الأحد، 13 نوفمبر 2016

مقدمة كتاب ملخص رأس المال لكارل ماركس


مقدمة كتاب ملخص رأس المال لكارل ماركس
    

غلاف الكتاب، المصدر: http://cqfd-journal.org/
الكاتب/ة: كارلو كافيرو.
ترجمه/ته الى العربية: وليد ضو     
المصدر:     
إيطاليا، آذار/مارس 1878

شعور عميق من الحزن سيطر علي، خلال دراسة كتاب رأس المال، عند التفكير بأن هذا الكتاب كان وسيظل، من يدري كم من الوقت، مجهولا تماما في إيطاليا.

ولكن، بعد ذلك قلت إذا كان هذا هو الحال، فهذا يعني أن واجبي توظيف كل قواي للقيام بذلك. وماذا أفعل؟ أترجمه؟ آه، لا! إن ذلك لن يفيد بشيء. أولئك الذين يستطيعون فهم كتاب كارل ماركس هم بالتأكيد يعرفون اللغة الفرنسية، ويمكنهم اللجوء إلى الترجمة الجميلة التي قام بها جوزف روي، والتي نقحها ماركس بالكامل، والذي أعلن أنها تستحق أن يقرأها حتى أولئك الذين يعرفون اللغة الألمانية. لكنني لا بد لي أن أعمل لنوع مختلف من الناس. وهم ينقسمون إلى ثلاث فئات: الأولى، تتألف من عمال يتمتعون بذكاء ودرجة معينة من التعليم (1)؛ والثانية، الشباب الخارجون من البرجوازية، الذين تبنوا قضية العمال، ولكنهم لا يتمتعون بمقدار من الدراسة أو التطور الفكري الكافي لفهم كتاب رأس المال في نسخته الأصلية؛ وأخيرا، الثالثة، المؤلفة من شباب المدارس، ذوي القلب النقي، الذين يمكن مقارنتهم بالنباتات النضرة المعطاءة، والتي تعطي أفضل الفاكهة إذا زرعت في أرض خصبة. عملي يجب أن يكون ملخصا سهلا وموجزا لكتاب ماركس.

يمثل هذا الكتاب الحقيقة الجديدة التي تهدم، تجزئ وتنثر بناء كاملا من الأخطاء والأكاذيب. إنها حرب. حرب مجيدة، بسبب قوة العدو، وقوة رأس المال الكبرى الذي لديه هذه المصانع ومجموعة كبيرة من الأسلحة الجديدة، والأدوات والآلات من كل نوع، التي استطاع بذكائه استخلاصها من جميع العلوم الحديثة.

مهمتي محدودة ومتواضعة للغاية. يجب أن أوجه مجموعة من العناصر الحريصة، عبر الطريق الأسهل والأكيد، إزاء معبد رأس المال؛ على هدم هذا الإله، حتى يستطيع الجميع رؤيته وأن يتلمسوا بأيديهم العناصر التي يتكون منها؛ وأن ينتزعوا ملابس كهنته، حتى يرى الجميع بقع الدم البشري التي تلطخه، والأسلحة المتوحشة التي كانوا بواسطتها يسقطون يوميا أعدادا متزايدة من الضحايا.

انطلاقا من هذا التوجه سأبدأ عملي. ومع ذلك، قد يفي ماركس بوعده (2)، بإنجاز الجزء الثاني من رأس المال، الذي يتناول فيه مسألة تداول رأس المال (الجزء الثاني)، والأشكال المختلفة التي يأخذها في مسار تطوره (الجزء الثالث)، وأخيرا الجزء الرابع والأخير الذي يعرض تاريخ النظرية.

الجزء الأول من كتاب رأس المال، كُتِبَ بالأصل باللغة الألمانية، ومن ثم تُرجِم إلى اللغة الروسية والفرنسية، وهو اليوم يتم تلخيصه لمصلحة قضية العمل. فليقرأه العمال بتأمل متمعن، لا لأنه يحتوي على تاريخ تطور الانتاج الرأسمالي وحسب، ولكنه يحتوي أيضا على سيرة عذابات العامل.

في الختام، سأطلب من طبقة تبدو مهتمة بتراكم رأس المال، تحديدا طبقة صغار الملاكين. كيف يمكن لهذه الطبقة، الكبيرة الحجم في إيطاليا، أن يتجه عددها إلى التناقص؟ السبب بسيط جدا. أنه، ومنذ عام 1860، بدأت إيطاليا تسير في وتيرة متسارعة على الطريق الذي يجب أن تعبره كل الدول الحديثة؛ الطريق المؤدي إلى التراكم الرأسمالي، والذي بلغته انكلترا بشكله الكلاسيكي الذي تميل إلى تحقيقه إيطاليا وكل الدول الحديثة. فليتأمل صغار الملاكين بصفحات تاريخ انكلترا الواردة في هذا الكتاب؛ فليتأملوا بتراكم رأس المال، المتزايد بفعل سرقات كبار الملاكين وتصفية ممتلكات الكنيسة والممتلكات العامة؛ فلتهتز بلادة أذهانهم وقلوبهم، وتقنعهم مرة واحدة بأن قضيتهم هي قضية العمال، لأنهم سيتقلصون حتما، بفعل تراكم رأس المال الحديث، إلى هذا البديل الحزين: أن يبيعوا أنفسهم للحكومة للحصول على الخبز، أو أن يختفوا إلى الأبد في الصفوف السميكة للبروليتاريا.

--

الهوامش:

(1) لمعرفة مستوى التعليم في ذلك الوقت، علينا أن نعرف أنه عام 1861، كان ثلثا الإيطاليين أميا. [الملاحظة من المحرر ]


(2) جمع انجلز بعد وفاة ماركس مسودات بقية الأجزاء وجرى نشرها تباعا، ولاحقا نشر كارل كاوتسكي الجزء الرابع. [الملاحظة من المترجم   ]


الفصل الأول: السلعة، والمال والثروة ورأس المال
    

The Knifegrinder | Kazimir Malevich
الكاتب/ة: كارلو كافيرو.
ترجمه/ته الى العربية: وليد ضو     

للسلعة نوعان من القيمة: القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية أو القيمة الفعلية. إذا كنت أملك، على سبيل المثال، 20 كيلوغراما من البن، يمكنني إما استهلاكها لاستعمالي الخاص، أو أن أبادلها مقابل 20 مترا من القماش، أو مقابل معطف، أو مقابل 250 غراما من الفضة، إذا بدلا من البن، أنا أحتاج إلى واحدة أو أخرى من هذه السلع الثلاث.

تتشكل القيمة الاستعمالية للسلعة من صفات السلعة عينها، التي هي، بحكم هذه الصفات، تهدف في بعضها إلى تلبية حاجاتنا، وبعضها الآخر لا. القيمة الاستعمالية لـ 20 كيلو من البن تتشكل من صفات يؤمنها لنا البن: الصفة الكامنة فيها أنها توفر لنا الشراب (القهوة) التي يعرفها الجميع، لكن هذه السلعة لا تؤمن لنا الملبس، أو توفر لنا قميصا. لهذا السبب، يمكننا الاستفادة من القيمة الاستعمالية للـ 20 كيلو من البن إذا شعرنا أننا بحاجة إلى شرب القهوة؛ ولكن، على العكس من ذلك، نحن بحاجة إلى قميص أو معطف، ونحن نعرف القيمة الاستعمالية لـ 20 كيلو من البن؛ أو، لقول ذلك على نحو أفضل، إذا لم نعرف القيمة الاستعمالية لسلعة ما، فإنه لن يكون لها قيمة تبادلية. أحيانا قد نلتقي بشخص آخر يملك معطفا، ولا يحتاج إليه، ولكنه يحتاج إلى البن. عندها على الفور سيتم التبادل. سنعطيه 20 كيلو من البن، وهو سيعطينا المعطف.

ولكن ما الذي يمكن السلع، على الرغم من أنها متنوعة الصفات، أي لناحية قيمتها الاستعمالية، من أن يتم تبادلها بنسب معينة؟

سبق أن قلنا ذلك. هذا لأنه، إلى جانب القيمة الاستعمالية، يوجد ضمن السلعة القيمة التبادلية. ولكن، أساس القيمة التبادلية، أو القيمة بحد ذاتها، هو العمل البشري اللازم للانتاج. السلعة أنتجها العامل؛ العمل البشري هو المادة الأم التي تعطي للسلعة الحياة. كل السلع، إذا، على الرغم من أنها مختلفة عن بعضها البعض لناحية خصائصها، هي متطابقة لناحية جوهرها، لأنها، ابنة نفس الأب، هي كلها تملك الدم نفسه الذي يسري في عروقها. إذا تبادلنا 20 كيلو من البن بمعطف، أو بـ 20 مترا من القماش، هذا لأنه ولكي ننتج 20 كيلو من البن، نحتاج إلى الكمية عينها من العمل البشري لإنتاج معطف، أو 20 مترا من القماش. جوهر القيمة إذا هو العمل البشري، ويتم تحديد القيمة وفقا لحجم العمل البشري. جوهر القيمة هي نفسها لكل السلع: ما علينا إلا تحقيق التعادل في حجم العمل البشري، حتى تكون السلع، كتعبير عن قيمتها، متساوية بين بعضها البعض، أي أن نتمكن من تبادلها.

