا.
وبالنسبة للشرط الثاني فقد تحقق من خلال روحنة يهوه على يد الإغريق قبل أن يحتلَّ الرومان بلدهم. فالإغريق من أوجدوا الميتافيزيقيا وأخذوا في مطلع تاريخهم من الشرق فكرة العالم الإلهي القائم على الإيمان التقليدي الشعبي به. أخذ الشرق هذا العالم وسلًمه لليونان. وفي انطلاقتها وقبل بداية تاريخها السياسي طورت اليونان و"أنسنت" بشكل رائع هذا العالم الإلهي من خلال شعرائها. وعندما بدأت تاريخها الحقيقي كانت لديها دينٌ جاهزٌ؛ أنبل وأرحم دين من بين جميع الأديان التي ظهرت أبدًا، أو ربما كان شبيهًا بالدين فالأديان في النهاية ليست سوى كذبة ولذلك لا يمكن أن تكون نبيلة أو رحيمة. كانت اليونان الأمَّة الوحيدة التي امتلكت مثل هؤلاء المفكرين ممن لم يضعوا العالم الإلهي خارج أنفسهم وفي الناس بل أوجدوه في أنفسهم كعادة إحساس وتفكير وبذلك كانت نقطة انطلاقهم الطبيعية. وهم بذلك لم يصنعوا لاهوتًا وكان لصالهم أنهم لم ينتظروا عبثًا كي يتحقق توافق بناءً على سخافات يصنعها هكذا إله كما فعل فلاسفة العصور الوسطى. فقد وضعوا الآلهة بعيدًا عن أفكارهم وربطوا أنفسهم بشكل مباشر بالفكرة الإلهية، تلك الفكرة اللامرئية والكلية القدرة والأبدية والروحية بالمطلق ولكن المجردة. وفيما يتعلق بالروحانية كان دور الميتافيزيقية اليونانية أكبر من دور اليهود في خلق الإله المسيحي. وما فعله اليهود فقط هو إضفاء شخصية عنيفة ليهوهم.
ويثبت لنا اقتناع العبقري الجليل أفلاطون بواقعية الفكرة الإلهية كم هو معدٍ وعظيم القدرة إرث الجنون الديني حتى على العقول العظيمة. ولكن لا يجب أن يُدهشنا ذلك ففي وقتنا حاول هيغل، وهو من أعظم العقول الفلسفية بعد أرسطو وأفلاطون ومن قضى على محسوسية وواقعية الأفكار الإلهية رغم نقد كانط المعيب والتجريدي جدًا له، أن يستبدل الأفكار الإلهية في عرشها السماوي المتعالي. في الحقيقة مضى هيغل في عمله بطريقة فظَّة قتلت الرَّب الخيِّر للأبد. فقد سحب من هذه الأفكار هالتها المقدسة من خلال البرهنة لأي شخص سيقرأ له أن البشر ليسوا سوى نتاج العقل البشري الساعي عبر التاريخ إلى إيجاد عن ذاته ووضع نهاية لكل الحماقات الدينية والأوهام الألوهية. ولم يُهمل هيغل شيئًا سوى الكلمات العظيمة للعبارة التالية التي قالها من بعده أو ربما قالها في الوقت نفسه عقلين عظيمين لا يعرفان بعضهما البعض؛ الأول تلميذ هيغل لودفينغ فيورباخ في ألمانيا والثاني أوغست كونت مؤسس الفلسفة الوضعية في فرنسا:
"تُختصر الميتافيزيقيا إلى علم النفس"، "فالمنظومات الميتافيزيقية ليست سوى علم نفس بشري يطور ذاتها في التاريخ".
ولم يعد من الصعب في يومنا هذا استيعاب كيفية ولادة الأفكار الإلهية وكيف تخلقها بالتعاقب الملكة التجريدية للإنسان. فالإنسان من صنع الآلهة، ولكن مثل هذه المعرفة في زمن أفلاطون كانت مستحيلة. فالعقول الجمعيَّة وبالتالي العقل الفردي أيضًا وحتى أعظم العقول لم تكن ناضجة بما يكفي وقتذاك.
وبالكاد قالها سقراط في عبارته: "اعرف نفسك!" هذه المعرفة الذاتية وجدت فقط بشكل معرفة حدسية ولم ترقى في الحقيقة إلى أي شيء. وبالتالي كان مستحيلاً على العقل البشري الشك أنه الخالق الوحيد للعالم الإلهي. فقد أسس هذا العقل العالم الإلهي، أسسه كتاريخ، كإرث، كوجدان، كعادة تفكير، وهذا بالضرورة ما جعله موضوعًا بعيدًا جدًا عن تبصراته. هكذا ولدت الميتافيزيقيا وتطورت واكتمل أساس الروحية باكتمال الأفكار الإلهية.
بعد أفلاطون كان هناك نوعًا من الحركة الكونية في تطور العقل. ولم يُنكر أرسطو، المؤسس الحقيقي للعلم والفلسفة الوضعية، وجود العالم الإلهي ولكنه بالكاد اهتم بالأمر. وكان أول من درس، كمحلل وخبير، المنطق وقوانين الفكر البشري والعالم المادي ولكن ليس بجوهره المثالي والوهمي بل بجوهره الواقعي. وقد أسس إغريق الإسكندرية أول مدرسة للعلماء الوضعيين. كانوا ملحدين ولكن لم يكن لإلحادهم تأثير على مُعاصيرهم. ونحى العلم إلى عزل نفسه شيئًا فشيئًا عن الحياة. بعد أفلاطون رفضت الميتافيزيقية الأفكار الإلهية وكان الأبيقوريين والمشككون أصحاب الفضل في تقويض الأرستقراطية ولكن لم يكن لهم تأثير على الجموع.
وتشكلت مدرسة أخرى أكثر تأثيرًا من الأولى. كانت مدرسة للأفلاطونيين الجدد ممن فندوا الأوهام الرهيبة للشرق باستخدام أفكار أفلاطون وكانوا المؤسسيين الحقيقيين وساهموا لاحقًا في تشكيل العقائد المسيحية.
كانت العناصر التاريخية الثلاثة التي أسست الدين الروحي للمسيحيين:
-       أنانية يهوه الشخصية والمقززة.
-       الغزو الروماني الوحشي والمقزز.
-       التفكير الميتافيزيقي المثالي للإغريق الذي نجمَ عن احتكاكهم بالشرق.
وعلى مذبح الرب الواحد والأسمى وأنقاض المذابح الكثيرة للآلهة الوثنية رُفعت استقلالية أمم عديدة، فقد وجب أولاً تدمير العالم الوثني أو العالم القديم. وقام الرومان بالأمر بوحشية شديدة، بعد أن احتلوا القسم الأكبر من العالم كما عرفه القدماء ووضعوا أساسات مقززة وسلبية من كل بد للبشرية. وبالتالي تم وضع الله فوق كل الاختلافات القومية والمادية والاجتماعية لكافة البلدان. وكان الله بطريقة ما نفيًا لكل هذه الاختلافات وتوجب بالضرورة أن يكون كائنًا مُجردًا غير مُجسَّد ماديًا. ولكن الإيمان بوجود هذا الكائن، وهو أمر صعب، لم يأتِ بشكل مفاجئ. فكما عرضت في الهوامش مرَّ هذا الإيمان بطريق طويل من التحضير والتطوير على يد الميتافيزيقيين الإغريق - أوائل من أسسوا، بأسلوب فلسفي، مفهوم الفكرة الإلهية؛ وهي نموذج خلاق يعيد العالم المحسوس إنتاجه على الدوام. ولكن الألوهية التي أوجدتها وخلقتها الفلسفة الإغريقية كانت ألوهية مجرَّدة. فلا يوجد كائن ميتافيزيقي منطقي وجديٌّ قادر على الارتقاء، أو بالأحرى الهبوط، إلى فكرة ربٍّ شخصي. وأصبح من الضروري تخيل ربٍّ واحد وشخصي جدًا في الوقت عينه. وأُوجد الرب، الربُّ القومي بشخص يهوه العنيف والأناني والقاسي، اليهود ممن تميزهم اليوم وحتى قبل ميلاد المسيح روح قومية خاصة، وهم الشعب الأكثر عالمية من حيث الانتشار، فبعضهم أُخذ كأسرى والكثير منهم يملك شغفًا تجاريًا وهذه سمة أساسية في شخصيتهم. وحملوا معهم إلى جميع البلدان التي انتشروا فيها إلههم الذي كلما أخلصوا له ابتعد عنهم أكثر.
وفي الإسكندرية تعرَّف إله اليهود الرهيب شخصيًا على الألوهية الميتافيزيقية التي أوجدها أفلاطون وأفسدها الاتصال بالشرق إلى جانب أنها أصلاً فاسدة بحد ذاتها. ورغم الخصوصية القومية والحسودة والعنيفة لم يتكمن من مقاومة فضائل هذه الألوهية المثالية والمتجردة الخاصة بالإغريق لذلك تزوجها ومن هذا الزواج ولدَ الربُّ المسيحي الروحي. من المعلوم بأن الأفلاطونيين الجدد في الإسكندرية هم مؤسسو اللاهوت المسيحي الحقيقيون.
بغض النظر عن ذلك فاللاهوت لوحده لا يصنعُ دينًا بالطريقة نفسها التي لا تكفي العناصر التاريخية لصناعة تاريخ. وأعني بالعناصر التاريخية هنا الشروط العامة التي تدخل في أي تطور حقيقي مهما كان نوعه، على سبيل المثال غزو الرومان للعالم وإلتقاء ربِّ اليهود مع الألوهية المثالية للإغريق. وتحتاج هذه العوامل التاريخية حتى تصبح قادرة على خلق تاريخ المرور عبر سلسلة من التحولات التاريخية الحديثة لتصبح حقيقة حيَّة وطبيعية. وبدون هذه الحقيقة الحيَّة والطبيعية ستبقى هذه العناصر لقرونٍ عناصرًا عقيمة. ولم تفتقد المسيحية هذه الحقيقة وتجلت في الدعاية والشهادة وموت المسيح.
ولا نعرف عن هذه الشخصية العظيمة والطاهرة سوى ما يخبرنا به الإنجيل عن كونه شخصية مختلفة ومذهلة جدًا لدرجة بالكاد يمكننا أن نضع يدنا على سمة حقيقية وحيوية له. ولكن من كل بد كان مُبشرًا بين الفقراء وصديق وسلوان البؤساء والجاهلين والعبيد والنساء اللواتي أحببنه كثيرًا. وقد وعد كل المضطهدين ومن يعانون على الأرض وكثيرون غيرهم بالحياة الأبدية. وقد صُلب من قبل ممثلي الأخلاقية الرسمية والنظام العام في تلك المرحلة، ونجح حواريه ومريدوهم بالانتشار بفضل تفكك حدود الإمبراطورية الرومانية ودعوا إلى المسيحية في كل البلدان المعروفة للقدماء. واستقبلوا في كل مكان بالترحاب؛ استقبلهم العبيد والنساء، أكثر الفئات اضطهادًا ومعاناة وجهلاً في العالم القديم. ويدين هؤلاء المبشرون على قلة عددهم ومن صنعوا عالمًا متنورًا ذي امتيازات بشكل كبير لدور النساء. وقد خاطبت دعايتهم الناس الأقل حظًا ومن حطت العبودية من قدرهم. وهذه كانت الصحوة والثورة الفكرية الأولى للبروليتاريا.