حجم القيمة يرتبط بحجم العمل: في خلال 12 ساعة عمل، ننتج قيمة مضاعفة لتلك التي أنتجت خلال 6 ساعات فقط. ربما يقول أحدهم كلما كان العامل بطيئا في عمله، سواء بسبب عدم كفاءته أو كسله، كلما كانت القيمة التي ينتجها أعلى. غير صحيح. العمل يشكل جوهر القيمة ليس لأن بطرس أنتجه أو بولس، إنما هو متوسط العمل، المتساوي دائما، ويسمى العمل الاجتماعي. هذا العمل هو الذي يشكل محور انتاج معين، أنجزه بمعدل وسطي عامل متوسط المهارة وبكثافة متوسطة.

بمعرفة الطبيعة المزدوجة للسلعة التي في آن واحد ذات قيمة استعمالية وقيمة تبادلية، يمكننا فهم أن السلعة لا يمكن أن تنتج إلا من خلال العمل، وبواسطة عمل ضروري للجميع. الهواء، على سبيل المثال، المراعي الطبيعية، الأرض البكر… هي ضرورية للإنسان، لكنها لا تشكل بالنسبة له قيمة، لأنها ليست نتاج عمله، وهي بالتالي ليست من السلع. من جهة أخرى، لا يمكننا إنتاج سلع لاستعمالنا الخاص غير مفيدة للآخرين، في هذه الحالة: نحن لا ننتج سلعا؛ نحن ننتج بشكل أقل عندما نعمل لانتاج السلع التي ليس لها أي فائدة بالنسبة لنا أو بالنسبة للآخرين.

بالتالي، السلع تتبادل فيما بينها؛ أي أن سلعة ما تظهر باعتبارها معادلة لسلعة أخرى. لتحقيق الملاءمة في التبادل، ينبغي أن نستخدم ما يعادل سلعة معينة: فنحدد معادل عام للسلع، بواسطة المال. المال هو إذا السلعة التي، سواء عبر العادة أو من خلال القانون، تحتكر وظيفة المعادل العام. وهذا ما حصل لنا مع وجود المال. ففي حين، في الأصل، كانت كل من 20 كيلو من البن، ومعطف، 20 مترا من القماش، و250 غراما من الفضة سلعا يمكن تبادلها دون تمييز، اليوم، يمكننا أن نقول أن 20 كيلو من البن، و20 مترا من القماش ومعطفا هي ثلاثة سلع تساوي كل منها 250 غراما من الفضة، أي 50 فرنك.

ولكن إذا تم التبادل فورا، سواء سلعة مقابل سلعة أخرى، أو عبر المال، فإن قانون التبادل يبقى عينه. السلعة لا يمكن تبادلها مع أخرى إذا لم تكن قيمتها التبادلية متساوية، وإذا لم يكن العمل الضروري لإنتاج السلعة لا يتساوى مع الوقت الضروري لإنتاج السلعة الأخرى. علينا أن نتذكر هذا القانون، لأنه على أساسه سنبني كل شيء سنقوله لاحقا.

ما إن ظهر المال، فإن التبادلات المباشرة أو الفورية، سلعة مقابل سلعة، لم تعد موجودة. التبادل من الآن وصاعدا يجب أن يتم من خلال المال: لتتحول سلعة إلى أخرى يجب، أن تتحول السلعة إلى مال، ومن ثم يتحول المال إلى سلعة. إذا، معادلة التبادل، ليست سلسلة متواصلة من السلع، إنما سلسلة متبادلة بين السلعة والمال. وهي التالية:

سلعة- مال- سلعة- مال- سلعة- مال.

لكن كما وجدنا في هذه المعادلة الدائرة التي تمر بها السلع بتحولات متعاقبة، فإننا سنجد أيضا الدائرة التي يمر بها المال. من هذه المعادلة سنستخرج معادلة رأس المال.

عندما نجد أنفسنا نحقق تراكما معينا في السلع أو في المال، وهو الأمر عينه، نصبح من أصحاب الثروة. إذا وجدنا ما يستطيع تطوير هذه الثروة عندها يصبح لدينا رأس المال. أن نجد ما هو قادر على تطوير أي خلق وتزايد الثروة، هو في واقع الأمر، جوهر رأس المال القائم على إمكانية الحصول هذا المال المتكاثر.

الحل لهذه المسألة هو التالي: إيجاد المعدل المولد للرأسمال، يعتمد على حل مسألة أخرى: إيجاد معدل كسب المال بمعدل قليل، أو بالأحرى: إيجاد معدل لتزايد المال بشكل تدريجي.

في المعادلة التي تشير إلى الدائرة التي تقطعها السلع والمال، نضيف، إلى جانب المال، رمزا يشير إلى التزايد التدريجي، نعبر عنه، على سبيل المثال، بواسطة رقم، فيصبح لدينا التالي:

مال- سلعة- مال1- سلعة- مال2- سلعة- مال3.

هذه هي معادلة رأس المال.


الفصل الثاني: كيف يولد رأس المال؟
    

Suprematist Composition | Kazimir Malevich
الكاتب/ة: كارلو كافيرو.
ترجمه/ته الى العربية: وليد ضو     

منخلالدراسةدقيقة لمعادلة رأس المال، نلاحظ أن مسألة ولادة رأس المال بحسب التحليل الأخير تعود إلى التالي: إيجاد سلعة يمكن بيعها بسعر أعلى من كلفة إنتاجها؛ إيجاد سلعة بين أيدينا يمكن أن تزيد القيمة بحيث يتسنى عند بيعها أن نكسب مالا أكثر من ذلك الذي أنفقناه لشرائها. يجب أن تكون سلعة مرنة يمكنها أن تتمدد قليلا بحيث يمكن تكبير حجم قيمتها. هذه السلعة فريدة بوجودها، يطلق عليها اسم قوة العمل.

ها هو رجل يريد الاستثمار، رجل يراكم الثروة، ويريد أن ينتج رأسمالا. فيذهب إلى السوق، بحثا عن قوة العمل. لنتبعه. يتجول في السوق، فيلتقي بالعامل،الذي جاء إلى المكان عينه، ليبيع السلعة الوحيدة التي يملكها، قوة العمل. ولكن العامل لا يبيع قوة عمله ككتلة واحدة، لا يبيعها بأكملها؛ فهو يبيع جزءاً منها، لفترة معينة، ليوم أو أسبوع أو شهر

إذا باعها بأكملها، يصبح هو بحد ذاته سلعة؛ وبالتالي لن يكون عاملا، إنما عبدا لرب عمله.

يتم احتساب سعر قوة العمل وفق التالي: يتم جمع سعر الغذاء والملابس والمسكن وكل ما هو ضروري للعامل، خلال سنة، ليحافظ باستمرار على قوة عمله بحالة طبيعية؛ ويضاف إلى هذا السعر مجموع لما يحتاجه العامل خلال سنة حتى ينجب ويهتم ويرعى أولاده، تبعا لحالته؛ ونقسم المجموع على 365 يوما، عدد أيام السنة، ونحصل على الرقم اليومي الضروري، للمحافظة على قوة العمل: فيصبح لدينا السعر اليومي؛الذي هو الأجر اليومي للعامل. إذا أدخلنا ضمن هذا الحساب ما هو ضروري للعامل حتى ينجب ويهتم ويرعى أولاده، لأن ذلك هو امتداد لقوة عمله. إذا باع العامل قوة العمل، بشكل كامل، وأصبح هو بالتالي سلعة، أي عبدا لرب عمله، فيصبح أولاده الذين أنجبهم سلعة، مثله، أي عبيدا لرب العمل؛ لكن العامل لا يُستَلب إلا بجزء من قوة عمله، ولديه الحق بالحفاظ على الجزء الباقي منها، والأخير نجد جزءا منه في العامل والجزء الآخر في أولاده.

بواسطة هذا الحساب نحصل على السعر الدقيق لقوة العمل. ووفق قانون التبادل الذي ناقشناه في الفصل السابق، فإن السلع لا يمكن تبادلها إلا مقابل سلع لها القيمة عينها، أي أن سلعة معينة لا يمكن تبادلها مقابل سلعة أخرى إذا كان العمل الذي تتطلبه السلعة الأولى لا يتساوى مع العمل الذي تتطلبه الثانية. لكن العمل الضروري لإنتاج قوة العمل يتساوى مع العمل اللازم لانتاج الأشياء الضرورية للعامل، وبالتالي إن قيمة الأشياء الضرورية للعامل تتساوى مع قيمة قوة عمله. إذا كان العامل يحتاج إلى 3 فرنكات للحصول على كل الأشياء الضرورية له ولأسرته، فمن الواضح أن هذه الفرنكات الثلاث ستكون سعر قوة عمله ليوم واحد.

الآن لنفترض أن الأجر اليومي للعامل، الذي احتسبناه فيما سبق، يصل إلى ثلاثة فرانكات. لنفترض كذلك أنه لإنتاج 15 غراما من الفضة يحتاج العامل إلى ست ساعات عمل، أي ما يعادل ثلاثة فرانكات.

عقد مالك المال اتفاقا مع العامل، حيث وعده بدفع قوة عمله بسعر يعادل 3 فرانكات باليوم. إنه برجوازي صادق تماما وحتى مؤمن، وشديد الحرص على عدم الغش مع السلعة التي يملكها العامل (قوة العمل). لا يمكننا لومه للأجر الذي دفعه للعامل سواء في نهاية اليوم، أو الأسبوع، أي بعد ما أنتجه هذا الأخير: لأن ما قام به يمارسه كذلك بالنسبة لبقية السلع حيث تتحقق قيمتها وفق استعمالها، مثل إيجار منزل أو مزرعة، حيث يدفع مبلغا من المال عند حلول الأجل.

يتشكل العمل من ثلاثة عناصر، هي التالية:

1) قوة العمل؛ 2) المادة الأولية للعمل؛ 3) وسيلة العمل. مالك المال، بعد أن اشترى من السوق قوة العمل، اشترى كذلك المادة الأولية، وهي القطن؛ ووسيلة العمل، أي المعمل بكل أدواته، وحضر كل شيء؛ وبالتالي يبقى عليه أن يبدأ فورا بالعمل. "يبدو أن التحول من المؤكد حصوله في ملامح شخصيات قصتنا. فمالك المال يأخذ زمام المبادرة، وبصفته كرأسمالي، سيمشي في المقدمة؛ مالك قوة العمل سيتبعه كعامل لديه؛ الأول سينظر نظرة متسائلة، معبرا فيها عن أهميته وانشغاله؛ أما الثاني سيبدو خجولا، مترددا، ومضطربا، كمن أحضر جلده للسوق، ولا يمكنه الانتظار سوى لشيء واحد: أن يتم دبغه. (1)"

يصل الشخصان إلى المعمل، حيث يستعجل رب العمل عامله لكي يبدأ عمله: بصفته كغازل، يضع بين يدي العامل 10 كيلو من القطن.

العمل يتلخص باستهلاك العناصر الذي تؤلفه: استهلاك قوة العمل، استهلاك المواد الأولية، استهلاك وسائل العمل. يحتسب استهلاك وسائل العمل على النحو التالي: مجموع قيمة كل وسائل العمل، المعمل، الأدوات، المواقد، والفحم…، ونطرح مجموع قيمة كل المواد القابلة للاستخدام التي يمكن أن تبقى وسائل العمل موضوعة خارج الاستعمال بحسب وظيفتها: ونقسم ما بقي على عدد الأيام التي يمكن أن تستغرقها وسائل العمل، فنحصل على رقم الاستهلاك اليومي لوسائل العمل هذه.

عاملنا يعمل لمدة 12 ساعة يوميا. في نهاية يوم العمل، يكون قد حول 10 كيلو من القطن إلى 10 كيلو من الخيطان، فيسلمها لرب عمله، ويترك المعمل ليعود إلى منزله. ولكنه على طول الطريق، تتوارد إلى رأسه أفكار مماثلة لتلك التي تعج بها رؤوس العمال حين يبدأون بحساب، من خلف ظهور أرباب عملهم، ماذا سيربح رب العمل من الـ 10 كيلو من الخيطان. - في الحقيقة، لا أعلم كم سيدفع لقاء هذه الخيطان، يقول لنفسه، ولكن الحساب سيجريه بسرعة. رأيت أن سعر كيلو القطن في السوق يبلغ 3 فرانكات. استعمال وسائل العمل يمكن أن تبلغ 4 فرانكات في اليوم. إذا يصبح لدينا التالي:

لشراء 10 كيلو من القطن= 30 فرنك

لاستعمال وسائل العمل= 4 فرانكات

أجر عملي اليومي= 3 فرانكات

يصبح المجموع= 37 فرنك

وبالتالي تصبح قيمة الـ 10 كيلو من الخيطان 37 فرنك. لكن هكذا لن يربح رب العمل شيئا، لأنه دفع ثمنه كما هو، دون زيادة أو نقصان؛ حتى أنه فعل الأمر عينه معي، فقد دفع لقاء قوة عملي 3 فرانكات باليوم؛ إذا، لن يجد ربحا سوى ببيع الخيطان بأكثر مما تستحق. لا بد له أن يفعل ذلك: وإلا، فإنه سيصرف 37 فرنك ليحصل على 37 فرنك فقط، دون أن نحسب الوقت الضائع والجهد المبذول. هذا هو حال أرباب العمل! عبثا يحاولون أن يظهروا صادقين تجاه العامل الذين اشتروا منه قوة عمله: لكنهم دوما لديهم نقطة ضعف، ونحن العمال نعرف عوالم مهنتنا، سنكتشف ذلك على الفور. ولكن بيع السلعة بسعر أعلى مما تستحقه، هو تماما كبيع سلعة بوزن زائف، وهذا ما ترفضه السلطة. إذا، في حال كشف العمال أنماط احتيال أرباب العمل، سيرغم الأخيرون على إغلاق معاملهم، ولانتاج السلع المتوافقة مع حاجاتنا، يمكن أن يؤدي إلى افتتاح مؤسسات حكومية كبيرة: وذلك سيكون أفضل بكثير.

وفي وقت يردد فيه العامل كل هذا التحليل الجميل، يصل إلى منزله؛ وهنا، بعد أن تناول عشاءه، ذهب إلى سريره، ونام نوما عميقا، وحلم بزوال أرباب العمل وقيام المعامل الوطنية (2).

نم، يا صديقي المسكين، نم بسلام، ما دام لا يزال لديك القليل من الأمل. نم بسلام، يوم خيبة الأمل سيأتي قريبا. ستتعلم قريبا كيف أن رب عملك سيبيع سلعتك بفائدة، دون أن يغش أحدا. حتى هو سيعلمك كيف يمكن لك أن تصبح رأسماليا، رأسماليا كبيرا، وتكون في الوقت عينه صادقا للغاية. ثم إن نومك لن يكون هنيئا. سترى في لياليك رأس المال، ككابوس يضطهدك ويريد سحقك. وبعين مرتعبة ستراه ينمو، كوحش بمئة مخلب يبحث عن مسام جسدك حتى يمص دمك. وأخيرا ستراه يأخذ أحجاما ضخمة للغاية، سوداء ورهيبة، بعينين وفم تبصق النيران؛ وستتحول مخالبه لأنابيب ضخمة، سترى مقتل الآلاف من البشر، الرجال والنساء والأطفال. من جبينك سيتساقط عرق الموت، لأن دورك، ودور زوجتك وأولادك سيأتي قريبا… وستطغى على أنينك الأخير ضحكة مبتهجة للوحش، سعيدا بحالته المزدهرة لأن نذالته قد تضخمت.

لنرجع إلى مالك المال.

هذا البرجوازي، النموذج في النظام والدقة، قد أجرى كامل الحسابات ليوم العمل؛ وهنا كيفية تحديده لسعر 10 كيلو من الخيطان:

لـ 10 كيلو من القطن بـ 3 فرانكات للكيلو= 30 فرنك

لاستعمال وسائل العمل= 4 فرانكات

ولكن فيما يتعلق بالعنصر الثالث الذي يدخل ضمن تكوين سلعته، هذا الرقم الذي سجله لا يندرج ضمن أجر العامل. لأنه يعلم جيدا أن هناك فرقا كبيرا بين سعر قوة العمل ونتاج قوة العمل هذه. راتب يوم العمل لا يمثل كل ما أنتجه العامل خلال يوم العمل. فمالك المال يعلم جيدا أن أجر 3 فرانكات التي يدفعها تمثل الحفاظ على عامله خلال 24 ساعة، ولكن ليس ما أنتجه هذا الأخير خلال 12 ساعة عَمَلَ خلالها في معمله. لأنه يعلم ذلك،تماما كما المزارع يعلم الفرق بين كلفة العناية ببقرة حتى تعطيه الحليب والجبنة والزبدة… قوة العمل لديها هذه الخاصية الفريدة التي تعطي أكثر مما تكلف، ولذلك، على وجه التحديد، ذهب مالك المال إلى سوق العمل لشرائها. والعامل ليس لديه ما يقوله. فقد حصل على سعر عادل لسلعته؛ قانون التبادل جرى احترامه تماما، وليس لديه الحق في التدخل في طريقة استعماله بما يفعله رب عمله بشحمه ولحمه.