ويكمن أعظم شرفٍ للمسيحية وميزتها الأكيدة والسر الكامل وراء انتصارها الغير مسبوق ولكن الشرعي جدًا في حقيقة أنها جذبت جمهورًا هائلاً من المعذبين ممن حرمهم العالم القديم بأرستقراطيته الفكرية والسياسية المتشددة والعنيفة. ولولا هذا الجمهور لم تكن المسيحية لتنتشر. ورغم أن العقيدة التي نقلها حواري المسيح عنه عقيدة سلوان تستهدف الأقل حظًا، لكنها كانت ثورية وغريبة وفقًا للمنطق البشري ولاقت قبولاً حتى من قبل المتنورين. ووفقًا للسعادة التي يتكلم بها الحواري بطرس عن فضيحة الإيمان (scandale de la foi) - ما كتبه القديس بطرس عن الإيمان الوثني - وانتصار الإيمان الإلهي الذي رفضه قادة وحكماء القرن وقبله بشغف البسطاء والجاهلون.
لا بدَّ أن يوجد في حقيقة الأمر استياء عميق من الحياة وعطش شديد للحب وفقر مدقع في الفكر لضمان قبول السخافات المسيحية؛ السخافات الأكثر وقاحةً وشناعةً من بين كل السخافات الدينية.
وهذا لم تكن هذه السخافات نفيًا للمؤسسات السياسية والاجتماعية والدينية القديمة، بل كانت انقلابًا على الحس السليم وعلى المنطق البشري. فلم يكن للكائنات الحية والعالم الحقيقي أدنى اعتبار أي لا وجود لهم، بعيدًا عن الكائنات الموجودة وحتى بعيدًا عن حتميات الكائنات الحية عمومًا وعن أفكار المكان والزمن دون أن تترك شيئًا لتحقيق أي تقدم كل ما ركزت عليه ملكة التجريد البشرية تأمل فراغ وجمود منتجها المجرد. وأصبح الله ذلك التجريد الخالي تمامًا من أي محتوى والعدم الحقيقي الكائن الحيُّ والأبدي والقدير الوحيد. بينما البقية الحقيقية ليس لهم وجود بالمطلق. وبذلك أصبح للظل جوهرًا وتراجع الجوهر كظل[4].
وكان هذا وقاحة وسخافة لا يمكن وصفهما، وفضيحةَ الإيمان الحقيقية وانتصارًا للغباء الشديد على العقل بين الجموع، وكان للقلة مفارقة حقيقية أتى بها عقل متعب وهائم وواقعي ومتقزز وفي حالة بحثٍ صادقة وجادة عن الحقيقة. لذلك غالبًا ما شعرت بعض العقول المتخمة بتلك الحاجة إلى هزِّ الفكر والتحول إلى الغباء الشديد:
العقيدة سجنُ السخافات
أؤمن بالسخف؛ أؤمن به لأنه ببساطة سخيف. وبالمثل يؤمن العديد من المميزين والمتنورين في عصرنا هذا بالجاذبية الحيوانية والروحانية. ولن نذهب بعيدًا فهم يؤمنون بالمسيحية والمثالية والله.
وكان إيمان البروليتاريا القديمة والمعاصرة أيضًا أقوى وأبسط وكان ذوقهم أكثر تواضعًا. وقد لاقت الدعاية المسيحية القبول في قلوبهم وليس في عقولهم. قبلوا بها من أجل تطلعاتهم وحاجاتهم ومعاناتهم وعبوديتهم وليس لمنطقهم الذي لا يزال نائمًا وبالتالي لا يعرف شيئًا عن التناقضات المنطقية والسخيفة فيها. كانوا مهتمين فقط بحلول ساعة الخلاص الموعود ومتى ستتحقق مملكة الرب. أمَّا بالنسبة للعقائد اللاهوتية فلم تكلف نفسها شيئًا بخصوصها لأنه لم تفهمها. وتحولت البروليتاريا إلى المسيحية التي رسخت قوتها الماديَّة ولكن لم تزد من قوتها الفكرية.
وبالنسبة للعقائد المسيحية فمن المعلوم أنها وضعت على شكل سلسلة أعمال لاهوتية وأدبية في المجالس، خصوصًا في مجالس الأفلاطونيين الجدد في المشرق ممن تحولوا إلى المسيحية. وبذلك بدأ انحطاط الفكر الإغريقي لدرجة أنه وفي القرن الرابع من الفترة المسيحية والمجلس الأول لاقت فكرة وجود ربٍّ مُجسد وطاهر وأبدي وصاحب عقل مطلق وخالق وسيد أسمى خارج العالم إجماع آباء الكنيسة. وكنتيجة منطقية على هذه السخافة المحضة أصبح من الطبيعي بل من الضروري الإيمان بلاماديَّة وفناء الروح الإنسانية المحبوسة في جسدٍ فانٍ جزيئًا، وفي هذا الجسد ذاته جزء مادي ولكن فانٍ كالروح مثلاً ولا بدَّ أن يتحقق انعتاق هذه الروح داخل هذا الجسد. ترون صعوبة الأمر، حتى بالنسبة لآباء الكنيسة، صعوبة خلق عقول صافية خارج أي صيغة مادية. لا بدَّ هنا من الإضافة إذًا أنَّ سمة الجدل الميتافيزيقي واللاهوتي هي السعي لشرح سخافة باستخدام سخافة أخرى.