لقد افترضنا أعلاه، أنه خلال 6 ساعات عمل يمكن انتاج 15 غراما من الفضة، أي ما يساوي 3 فرانكات. هكذا، إذا خلال 6 ساعات عمل قوة العمل أنتجت 3 فرانكات، فخلال 12 ساعة تنتج 6 فرانكات. هنا الحساب الذي يبين قيمة 10 كيلو من الخيطان:

لـ 10 كيلو من القطن بـ 3 فرانكات الكيلو= 30 فرنك

لاستعمال وسائل العمل= 4 فرانكات

لـ 12 ساعة من قوة العمل= 6 فرانكات

المجموع= 40 فرانكا

وهكذا، يكون صاحب المال قد صرف 37 فرنك، وحصل على سلعة تساوي 40 فرنك: كما ربح 3 فرانكات؛ وماله أنتج له "القليل".

المسألة تم حلها، وهكذا يولد رأس المال.

--

الهوامش:

(1) العبارات بين مزودجين استخرجت حرفيا من كتاب كارل ماركس، رأس المال. [ملاحظة الكاتب جايمس غيللوم الذي ترجم هذا الكتاب من الإيطالية إلى الفرنسية.]

(2) إشارة إلى تعاونيات الإنتاج التي أنشئت في باريس بشباط/فبراير 1848 للعاطلين عن العمل وقد أدى قرار وقفها إلى اندلاع انتفاضة العمال في شهر حزيران/يونيو 1848 [ملاحظة المحرر].


الفصل الثالث: يوم العمل
    

Kazimir Malevich | Flowergirl
الكاتب/ة: كارلو كافيرو.
ترجمه/ته الى العربية: وليد ضو     

بمجرد ولادة رأس المال فإنه يحتاج إلى التغذية حتى يتنامى؛ والرأسمالي، الذي يستمد حياته من حياة رأس المال، سيشعر بالقلق لتأمين الرعاية لهذا الكائن، الذي بات قلبه وروحه، وعليه أن يجد الوسائل الضرورية لإشباعه.

الوسيلة الأولى التي يستعملها الرأسمالي لصالح رأسماله، هي تمديد يوم العمل. من المؤكد، أن يوم العمل له حدوده. بداية، اليوم يتألف من 24 ساعة؛ ومن ثم، من هذه الـ 24 ساعة اليومية، يجب اقتطاع بضعة ساعات التي يستعملها العامل لاسترداد قواه المادية والمعنوية: النوم، وتناول الطعام، وتجديد قواه

"إن الأشكال الممكنة ليوم العمل لا تتجاوز الدائرة التي فرضها المجتمع والطبيعة. ولكن هذه الحدود هي بحد ذاتها مرنة جدا، وتتمتع بحرية كبيرة جدا. لذلك نجد يوم عمل يتألف من 10 أو 12 أو 14 أو 16 أو 18 ساعة، أي أن ثمة مُدَد مختلفة لطول يوم العمل.

"اشترى الرأسمالي قوة العمل بقيمتها ليوم واحد. وقد اكتسب الحق بتشغيلها طيلة يوم بواسطة عامل يعمل في خدمته. ولكن ما هو يوم العمل؟ في كل الأحوال، هو أقل من اليوم الطبيعي (24 ساعة). بكم؟ للرأسمالي وجهات نظر خاصة بشأن الحدود اللازمة ليوم العمل… الوقت الذي خلاله يعمل العامل هو الوقت الذي يستهلك فيه الرأسمالي قوة العمل التي اشتراها. إذا استهلك العامل لصالحه الخاص هذا الوقت، فإنه يكون قد سرق الرأسمالي.

"لذلك يرتكز الرأسمالي على قانون التبادل. فإنه يبحث، كأي مشتر آخر، عن استخراج من القيمة الاستعمالية لسلعته أكبر ربح ممكن. ولكن فجأة يعلو صوت العامل، قائلا:

"السلعة التي بعتها لك تختلف عن مجمل السلع التي تأتي قيمتها من استعمالها، قيمة أكبر من كلفتها. لهذا السبب اشتريتها. وما يبدو لك كقيمة لرأس المال، هو بالنسبة لي فائض في استهلاك قوة العمل. أنا والقانون، لا نعرف في السوق إلا قانون واحد، هو تبادل السلع. استهلاك السلعة لا يتعلق بالبائع الذي يبيع، إنما بالشاري الذي يستحوذ. تحديد استعمال قوة عملي اليومية يتعلق بك. ولكن يجب لقاء معدل سعر البيع اليومي أن أستطيع إعادة إنتاج قوتي لأبيعها من جديد. وبصرف النظر عن الاستهلاك الطبيعي الناجم عن التقدم بالعمر… يجب أن أظل قادرا على العمل غدا كما اليوم، وفق ظروف طبيعية من القوة والصحة والمعنويات. وأنت تحلف دائما مدعيا الطهارة والعفة. جيد! أريد إدارة معقولة ومقتصدة لثروتي الوحيدة، قوة العمل، أريد حفظها والابتعاد عن كل إسراف في استعمالها. لا أريد، كل يوم، خلال تحرك قوة العمل، وتحويلها لعمل، سوى المقدار المتوافق مع مدتها العادية وتطورها المعتاد. وعندما تجري تمديدا غير متناسب ليوم العمل، يمكنك، خلال يوم واحد، استخدام أكبر كمية ممكنة من قوة عملي والتي لا يمكنني إعادة انتاجها في ثلاثة أيام. ما تربحه من العمل، أخسره بجوهر عملي. ولكن استعمال قوة عملي وسرقة هذه القوة هما شيئان مختلفان جدا. إذا كان متوسط حياة العامل العادي تخضع لقاعدة عمل معقولة مدتها 30 سنة عمل، وأنت تستهلك خلال أول 10 سنوات قوة عملي، ولا تدفع لي سوى ثلث قيمتها اليومية، وأنت تسرقني كل يوم بثلثين من قيمة سلعتي. أنت تدفع قوة عمل يوم واحد، في حين تستهلك واحدة خلال ثلاثة أيام. أطالب إذا بيوم عمل ذات مدة معقولة، أقول ذلك دون التودد إلى قلبك، لأنه في عالم الأعمال لا وجود للمشاعر. يمكنك أن تكون برجوازيا نموذجيا، وأن تكون عضوا في جمعية لحماية الحيوانات، وأن تظلل السوق برائحة القداسة: ولكن ما تمثله تجاهي لا علاقة له بالقلب الذي يدق في الصدر. ما يبدو مرتعشا، هو نبضات قلبي أنا. وما أطالبه هو يوم عمل عادي، لأنني أطالب بقيمة بضاعتي، كأي بائع آخر.

"كما نرى، وبغض النظر عن الحدود المرنة للغاية، لا يوجد شيء ضمن طبيعة قانون تبادل السلع، ما يفرض حدودا ليوم العمل، وبالتالي، حدودا للعمل الزائد. الرأسمالي لا يمارس سوى حقه كشارٍ، وعندما يسعى إلى تمديد إلى أكبر قدر ممكن يوم العمل، عندما يريد بيوم عمل تحقيق يومين عمل. من جهة أخرى، فإن الطبيعة الخاصة بالسلعة التي تم بيعها تفرض قيودا على استهلاكها من الشاري، والعامل لا يفعل سوى ممارسة حقه كالشاري عندما يريد تخفيض يوم العمل لمدة معقولة. فينشأ عن ذلك تناقضا، حق الرأسمالي مقابل حق العامل، الأول والثاني يحملان دمغة القانون الذي ينظم تبادل السلع. وبين حقين متساويين القوة هي التي تقرر". (1)

كيف تعمل للقوة، المملوكة اليوم من رأس المال وتعمل لصالحها، هذا ما سنقوله عند عرض الحقائق. الوقائع الواردة في الكتاب مقتبسة من الواقع الانكليزي: أولا، ولأن هذا البلد قد بلغ فيه الانتاج الرأسمالي أقصى تطوره، الحد الأقصى الذي تسعى كل الدول للوصول إليه؛ ثانيا، لأنه فقط في انكلترا يتوفر وثائق مادية تتعلق بظروف العمل، وقد جمعتها بعناية لجان حكومية. ضيق المجال في هذا الملخص لن يسمح لنا سوى بنقل جزء صغير من المواد الغنية التي جمعها ماركس في كتابه.