وكان من حظ المسيحية أنها أتت في عالم العبيد، وحالفها الحظ أيضًا مع غزو البربريين ممن كانوا جديرين بالتقدير وأصحاب قوة طبيعية، وفوق كل هذا تدفعهم حاجة ملحة للحياة وقدرة عظيمة لها. وصمد هؤلاء البربريون أمام كل امتحان بقدرتهم على التحطيم وابتلاع كل شيء. كانوا تمامًا كأحفادهم، الألمان في يومنا هذا، ولكنهم بشكل أقل منهجية وحذلقة وأخلاقية ودراية ولكن من جهة أخرى أكثر استقلالاً وكبرياءً ولهم قدرة برجوازيي ألمانيا المعاصرة على التعلم والتحرر. ولكن رغم كل السمات العظيمة ظلوا في النهاية برابرة. وهذا لم يكن مسألة من المسائل اللاهوتية والميتافيزيقية كما في مسألة العبيد القدماء ممن يعود أصل الكثير منهم إلى هؤلاء البرابرة. ولذلك عندما تخلصوا من كرههم وازدرائهم الحقيقي لم يكن صعبًا تحويلهم فكريًا إلى المسيحية.
وتمكنت المسيحية المسلحة على مدى عشر سنين من بسط السيطرة الكاملة للكنيسة والدولة، وفي غياب وجود أية معارضة تمكنت من الحط وتشويه وإفقار الفكر في أوروبا. لم يكن هناك أي منافس لها، فخارج الكنيسة لم يكن هناك أي مفكرون أو متعلمون. فهي كانت المفكر والمتكلم والكاتب الوحيد وهي وحدها فقط من كان يُعلِّم. ورغم خروج الهرطقات من صلبها إلا أنها لم تؤثر سوى على التطور اللاهوتي والعملي للعقيدة الأساسية وليس على العقيدة بحد ذاتها. وبقي الإيمان بالله - الروح النقية وخالق العالم والإيمان بلاماديَّة الروح - سليمًا. وأصبح هذا الإيمان المزدوج قاعدة للحضارة الشرقية والغربية في أوروبا. فقد تغلغلت ووجدت لنفسها مكانًا في كل مؤسسة وفي كافة الأمور الدقيقة للحياة العامة والخاصة لكل الطبقات وللجموع أيضًا.
إذًا هل من المدهش أن يعيش هذا الإيمان حتى يومنا هذا مستمرًا في فرض تأثيره السيء حتى على المُصطفين من أمثال مازيني وميشليت وكونت وغيرهم كثيرون. وقد أتت هذا الإيمان الضربة الأولى في عصر النهضة من قبل أحرار القرن الخامس عشر، هذا القرن الذي أنجب أبطالاً وشهداءً كفانيني Vanini وجيوردانو برونو Giordano Bruno وغاليليو Galileo. ورغم أنها ضاعت وسط ضجة واضطرابات وآلام حركة الإصلاح لكنها استمرت بكل هدوء في عملها الخفي تورِّث ذوي العقول النبيلة من كل جيل مهمة الانعتاق البشري من خلال تدمير السخافات حتى النصف الثاني من القرن الثامن عشر عندما أعلنت عن نفسها في وضح النهار وهي تلوح بجرأة علم الإلحاد والماديَّة.
قد يفترض أحدهم أن العقل البشري يمكنه أن يعتق نفسه من كل الوساوس الإلهية، ولكن ليس هذا ما حصل بالضبط. فقد حاولت الكذبة الألوهية التي تغذت عليها البشرية على مدى ثمانية عشر قرن (نتكلم عن المسيحية فقط) مرة أخرى أن تستعرض قوتها وأنَّها أقوى من الحقيقة البشرية. ولأنها لم تعد تستطيع استخدام الغربان ممن ترسمهم الكنيسة - وأعني هنا رجال الدين البروتستانت والكاثوليك ممن فقدت الثقة بهم - استعانت بكهنة أخرين كاذبين وسفسطائيين. وكان أهم من طور مبادئها الأساسية أواخر القرن رجلان قاتلان: أولهما يملك العقل الأكثر زيفًا والثاني يملك الإرادة الأكثر استبدادًا عقائديًا. وأعني هنا جان جاك روسو وروبسبيير.
شكَّل الرجل الأول النموذج الأمثل للضحالة والخِسَّة المريبة التي تمجِّد ذاتها فقط. وروسو شخص يتمتع بحماسة باردة، بالإضافة إلى ذلك فهو شخص مُرائي يغدو عاطفيًا وعنيدًا على الفور عندما يتعلق الأمر بزيف المثالية المعاصرة. قد يعتبر هذا الرجل المؤسس الحقيقي للرجعية المعاصرة. ورغم أنه يبدو الكاتب الأكثر ديمقراطية في القرن الثامن عشر إلا أنه ربىَّ في داخله طغيان رجل دولة القاسي. لقد كان نبي الدولة العقائدية وكروبسبيير، مريده الحقيقي والمُخلص، حاول أن يكون رجل الدين الأعلى في هذه الدولة. يبدو أن روسو سمع عبارة فولتير الشهيرة "إن لم يوجد الرب فمن الضروري خلقه". وسارع إلى خلق الكائن الأسمى، الرب المُجرَّد والعقيم، وباسم هذا الكائن الأسمى والفضائل المزيفة أعدم روبسبيير بحد المقصلة الهيبرتيين Hébertists أولاً ثم الثوري العبقري دانتون الذي باغتياله اغتال فكرة الجمهورية، ومهَّد الطريق بهذا الفعل إلى الانتصار الحتمي لديكتاتورية بونابرت الأول. ووجدت الرجعية المثالية لنفسها بعد انتصار بونابرت خدمًا أقل تعصبًا وفظاعة وأقرب إلى قوام البرجوازية الحقيقية ولكن أقل شأنًا منهم. من بينهم تشاتوبراند Chateaubriand ولامارتين Lamartine وهل أضيف؟ نعم سأقول ما دامت تلك هي الحقيقة، هناك أيضًا فيكتور هيغو بذاته. يعتبر هؤلاء الديمقراطيون والجمهوريون والإشتراكيون في يومنا هذا! ومن بعدهم ليس هناك سوى السوداوية ومجموعة فقراء العقول العاطفيين ممن تتلمذوا على أيدي هؤلاء الأساتذة وأسسوا المدرسة الرومانسية في ألمانيا من بينهم شلغيل Schlegel وتِيك Tieck ونوفاليس Novalis وفيرنر Werner وشيلينغ Schelling وآخرون غيرهم ممن أسمائهم لا تستحق الذكر.
وسيطرت الأشباح والأرواح على أدب هذه المدرسة. لم يكن هذا الأدب ليتحمل ضوء الشمس وعاش فقط حتى ضوء الشفق، ولم يتحمل التواصل القاسي مع الجموع. كان أدب الرقة والرهافة والأرواح المميزة الطامحة لدخول الجنة ومن تعيش على الأرض رغمًا عنها. كان أدبًا يحفل بالمخاوف والكره للسياسة وأمور الحياة اليومية. ولكن إن شاءت الصدفة وأشار إلى هذه الأمور كان رجعيًا بحق آخذًا جانب الكنيسة في مواجهة وقاحة المفكرين الأحرار، إلى جانب الملوك ضد الشعوب ومع الأرستقراطيين في مواجهة غوغاء الشوارع. بالنسبة للبقية كما قلت لتوي، كانت اللامبالاة المطلقة تجاه السياسة السمة الأبرز للمدرسة الرومانسية. ويمكن تمييز حقيقيتين وسط الغيوم التي عاشت فيها هذه المدرسة: التطور السريع للمادية البرجوازية والانفجار الخارج عن السيطرة للتفاهات الفردية.
ولفهم هذا الأدب الرومانسي وسبب ظهوره يجب البحث في التحولات التي جرت في رحم الطبقة البرجوازية منذ ثورة 1793.
منذ عصر الأنوار وحتى حركة الإصلاح وصولاً إلى ثورة 1793 كان البرجوازيون في ألمانيا وفرنسا وسويسرا وبريطانيا وهولندا أبطالاً وأصحاب العقل الثوري التاريخيين. وخرج من صلبهم المفكرون الأحرار في القرن الخامس عشر والمُصلحين الدينيين في القرنين اللاحقين وحواريِّ الانعتاق البشري من بينهم هذه المرة ألمان القرن الماضي. اندلعت ثورة 1789 و1793 لوحدها وبدعم قوة ذراع الشعب المؤمن بها. وأعلنت أفول ملكيَّة الكنيسة وأخوة البشر وحقوق الإنسان والمواطنة. كانت هذه شعاراتها، الشعارات الخالدة التي ضمنت لها المجد.
وسرعان ما انقسمت وأصبح قسمٌ معتبر من تجار الممتلكات الوطنية أغنياء وكفوا عن الاعتماد على الطبقة العاملة في المدن. ولكن قسمًا كبيرًا من فلاحي فرنسا أصبحوا مُلَّاك أراضٍ وفقدوا أي طموح بتحقيق السلام أو إعادة بناء النظام العام وبالتالي وضع أساس حكومة قوية ونظامية. وبهذا فُتح المجال أمام ديكتاتورية بونابرت الأول، الذي ورغم فولتيريته Voltairean الراسخة، لم يستهجن ميثاق البابا وإعادة إنشاء الكنيسة الرسمية في فرنسا. "الدين ضروري جدًا للناس!" وهذا يعني أن هذا القسم من البرجوازيين يرى أنه من الضروري الحفاظ على وضعهم وعلى ملكياتهم الجديدة من أجل تهدئة جوع الشعب من خلال الوعود بالجنة. وقتها بدأ تشاتوبراند بالوعظ[5].
سقط نابليون وأعادت عودة المَلكيَّة إلى فرنسا المَلكيَّة الشرعية ومعها عادت سلطة الكنيسة والنبلاء ممن استرجعوا قسمًا معتبرًا من نفوذهم السابق. وألقت هذه الانتكاسة بالبرجوازية إلى الثورة مجددًا واستفاقت فيها مجددًا تلك الروح الثورية المُشككة. فقد وضعت تشاتوبراند جانبًا وبدأت بقراءة فولتير مجددًا ولكنها لم تصل بقراءتها إلى ديدرو Diderot فأعصابها الضعيفة لم تحتمل هذا الغذاء القوي. وقد ناسبها فولتير تمامًا الذي كان مفكرًا حرًا ولكن مؤمن بالله. وعبَّر ببلاغة كل من برنغير Béranger وبي.إل. كورير P. L. Courier عن النزعة الجديدة. فقد كانت فكرة أنَّ "رب الشعب خيِّر" الغذاء الفكري اليومي للبرجوازية الفرنسية في تلك المرحلة، وقد رسم الملك البرجوازي المثالي، لكن المتحرر والديمقراطي في الوقت عينه، أرضيةً مهيبة ولكن سلمية لكل انتصارات الإمبراطورية الهائلة.