هنا بعض الحقائق المأخوذة من التحقيقات التي أجريت عام 1860 و1863 في مصنع للسيراميك، و. وود، 9 سنوات، عندما بدأ العمل كان يبلغ عمره 7 سنوات و10 أشهر. يعمل كل أيام الأسبوع، من السادسة صباحا وحتى التاسعة مساءً، أي حوالي 15 ساعة يوميا. ج. موراي، 12 سنة، يعمل بحمل الأشكال وإدارة عجلة القيادة. يبدأ عمله السادسة صباحا، وأحيانا الرابعة صباحا، ويستمر بعمله، أحيانا، حتى اليوم التالي. ليس وحده على هذا الحال، ولكن يشاركه في هذا الوضع 8 إلى 9 أولاد آخرين يُعامَلون مثله. الطبيب تشارلز بيارسون كتب إلى مفوض الحكومة التالي: "لا أستطيع الكلام سوى انطلاقا من ملاحظاتي الشخصية وليس انطلاقا من الإحصاءات؛ ولكنني أؤكد على صدمتي الكبيرة مما يتعرض له هؤلاء الأطفال الفقراء، الذين ضحوا، من خلال عملهم مرهق، بصحتهم لإرضاء جشع أهلهم ومدرائهم". وقد عدد أسباب مرض الخزافين، وختم لائحة الأسباب بالسبب الرئيسي الكامن وراء ذلك، ساعات العمل الطويلة.

في مصانع الكبريت، نصف العمال هم من الأطفال دون 13 من عمرهم ومن الفتيات دون سن الـ 18. هذه الصناعة غير صحية والمقززة لها سمعة سيئة يتعرض لها فقط الجزء الأكثر بؤسا من السكان والذي يؤمن لها الأطفال للعمل فيها. بحسب الشهود الذين استمع إليهم مفوض الحكومة وايت عام 1863، كان هناك 270 عامل أقل من 18 سنة، 40 عامل أقل من 10 سنوات، 10 عمال لم يبلغوا 8 سنوات، و5 عمال عمرهم 6 سنوات. ويتراوح يوم العمل بين 12 و14 و15 ساعة. يعملون خلال الليل؛ ووجبات طعامهم غير منتظمة، ويعملون تقريبا دائما في نفس الغرفة من المصنع، الذي تفوح منه رائحة الفوسفور.

في مصانع السجاد، خلال الموسم الأكثر نشاطا الممتد من تشرين الأول/أكتوبر حتى نيسان/ابريل، يستمر العمل دون انقطاع تقريبا من السادسة صباحا حتى العاشرة ليلا وحتى أكثر من ذلك. في شتاء العام 1862، من بين 19 فتاة، تركت 6 منهن المصنع نتيجة للأمراض الناتجة عن الإرهاق في العمل. لإبقائهم مستيقظين، كنا نضطر إلى هزهم. الأولاد كانوا جد متعبين ولم يكونوا يستطيعون فتح عيونهم. وقد قال عامل أمام لجنة التحقيق التالي: "هذا ابني الصغير، اعتدت أن أحمله على ظهري عندما كان في السابعة من عمره للذهاب إلى المصنع والعودة منه بسبب الثلج، يعمل عادة 16 ساعة! وكنت أركع إلى جانبه، لإطعامه عندما كان بقرب الآلة، لأنه لم يكن يستطيع تركها أو التوقف عن العمل".

في أواخر شهر حزيران/يونيو عام 1863 أثارت صحف لندن الكثير من الضجة حيال مسألة الموت "الناجم عن الإرهاق في العمل"، فهناك عاملة في مصنع للقبعات يبلغ عمرها 20 عاما. كانت تعمل في الأيام العادية 16 ساعة ونصف كل يوم، متوسط العمل اليومي في مصانع القبعات، ولقاء زيادة طفيفة، كان عليها أن تعمل 21 ساعة ونصف دون انقطاع، مع 60 عاملة أخرى. ولكنها ماتت قبل أن تكمل مهمتها. الطبيب الذي أبلغ بعد فوات الأوان، قال إنها توفيت نتيجة لساعات العمل الطويلة في المصنع المزدحم وغرفة نومها الصغيرة جدا ودون تهوئة.

في واحدة من أكثر الأحياء اكتظاظا في مدينة لندن، يبلغ معدل وفيات الحدادين 31 بالألف. هذه المهنة، هي بحد ذاتها لا تقدم إلا كل ما هو مضر بالصحة، أصبحت، بمجرد المبالغة في كثافة العمل، مدمرة للإنسان.

هكذا يستغل رأس المال ويعذب العمال. والأخير بعد أن عانى الكثير، يبحث في النهاية عن وسيلة للمقاومة. فيتجمع العمال ويطلبون من السلطة الاجتماعية تحديد ليوم العمل العادي. يمكننا أن نفهم بسهولة ما يمكنهم الحصول عليه، باعتبار أن القانون وضع وطبق بواسطة أولئك الرأسماليين ضد العمال الذين يرغبون باستعماله [للقانون].

الهوامش:

(1) ماركس- مرجع سابق. العبارات التي وردت بين مزدوجين هي جمع لاقتباسات وردت في كتاب رأس المال، وقد جرى تقريبها من بعضها البعض، وهي جزء من جمل أكبر. بطبيعة الحال، خلال هذه العملية من الجمع والفصل، لا بد من زيادة بعض الكلمات إلى النص. فمن المفيد تنبيه القارىء إلى ذلك. [الملاحظة من كافيرو]


الفصل الرابع: فائض القيمة النسبي
    

Suprematist Painting | Kazimir Malevich
الكاتب/ة: كارلو كافيرو.
ترجمه/ته الى العربية: وليد ضو     

قوة العمل، بانتاجها قيمة أكبر من كلفتها (الأجر)، خلقت رأس المال، وقدمت للرأسمال "غذاءً" كافيا في عمره الأول، وقد تزايد فائض القيمة عن طريق تمديد يوم العمل.

ولكن رأس المال يزداد وفائض القيمة ينبغي أن يزداد لتلبية احتياجاته المتزايدة. وكما رأينا، إن تزايد فائض القيمة لا يعني سوى التمديد ليوم العمل: هذا اليوم، وعلى الرغم من طوله المرن، يصل إلى حده الضروري. في الواقع، ولأن الرأسمالي يعطي وقتا قليلا للعامل لتلبية حاجاته الضرورية للغاية، يبقى يوم العمل دائما أقل من 24 ساعة. يوم العمل له حده الطبيعي، وزيادة فائض القيمة، بالتالي، هي عقبة لا يمكن تجاوزها. لنمثل يوم العمل عن طريق الخط (أ ب )

(أ)------(د)----(ج)-----(ب )

الحرف (أ) يمثل البداية، والحرف(ب) النهاية، أي الحد الطبيعي الذي لا يمكن تجاوزه. (أ ج) يمثل جزء من اليوم الذي خلاله ينتج فيه العامل قيمة راتبه، (ج ب) يمثل جزء من اليوم الذي ينتج فيه العامل فائض القيمة. لقد رأينا أن منتج خيوط القطن، يقبض 3 فرانكات كأجر، وينتج في نصف يوم قيمة راتبه، وفي النصف الثاني ينتج فائض القيمة (3 فرانكات). العمل (أ ج)، الذي ينتج قيمة الأجر، يسمى العمل الضروري، في حين أن العمل (ج ب)، الذي ينتج فائض القيمة، فيسمى فائض قيمة العمل. رأس المال يعيش على فائض قيمة العمل، لأن فائض قيمة العمل هو الذي يخلق فائض القيمة. فائض قيمة العمل يمدد يوم العمل؛ والأخير يصل إلى حده الطبيعي عند النقطة (ب)، التي تمثل العقبة التي لا يمكن أن يتجاوزها كل من فائض قيمة العمل وفائض القيمة. ماذا بعد ذلك؟ الرأسمالي سرعان ما وجد الحل. فقد لاحظ أن فائض قيمة العمل له حدين: الأول: (ب) نهاية يوم العمل؛ والثاني (ج) مدة العمل المطلوبة؛ ولكن بما أن الحد (ب) لا يمكن تجاوزه، فإن الأمر ليس كذلك مع (ج). إذا تمكنا من نقل الحد (ج) إلى النقطة (د)، فنكون بذلك قد زدنا فائض قيمة العمل (ج ب) بطول (د ج)، وفي الوقت عينه خفضنا تبعا لذلك العمل الضروري (أ ج). فائض القيمة وجد الوسيلة للاستمرار بالتزايد، ليس بشكل مطلق كما في السابق، أي بتمديد متزايد ليوم العمل، ولكن عن طريق زيادة فائض القيمة من خلال تخفيض مماثل للعمل الضروري. الأولى تمسي فائض القيمة المطلق، والثانية هي فائض القيمة النسبي.

يستند فائض القيمة النسبي على تخفيض من العمل الضروري؛ تخفيض العمل الضروري يستند على تخفيض الأجر؛ تخفيض الأجور يستند على تخفيض أسعار السلع الضرورية للعامل: إذا يستند فائض القيمة النسبي على خفض قيمة السلع التي يحتاجها العامل.

سيكون هناك وسائل أكثر سرعة لانتاج فائض القيمة النسبي، يقول أحدهم: أن ندفع أجرا للعامل أقل مما يستحقه، أي عدم دفع السعر المناسب لسلعته، قوة العمل. هذه الوسيلة، التي كثيرا ما يتم استخدامها خلال الممارسة العملية، لا يمكننا أخذها بعين الاعتبار، لأننا ندرك أن التحليل الأمثل يمر عبر قانون التبادل، حيث كل السلع، وبالتالي أيضا قوة العمل، يجب أن يتم بيعها وشرائها بقيمتها الحقيقية. الرأسمالي، كما رأينا، هو برجوازي صادق؛ فهو لا يستعمل، لزيادة رأس ماله، وسيلة لا تكون جديرة به تماما.

لنفترض، أنه خلال يوم عمل، ينتج عامل 6 سلع التي يبيعها الرأسمالي بقيمة 7،5 فرنك، لأنه يدخل في قيمة هذه السلعة المواد الأولية ووسائل الانتاج بقيمة 1،5 فرنك وقوة العمل لـ 12 ساعة بقيمة 6 فرنك: العناصر الثلاث مجتمعة تشكل المجموع وقيمته 7،5 فرنك. الرأسمالي يجد في قيمة الـ 7،5 فرنك من مجموع سلعه الستة فائض قيمة يبلغ 3 فرنك، ومن كل سلعة فائض قيمة يبلغ 50 قرشا، لأن أجر العامل يمثل 3 فرنك وينفق على المادة الأولية ووسيلة الانتاج ما مجموعه 1،5 فرنك، ولكل سلعة يكون قد أنفق 75 قرشا ومن كل واحدة يربح 1،25 فرنك. لنفترض أنه مع نظام عمل جديد، أو عبر تحسين النظام القديم، يقوم الرأسمالي بمضاعفة انتاجه، وبدلا من انتاج 6 سلع باليوم ينجح بانتاج 12 سلعة. فإذا ضمن السلع الستة تكون قيمة المواد الأولية ووسائل الانتاج 1،5 فرنك، ولانتاج 12 سلعة يصبح المجموع 3 فرنك، أي ما قيمته 25 قرشا لكل سلعة. هذه الـ 3 فرانكات نضيف إليها 3 فرانكات التي يدفعها الرأسمالي للعامل لاستعماله قوة عمله خلال 12 ساعة تنتج 6 فرانكات، التي تمثل تكلفة 12 سلعة: كل واحدة منها تكلف 50 قرشا، إليها نضيف فائض القيمة على 12= 3\12= أي 25 قرشا: يصبح لكل سلعة قيمة 75 قرشا.

يحتاج الرأسمالي الآن إلى الحصول على المزيد من المال المستحق له من السوق لبيع ضعف كمية بضاعته؛ وقد نجح في تخفيض إلى حد ما قيمة الأخيرة. بعبارات أخرى، الرأسمالي يحتاج إلى التوصل لسبب لكي تباع سلعه في السوق بسعر مضاعف؛ وهذا السبب وفره له الشاري ببيعه بسعر منخفض. فيبيع سلعه بسعر أقل بقليل من 1،25 فرنك، الذي هو السعر السابق، ولكن أكثر من 75 قرشا الذي هو الآن الكلفة الحقيقية للسلعة.

وسوف يبيعها، على سبيل المثال، بسعر 1 فرنك لكل قطعة، ويكون قد ضمن مضاعفة مجموع المال المستحق من سلعه، حيث ربح 6 فرانكات: 3 فرانكات من فائض القيمة، و3 فرانكات تمثل الفرق بين قيمة كل سلعة (75 قرشا) وسعر بيعها (1 فرنك)، مضروبا بـ 12.

كما رأينا استمد الرأسمالي فائدة كبيرة من هذه الزيادة في الانتاج. كل الرأسماليين يهتمون إلى حد كبير في زيادة انتاج صناعاتهم، وهذا ما تمكنوا من القيام به كل يوم في أي نوع من الانتاج. ولكن ربحهم الهائل، الذي يمثل الفرق بين قيمة السلعة وسعر بيعها، يستمر قليلا، لأن النظام الجديد أو نظام الانتاج الجديد سيتغير وسيتبناه الجميع بالضرورة. النتيجة هي أن سعر مبيع البضائع يتم تخفيضه إلى قيمته الحقيقية: ذات مرة كانت قيمة السلعة 1،25 فرنك، وكانت تباع بـ 1،25 فرنك: اليوم لا تساوي سوى 75 قرشا والسلعة لم تعد تباع بـ 1 فرنك، إنما بـ 75 قرشا. ولكن الرأسمالي، إذا لم يكسب من الفرق بين قيمة السلعة وسعر مبيعها، فإنه يحافظ على سلامة مكسبه من فائض القيمة: الأخير موزع على 12 سلعة، بدلا من أن تكون 6 فقط؛ ولكن كما أن انتاج 12 سلعة يحتاج إلى الوقت عينه لانتاج 6 سلع، أي 12 ساعة عمل، فإن فائض القيمة بقي نفسه، ولدينا، بحسب النتيجة الأخيرة، 3 فرانكات من فائض القيمة ليوم عمل من 12 ساعة، ولكن مع انتاج مضاعف.

عند زيادة هذا الانتاج من السلع الضرورية للعمال، فإنه يؤدي إلى خفض سعر قوة العمل، وبالتالي الحد من العمل الضروري، وزيادة فائض قيمة العمل الذي ينتج فائض القيمة النسبي.


الفصل الخامس: التعاون (1 )
    

Kazimir Malevich | Desk and Room
الكاتب/ة: كارلو كافيرو.
ترجمه/ته الى العربية: وليد ضو     

لقد انشغلنا بالفعل بأفعال وحركات الرأسمالي، الذي كان في هذه الأثناء يحقق بالتأكيد ازدهارا لنفسه. لنرجع إلى مصنعه، حيث سنكون سعيدين برؤية غازلنا من جديد. لقد وصلنا. لندخل.

يا للمفاجأة! نحن داخل العمل الآن، ولا نرى عاملا واحدا، إنما الكثير من العمل، حيث يعم الصمت ويقفون بانتظام كعدد كبير من الجنود. لا ينقصهم مفتشين ومراقبين، الذين كالضباط، يمرون بين الصفوف، ينظرون حولهم، يعطون الأوامر ويضمنون تنفيذها في الوقت المناسب. أما الرأسمالي، فلا نرى حتى ظله. لقد فُتِحَ بابٌ زجاجي يؤدي إلى الداخل؛ ربما سيكون هو؟ سنرى. إنها شخصية خطيرة، لكنه ليس الرأسمالي. يسارع المراقبون ويتحلقون حول الوافد الجديد، ويتلقون الأوامر باهتمام شديد. نسمع صوت جرس كهربائي؛ أحد المراقبين يركض ويضع أذنه على طرف أنبوب معدني ينزل من السقف إلى جانب الحائط؛ ويعود فورا ليقول للمدير أن رئيسه يريد التكلم معه. نبحث بين العمال عن صديقنا الغازل؛ اكتشفنا أنه يجلس في زاوية، يمتصه عمله. لقد أصبح شاحبا وهزيلا؛ تعلو وجهه مسحة من الحزن العميق. لقد رأيناه، سابقا، في السوق، يفاوض مالك المال وجها لوجه لبيع قوة عمله؛ ولكن، اليوم، لقد زادت المسافة التي تفصل بينهما! واليوم ضاع صديقنا وسط حشد من العمال داخل المصنع، وسحقه يوم العمل الطويل والمرهق؛ أما صاحب المال، فقد تحول إلى رأسمالي كبير، يجلس على عرشه كإله فوق الأولمب، يرسل أوامره إلى شعبه بواسطة جيش من الوسطاء.