وانطلق لامارتين المدفوع برغبة تافهة وغيورة بشكل سخيف للارتقاء إلى مستوى قامة بايرون الشعرية العظيمة ينظم قصائده المحمومة يُشرف فيها ربُّ النبلاء والمَلكيَّة الحاكمة. ولكن لم تُتلى هذه القصائد سوى في الصالونات الأرستقراطية. لم يسمعها البرجوازيون، فقد كان بيرنغير شاعرهم وكورير كاتبهم السياسي.
ونجحت ثورة تموز في رفع مستوى ذوقهم. ونحن نعلم حق المعرفة أن كل برجوازي فرنسي يحمل في داخله نوعًا منيعًا من النبالة البرجوازية، وهذا نوع لا يفشل أبدًا في الظهور عند محدثي النعمة ممن يحصلون على القليل من الثروة والسلطة. في عام 1830 أخذت البرجوازية الغنية مكان النبلاء القدماء على كرسي السلطة، وبشكل طبيعي أخذت مسار أرستقراطية جديدة؛ أرستقراطية رأس المال أولاً ولكن أرستقراطية الفكر والعادات المُهذبة والعواطف الرقيقة وبدأت تنطبع بسمة دينية.
ولم يكن هذا ببساطة تقليدًا من جانبها للعادات الأرستقراطية بل كان من ضرورات مكانتها. فقد طلبت البروليتاريا منها خدمة أخرى وهي مساعدتها على الإطاحة بالنبلاء، وبعد القيام بذلك لم يعد للبرجوازيين حاجة إلى التعاون مع البروليتاريا. فقد شعروا بأنهم ثابتون حيث يجلسون في ظلال ثورة تموز. وهذا يعني أن تحالفها من الناس لم يعد مفيدًا. ولذلك كان من الضروري إعادتهم إلى مكانهم، ولم يكن بالإمكان تحقيق هذا من دون إثارة سخط عظيم بين الجموع، وأصبح من الضروري ضبط هذا السخط. ولكن باسم من؟ هل سيكون بالاعتراف بالمصالح البرجوازية بكل فجاجة؟ سيكون هذا مثيرًا للسخرية. فكلما كانت المصلحة ظالمة ولاإنسانية كلما ازدادت الحاجة إلى مصداقية ما. والآن من أين نحصل على المصداقية إن لم يكن من الدين الحامي الخيِّر لكل السمينين ولكل من يحاول مواساة الجائعين؟ ولهذا وجدت البرجوازية أن الشعب لا غنى له عن الدين.
وبعد فوز البرجوازية بمجد المعارضة الدينية والفلسفية والسياسية والتظاهر والثورة، تحولت آنذاك إلى طبقة مهيمنة وبالتالي حامية للدولة - المؤسسة النظامية للسلطة المطلقة على تلك الطبقة. والدولة قوة ولذلك هذا يعني الحق باستخدام القوة وفوز المنطق القائم على السلاح. ولكن الإنسان يقوم على أسس فردانية لدرجة أن هذا المنطق، البليغ كما يبدو، ليس كافيًا على المدى الطويل. ولذلك هناك ضرورة مطلقة لوجود مصادقة أخلاقية من نوع ما من أجل ترسيخ احترامه. بالإضافة إلى ذلك لا بدَّ أن تكون هذه المصداقية بسيطة وواضحة جدًا لتقنع الجموع ممن اختزلتهم سلطة الدولة بوجوب المسارعة إلى الإقرار بحق هذه السلطة.
توجد طريقتان لإقناع الجموع بالخير الذي قد تقدمه أية مؤسسة اجتماعية مهما كان نوعها. الطريقة الأولى، وهي الطريقة الحقيقية ولكن الأصعب لأنها تتضمن إلغاء الدولة، أو بكلمات أخرى إلغاء الاستغلال السياسي المُنظَّم للغالبية من قبل أقلية ما، وهذا سيكون إرضاءً مباشرًا وكاملاً لحاجات وتطلعات الشعب، وسيكون إذابة تامة لأي وجود اقتصادي أو سياسي للطبقة البرجوازية أو مرة أخرى سيكون إلغاءً للدولة. ويبدو أن الوسائل المفيدة للجموع تضرُّ بمصالح البرجوازية ولذلك فمن غير المفيد التحدث عنها.
أمَّا الطريقة الوحيدة، المؤذية للناس والغالية جدًا لأنها تحمي الامتيازات البرجوازية، هي الدين. فذلك هو الزواج الأبدي الذي سيدفع بالجموع إلى البحث عن الكنوز الإلهية بينما تبقى الممتلكات الأرضية البائسة والغنيمة المأخوذة من الناس بما في ذلك تحررهم السياسي والاجتماعي بيد الطبقة الحاكمة التي يقتسم أفرادها هذه الممتلكات ويأخذ أغنى أفرادها الحصة الأكبر على أية حال.
ولا يوجد أو لا يمكن أن توجد دولة بدون دين. فلنأخذ على سبيل المثال أكثر الدول تحررًا في العالم وأعني بذلك الولايات المتحدة وسويسرا، لاحظ الدور المهم الذي يلعبه الخطاب العام للعناية الإلهية - الراعي الأسمى لكل الدول.
وكلما تكلم رئيس دولة عن الله، فليكن ويليم الأول، الإمبراطور الروسي-الألماني- Knouto-Germanic**، أو غرانت رئيس الجمهورية العظيمة، فلتكونوا متأكدين أنه يستعد لجزِّ قطيعه الشعبي.