ما الذي حصل؟ بكل بساطة لا شيء. الرأسمالي زاد ماله. الرأسمال ازداد بشكل كبير، ولتلبية الاحتياجات الجديدة، أنشأ الرأسمالي العمل التعاوني، العمل الذي يتطلب وحدة القوى. في هذا المصنع أو غيره حيث تعمل قوة عمل واحدة، نحن نرى اليوم تعاون القوى العاملة. الرأسمال خرج من طفولته، ويقدم للمرة الأولى وجهه الحقيقي.

الفوائد التي يجدها رأس المال في التعاون يمكن تصنيفها تحت أربع خانات:

الفائدة الأولى، ضمن التعاون يحقق رأس المال مفهوم العمل الاجتماعي. القوة الاجتماعية للعمل هي، كما قلنا سابقا، هي متوسط ما يتم أخذه من مركز انتاج معين، بواسطة عدد من العمال الذين يعملون ضمن درجة متوسطة من المهارات، فمن الواضح أن كل قوة فردية للعمل تنحرف أقل أو أكثر من القوة المتوسطة أو الاجتماعية، لذلك لا يمكن تحقيقها إلا من جمع داخل نفس المصنع لعدد كبير من القوى العاملة، -أي، من خلال ممارسة التعاون (2).

الفائدة الثانية، هي اقتصاد وسائل العمل. داخل المصنع نفسه، نفس سخانات المياه… التي كانت تستخدم عاملا واحدا، اليوم تحتاج إلى الكثير من العمال.

الفائدة الثالثة للتعاون هي في زيادة قوة العمل. "كما قوة هجوم مجموعة من الفرسان أو قوة مقاومة فوج المشاة تختلف جذريا عن القوة الفردية المنتشرة المعزولة للفرسان أو للمشاة، أيضا مجموع القوة الميكانيكية للعمال المعزولين يختلف عن القوة الميكانيكية التي تتطور عندما يعمل العمال معا في وقت واحد في عمل واحد غير مجزأ".

الفائدة الرابعة هي في القدرة على الجمع بين القوى حتى يتمكنوا من إنجاز أعمال في حين أن قوة معزولة من المستحيل أن تنجزه، أو تحققه ولكن بشكل غير كامل. من لم يشاهد ماذا يمكن لـ 50 عامل أن ينجزوا خلال ساعة، في حين لا يستطيع عامل واحد إنجاز نفس العمل خلال 50 ساعة متواصلة، أو أن ينقله مسافة قليلة؟ من لم يرَ كيف استطاع 12 عامل تكوين سلسلة بشرية من الأرض حتى سطح أحد المنازل، حيث نقلوا في ساعة واحدة كمية من المواد أكبر بكثير من قدرة عامل واحد على نقلها، من تحت إلى فوق، خلال 12 ساعة؟ من الذي لا يعرف أن عشرين بَنّاءً ينجزون أكثر بكثير خلال يوم عمل، من بَنّاء واحد يعمل خلال 20 يوم عمل؟

"التعاون هو الشكل الأساسي للانتاج الرأسمالي".

--

الهوامش:

(1) استعملت كلمة "تعاون" بمعناها الضيق، أي ببساطة المساهمة في العمل المشترك. في لغة اليوم [1910]، العمل التعاوني يعني عملا ينفذه عمال "الذين، وبدلا من بيع قوة عملهم لرب العمل لقاء راتب، يجمعون مدخراتهم وجهودهم ويبدأون عملا تعاونيا مشتركا حيث يتشاركون الأرباح والخسائر (قاموس Hatzfeld-Darmesteter). هنا ماركس يستعملها بشكل مختلف: حيث يقصد بها استعمال القوة الجماعية في خدمة رب العمل الذي يديرها ويستغلها من أجل الربح. [ملاحظة الكاتب جايمس غيللوم].

(2) الفيلسوف أنطوان ديستو دو تراسي، يسميها "تنافس القوة". [ملاحظة كارل ماركس]


الفصل السادس: تقسيم العمل والتصنيع
    

Kazimir Malevich | Suprematism, 18th Construction
الكاتب/ة: كارلو كافيرو.
ترجمه/ته الى العربية: وليد ضو     

عندما يجمع الرأسمالي في مصنعه العمال الذين ينفذون أجزاء مختلفة من العمل المطلوب لصناعة سلعة، فإنه يعطي للتعاون طابعا خاصا: فهو يقيم أسس تقسيم العمل والتصنيع، التي ليست سوى "بنية الانتاج حيث أعضاؤها هم العمال".

على الرغم من أن التصنيع لا يزال يعتمد على تقسيم العمل، فإنه مع ذلك له مصدرين مزدوجين. في الواقع، في بعض الحالات، يجمع التصنيع في مصنع واحد مختلف العمليات المطلوبة لتصنيع السلع، عمليات بقيت متميزة ومنفصلة عن بعضها البعض، كما لو هي تمثل مهناً مختلفة؛ في حالات أخرى، كانت مقسمة، ولكنها بقيت في نفس المصنع، العمليات المختلفة للعمل التي تشكل في مجموعها صناعة سلعة. "العربة كانت نتاج عمل جماعي للعديد من الحرفيين المستقلين عن بعضهم البعض، مثل، صانع العجلات، الخياط، صانع الأقفال، نحات الخشب، الخراط، صانع الدانتيل، صانع الزجاج، الدهان، الملمع… صناعة العربة جمعتهم كلهم في مكان واحد، حيث عملوا في وقت واحد يدا بيد. لا يمكننا، في الواقع، طلاء عربة قبل أن تصنع؛ ولكن إذا صنعت العديد من العربات يمكننا طلاء العربات التي أنهوا تصنيعها، في حين تمر بقية العربات في مرحلة أخرى من التصنيع". التصنيع قسم صناعة الدبوس إلى أكثر من عشرين عملية جزئية، التي كانت تنفذ بمجموعها بواسطة صانع دبابيس واحد. التصنيع، إذا، جمع العديد من المهن في مهنة واحدة، وأحيانا قسم مهنة واحدة إلى عدة مهن.

التصنيع يضاعف قوى وأدوات العمل، لكنه يجعلها على درجة عالية من التقنية والبساطة، وباستمرار يضعها موضع التنفيذ بواسطة عملية أساسية واحدة.

كبيرة هي الفوائد التي يحققها رأس المال بواسطة التصنيع، من خلال تخصص كل من قوة العمل بعملية واحدة مستمرة وأساسية. قوة العمل تتطلب دقة وكثافة بشكل كبير. كل هذه الفواصل الزمنية التي نجدها، مثل التوقف عن العمل، بين المراحل المتعددة لصناعة سلعة ينفذها شخص واحد، تختفي، عندما ينفذ هذا الشخص دائما نفس العملية. ليس مطلوبا من العامل أن يتعلم كل المهن، إنما فقط عملية واحدة وبسيطة من المهنة، التي يتعلمها بوقت أقل بكثير فيما لو أراد تعلم كل ما يتعلق بالمهنة. هذا الانخفاض في المصاريف والوقت الضروري لإعادة انتاج قوة العمل يؤدي إلى زيادة فائض القيمة. الرأسمالي، الطفيلي عن حق، يزيد ثروته على حساب العمل، أما العامل فيعاني كثيرا.

"التصنيع يثوِر بعمق العمل الفردي، ويهاجم بشدة قوة العمل. ويشوه العامل من خلال تطوير بشكل مخيف البراعة في التفاصيل على حساب مجموعة من المهارات النتاجية، تماما كما في منطقة لا بلاتا [الأرجنتين] نضحي بثور بأكمله من أجل الحصول على جلده أو شحمه.

"ليس فقط العمل ما جرى تقسيمه، وتجزئته وتوزيعه بين مختلف الأفراد، الشخص نفسه جرى تجزيئه وتحويله إلى مهام جزئية، بحيث نرى تحقيق أسطورة مينينيوس اغريبا (Ménénius d’Agrippa)، التي تجسد رجلا مجرد جزء من جسده. دوغالد ستيوارت يعتبر عمال المصنع "كائنات حية موظفة في أجزاء العمل".

"العامل يبيع قوة عمله للرأسمالي، لأنه يفتقر إلى الوسائل المادية للانتاج. الآن قوة عمله الفردية لا وجود لها إلا في حال بيعها. لا يمكن أن تعمل إلا بمجموع لا تجده إلا في مصنع الرأسمالي، بعد أن بيعت. كما كتب على جباه الناس بأن الرب يملكها، كذلك تقسيم العمل يدمغ العامل بختم بأن رأس المال يملكها. وقد قال هنريخ ستورش: "العامل الذي يحمل بين يديه كامل مهنة سيذهب إلى أي مكان ليعمل في صناعة ولإيجاد طرق بقائه؛ الأخرى (المصانع) ليست سوى تابعة، عندما تنفصل عن رفاقها، لا قدرة ولا استقلال لها، وتضطر لقبول القانون الذي يفرض عليها".