ومنح الليبراليون والفولتيرون الفرنسيون أنفسهم دينًا رسميًا وما دفعهم إلى ذلك مزاج نحو الوضعية (ولا نقول الماديَّة). وقد امتلكوا هذا المزاج المحدود والقاسي بعد أن أصبحوا الطبقة الحاكمة في الدولة بعد انتصار 1839. ولكن لم يكن الأمر سهلاً. لم يستطع البرجوازيون أن يضعوا أنفسهم فجأة تحت جناح الكاثوليكية الرومانية. فقد كانت الهوة بين البرجوازية والكنيسة الرومانية مليئة بالدم والحقد، ومهما بدا الأمر صائبًا وعمليًا فلا يمكن كبح جماح غضب تطور عبر التاريخ. علاوة على ذلك فإن عودة البرجوازية إلى حضن الكنيسة وامتلاكها لدور في طقوس عبادتها الورعة، وهذا شرط أساسي لعودة صادقة وخالصة، ستسربل نفسها بالسخافة. صحيح أن الكثيرين حاولوا القيام بذلك ولكن بطولاتهم انتهت دومًا بفضيحة مدوية. وفي النهاية كانت العودة إلى الكاثوليكية مستحيلة بناء على التناقض العقيم الذي يفصل السياسات المختلفة للكنيسة عن تطور المصالح الاقتصادية والسياسية للطبقة الوسطى.
وفي هذا المجال كانت البروتستانتية أكثر كفاءة حيث كانت دين البرجوازيين بامتياز، وقد منحت البرجوازية الكثير من الحرية ووجدت طريقة للتصالح مع المطامح الدينية واحترام ما تتطلبه الشروط الأرضية. ولذلك تطورت التجارة والصناعة في البلدان البروتستانتية على وجه الخصوص. ولكن كان من الصعب على البرجوازية الفرنسية أن تتحول إلى البروتستانتية، وللانتقال من دين إلى آخر، ما لم يتم ذلك بطريقة مدروسة كما الحالة أحيانًا مع يهود روسيا وبولندا ممن كانوا يُعمَّدون لمرات كثيرة من أجل الحصول على مكافاة مالية في كل مرة يعمَّدون فيها. ولكي يغير المرء دينه بحق فالمطلوب قليل من الإيمان. لكن في الصلب الوضعي الخالص للبرجوازية الفرنسية لا يوجد مكان للإيمان؛ فالبرجوازي لديه لامبالاة عظيمة تجاه كل المسائل التي قد تمس بجيبه أولاً وغروره الاجتماعي ثانيًا، وهو غير مبالٍ تجاه البروتستانتية والكاثوليكية على حد سواء. من جهة أخرى، لم يتمكن البرجوازيون من الانتقال إلى البروتستانتية لأنهم سيضعون أنفسهم في نزاع مع كاثوليكية، وستنظر أغلبية الشعب الفرنسي إلى قيام الطبقة الحاكمة بذلك على أنه وقاحة كبيرة.
لا تزال هناك طريقة واحدة للعودة إلى الدين الإنساني والثوري للقرن الثامن عشر، وهذا الطريق سيوصلنا إلى مكان أبعد. وكان البرجوازيون مضطرون، من أجل المصادقة على دولتهم الجديدة، إلى خلق دين جديد؛ هذا الدين الذي أعلنت عنه الطبقة البرجوازية بأكملها وبكل صراحة من دون التعرض للسخرية والفضيحة.
وهكذا ولدت الربوبيَّة الدوغمائية.
وروى الكثيرون، بطريقة أفضل من طريقتي، قصة وولادة وتطور هذه المدرسة ذات التأثير الساحق والقاتل على التعليم السياسي والفكري والأخلاقي للشباب البرجوازي في فرنسا. وتعود بتاريخها إلى بينجامين كونستانت Benjamin Constant ومدام دي ساتيل Madame de Staël التي أسست Royer-Collard ومريديها كوزيت Guizot وكوزين Cousin وفيللمين Villemain وكثيرون غيرهم. كان غرضها الصريح بكل وقاحة المصالحة بين الثورة والرجعية أو، لنستخدم اللغة المدرسية، المصالحة بين مبدأ الحرية ومبدأ السلطة من أجل صالح السلطة بطبيعة الحال.
وتعني هذه المصالحة، على صعيد السياسة، سحب التحرر الشعبي لمصلحة الحكم البرجوازي المتمثل في الدولة المَلكيَّة والمؤسساتية، وعلى صعيد الفلسفة يعني الخضوع المدروس للمنطق الحر لصالح مبادئ الإيمان الأبدية. وسنناقش الأخير في معرض حديثنا هنا.
نعلم أن هذه الفلسفة وضعت بشكل خاص على يد كوزين المؤسس الحقيقي للنخبوية الفرنسية، وهو متحدث سطحي ومتحذلق يعجز عن الإتيان بأي فكرة أصيلة خاصة به، ولكن حسَّه السليم قوي عندما يتحدث في الأماكن العامة. وأعدَّ هذا الفيلسوف اللامع للشباب الفرنسي المُجِدْ طبقًا ميتافيزيقًا من صنعه، وقد أصبح هذا الطبق إجباريًا في المدارس الحكومية والجامعات، وحكم على الأجيال القادمة بعُسرٍ دماغي. وتخيلوا هذه الصلصة الثقافية المكونة من منظومات متضادة وهذا المزيج من الآباء والكنيسة والفلاسفة وديكارت وباسكال وكانط وعلماء النفس الإسكتلنديين تجتمع فوقهم أفكار أفلاطون الرائدة والمقدسة وتغطيها طبقة من الباطنية الهيغيلية ويصحبها من كل بد جهلٌ يطفح بالازدراء نحو العلوم الطبيعية. وكل ذلك لإثبات أنَّ اثنان ضرب اثنان يساوي خمسة وأنَّ هناك ربًّا.
ترجمة: عزة حسون
*** *** ***

 
Description: horizontal rule
[1]  العلم، في تحوله إلى ميراث لكل شخص، سيقترن بطريقة ما في الحياة الواقعية والحقيقية لكل واحد منا، وسيربح من الفائدة والشرف ما سيخسره في كبرياءه وطموحه وحذلقته الدوغمائية. ولكن هذا على أية حال لن يمنع النابغة، المؤهلون بشكل أفضل وأكثر من البقية للتفكير العلمي، من تكريس أنفسهم بالكامل لرعاية العلوم وتقديم خدمات عظيمة للإنسانية، ولن يكونوا طموحين لتحقيق أي تأثير اجتماعي سوى ذلك التأثير الطبيعي الذي يمنحه محيطهم لكل المتفوقين بذكائهم، وسيعملون دون مكافأة سوى المتعة الكبيرة التي يجدها كل عقل نبيل في إرواء شغفٍ نبيل.
[2]  يجب التمييز بين التجربة الشاملة التي تستند عليها كل العلوم والإيمان الشامل الذي يتمنى المثاليون أن يدعم معتقداتهم. التجربة الشاملة تأكيد حقيقي على الحقائق، أمَّا الإيمان الشامل فهو افتراض وقائع لم يرها أحد وهي بالتالي تتنوع وفق تجربة كل شخص.
[3]  يجب على كل المثاليين ممن يؤمنون بلاماديَّة وخلود الروح أن يخجلوا بشدة من اختلاف الذكاء بين الأعراق والناس والأفراد. وما لم نفترض أن الجزيئات الألوهية المتنوعة قد توزعت بشكل غير منتظم فكيف يمكن شرح هذا الاختلاف؟ وللأسف هناك عدد كبير من الأغبياء، أغبياء لدرجة البلاهة، تلقوا عند توزيع الجزيئات جزيء الألوهية والغباء في آنٍ معًا. وللهرب من هذه الحقيقة المحرجة لا بدَّ أن يفترض المثاليون بالضرورة أن الأرواح البشرية متساوية، ولكن السجون، الأجساد البشرية، التي تجد هذه الأرواح نفسها محبوسة فيها، ليست متساوية؛ فبعض الأجساد قادرة أكثر من غيرها على العمل كعضو للتفكير الخالص في الروح. ووفق هذا الكلام لا بد لأحدهم من امتلاك أعضاء جيدة تحت تصرفه ولآخر امتلاك أعضاءً سيئة. ولكن لا يملك المثاليون القوة على استخدام هذه الاختلافات دون الوقوع في شرك التناقض والماديَّة بشكلها الأكثر تنفيرًا. لأنه وبغياب اللاماديَّة الصرفة للروح تختفي كل الاختلافات الجسدية، وكل ما هو جسدي ومادي، أي بالضرورة يبدو غير مهم، هو مقزز بالكامل. والهوة التي تفصل بين الروح والجسد، بين اللاماديَّة البحتة والماديَّة البحتة لا محدود. وبالتالي تغدو جميع الاختلافات، المبهمة والمستحيلة منطقيًا، التي قد توجد على الجانب الآخر من الهاوية، في المادة، ستكون بالنسبة للروح تافهة وفارغة، ولا يمكنها أن تفرض عليها أي نوع من التأثير. باختصار لا يمكن تقييد ولا سجن ولا حتى التعبير بأي شكل من الأشكال عما هو لامادي بالمطلق بالماديِّ المطلق. ومن بين كل الخيالات المقززة والماديَّة (وأستخدم كلمة الماديَّة هنا وفق المعنى الذي يستخدمه المثاليون) التي أطلقها الجهل والغباء البدائي للإنسان فكرة روح لامادية محبوسة في جسدٍ مادي هي بلا شك الأكثر فظاعة وغباءً. وليس هناك ما يثبت بشكل أفضل السيطرة الكلية التي مارستها الأحكام المسبقة القديمة على أفضل العقول، تلك الرؤية البائسة لبشر على ذكاء كبير يتكلمون عن هذا حتى يومنا هذا.
*  الآيتين الثانية والثالثة من سفر الخروج الإصحاح 20. (المترجمة)
[4]  أدركُ تمامًا أن المنظومات اللاهوتية والميتافيزيقية في الشرق، وخاصة في الهند بما في ذلك البوذية، نرى مبدأ إلغاء العالم الحقيقي لصالح التجردي المثالي والمطلق. ولكنها لا تملك تلك السمة الإضافية التي تملكها المسيحية والتي تتطلب نفيًا إراديًا ومقصودًا. وعندما وضعت هذه المنظومات لم يصل عالم الفكر البشري وعالم الإرادة و التحرر مرحلة التطور التي يمكننا رؤيتها في الحضارة اليونانية والرومانية.
[5]  يبدو أنه من المفيد هنا إعادة سرد حكاية معروفة جدًا وتدور حول القيمة الشخصية لهذه المعتقدات الكاثوليكية المكررة وعن الإخلاص الديني في تلك المرحلة. حدث أن قدم تشاتوبراند عملاً لأحد الناشرين يهاجم فيه الإيمان. وقتها جذب ذلك الناشر انتباهه إلى أن الإلحاد لم يعد موضة وأن جمهور القراء لم يعد يهتم بهذا الموضوع، وأن الطلب حاليًا على الأعمال الدينية وليس على الإلحاد. تراجع تشاتوبراند وقدَّم بعد عدة أشهر عملاً بعنوان عبقرية المسيحية.
**  يشير باكونين هنا إلى المعاهدة المعاصرة لزمن باكونين والموقعة بين روسيا وألمانيا أو ما يُعرف Knouto-Germanic Empire التي أشار إليها في كتابه " Knouto-Germanic Empire and the Social Revolution" الذي لم ينهه. (المترجمة)