"يتم تطوير القوى الفكرية من جانب واحد، لأنها تختفي في الجوانب الأخرى. ما يخسره العمال المجزأين يتركز في الجانب المقابل لهم بيد رأس المال. التقسيم الصناعي للعمل يطرح أمامهم القوى الفكرية للانتاج كملكية الآخرين وسلطة تهيمن عليهم. هذا الانقسام بدأ بالفعل عبر التعاون، حيث تمثل الرأسمالية، تجاه العامل المعزول، الوحدة وإرادة العامل الجماعية؛ فهي تتطور لاحقا في التصنيع، الذي يمزق العامل ويجعله عاملا مجزأً؛ وينتهي في النهاية في الصناعة الكبيرة، التي تفصل علم العمل بجعله قوة انتاج مستقلة عنه وتجنده بخدمة رأس المال.

"ضمن التصنيع، يتم إثراء العمل الجماعي، وبالتالي رأس المال، كقوة انتاج اجتماعية بشرط استنزاف العامل في القوة الانتاجية الفردية".

"الجهل- يقول آدم فيرغسون- هو أب الصناعة. التفكير والخيال عرضة ليتم استبعادهما؛ ولكن عادة تحريك القدم واليد لا ترتبط لا بهذا ولا بذاك. لذا يمكن القول بأن الكمال، بما يتعلق بالصناعة، أن يكون قادرا على تمرير الروح بحيث يمكن اعتبار المصنع كآلة تتشكل أجزاءها من الرجال".

في الواقع، في بعض الصناعات، خلال منتصف القرن الثامن عشر، وللقيام ببعض العمليات البسيطة، التي تشكل سر المهنة، كانت تشغل عمالا شبه معتوهين.

"آدم سميث يقول: "إن روح معظم الرجال تتطور بالضرورة وفقا لمشاغلهم اليومية. الرجل الذي يذهب كل حياته لتنفيذ عمليات بسيطة لا يجد الفرصة لممارسة ذكائه. فهو يصبح بشكل عام غبيا وجاهلا بمقدار ما تمكنه طبيعته البشرية من أن يكون كذلك [الغباء والجهل]". بعد أن وصف العامل بالغباء، يكمل سميث: "إن اتساق حياته الثابتة يشكل مساسا، بالطبع، بجرأة روحه؛ حتى أنها تدر طاقة جسده وتجعله غير قادر على تطبيق قوته بعزم ومثابرة سوى لممارسة العمل التبعي الذي تعلم القيام به. براعته في القيام بالمهمة الخاصة التي أوكلت إليه تبدو كأنه حصل عليها على حساب قواه الفكرية والاجتماعية والدفاعية. في كل مجتمع صناعي ومتحضر، هذه هي الحالة التي يجب أن يقع فيها الفقراء، أي الجزء الأكبر من الناس". لمنع حصول تدهور كامل لحالة الجماهير، نتيجة لتقسيم العمل، يوصي آدم سميث الدولة بتنظيم تعليم الشعب، ولكن فقط عبر جرعات مدروسة بعناية. المترجم والكاتب الفرنسي، جيرمان غارنييه، يناقضه حول هذه النقطة: حيث كان يتحضر هذا المترجم لأن يصبح عضوا في مجلس الشيوخ خلال الامبراطورية الأولى. تعليم الشعب، يقول غارنييه، يضرب القوانين الأساسية لتقسيم العمل، بتأمينه [للتعليم] فإن ذلك يضر بكامل نظامنا الاجتماعي. "كل تقسيم للعمل، يقول غارنييه، الذي نجده بين العمل الميكانيكي والعمل الفكري يعلن عن نفسه بشكل أقوى وأكثر وضوحا حتى يمضي المجتمع"- (هو يستعمل هذه العبارة  للإشارة إلى رأس المال، والملكية العقارية، اللذين تحميهما الدولة)- "قدما نحو دولة أكثر رخاءً. هذا التقسيم، كغيره، هو نتيجة للتقدم المحرز وهو سبب للتقدم المقبل… هل على الحكومة أن تعمل على إحباط تقسيم العمل هذا؟، وتأخير مساره الطبيعي؟ هل عليها استخدام جزء من الأموال العامة في محاولة منها لدمج وخلط فئتين من الطبقة العاملة اللتين تميلان إلى الانقسام"؟

"فيرغسون يقول: "فن التفكير، في الفترة التي يتم فيها فصل كل شيء، بحد ذاته يمكن أن يشكل مهنة على حدة".

"توقف نمو الجسم والعقل لا ينفصل عن تقسيم العمل نفسه، وفي المجتمع بشكل عام. ولكن كما خلال الفترة الصناعية التي تدفع هذا الانقسام الاجتماعي لفروع العمل بعيدا جدا، في الوقت عينه مع الانقسام الخاص بها فإنها تهاجم جذور الفرد حتى حياته، هي التي قدمت منذ البداية المواد والفرصة خلال المرض الصناعي. أستاذ الطب العملي في بادوفا [إيطاليا]، برناردينو راماتسيني، نشر عام 1713 كتابا بعنوان أمراض الحرفيين (De morbis artificum). فهرس أمراض العمال ازداد حجمه كثيرا بطبيعة الحال مع فترة انتشار الصناعة، كما أثبت لاحقا الكتاب الذين جاؤوا من بعده: الدكتور أ. ل. فونتونيل، باريس عام 1858؛ إدوارد رايخ، إيرلانغين [ألمانيا]، عام 1868، وغيرهما، فضلا عن تحقيق أجرته عام 1854 جمعية الفنون في انكلترا، والتقارير الرسمية حول الصحة العامة.

"قال دايفيد أوركوهارت: "إن تقسيم الإنسان، يعني إعدامه، إذا كان يستحق العقوبة، ويعني اغتياله إذا كان لا يستحقها. تقسيم العمل هو اغتيال للشعب".

"وأعلن هيغل وجهات نظر مهرطقة جدا حول تقسيم العمل: "بواسطة الرجال المتعلمين، يجب أن نستمع أولا لأولئك الذين يمكنهم القيام بكل ما يقوم به الآخرون"، بحسب ما ورد في كتابه أصول فلسفة الحق.

"تقسيم العمل، في شكله الرأسمالي، ليس سوى طريقة محددة لانتاج فائض القيمة النسبية، وهذا يعني زيادة على حساب العامل مردود رأس المال، أي ما نسميه الثروة الوطنية. وعلى حساب العامل، فإنه يطور [تقسيم العمل] القوة الانتاجية الاجتماعية للعمل لصالح الرأسمالي حصراً. ويخلق ظروفا جديدة لهيمنة رأس المال على العمل. إذا ظهر، من ناحية، كتقدم تاريخي أو كمرحلة من التنمية الاقتصادية للمجتمع، فإنه في الوقت عينه، ومن ناحية ثانية، وسيلة حضارية ودقيقة للاستغلال".


الفصل السابع: الآلات والصناعات الكبيرة
    

Kazimir Malevich
الكاتب/ة: كارلو كافيرو.
ترجمه/ته الى العربية: وليد ضو     


"قال جون ستيوارت ميل في كتابه مبادئ الاقتصاد السياسي: "يمكننا التساؤل إذا كانت كل الاختراعات الميكانيكية حتى يومنا هذا قد خفضت عمل الإنسان اليومي". ميل يقول: "إن الإنسان لم يتم الحفاظ عليه بواسطة عمل الآخرين"، لأن الآلات من دون شك قد زادت بشكل كبير من عدد العاطلين عن العمل. الهدف من الاعتماد الرأسمالي على الآلات، لم يكن لتخفيف تعب العمال. كما كانت كل التطورات للقوى الانتاجية للعمل، بل إن استخدامها كان بهدف تخفيض أسعار السلع، وذلك لتقصير جزء من يوم العمل الذي يحتاجه العامل حتى يبقى قادرا على العمل، وإطالة الجزء الآخر من هذا اليوم، أي الجزء الذي يعطيه للرأسمالي دون مقابل. هي وسيلة لانتاج  فائض القيمة".

ولكن من الذي يفكر بالعامل؟ إذا كان الرأسمالي يهتم بنفسه، إنما يفعل ذلك فقط لدراسة الطريقة الأفضل للاستغلال. العامل يبيع قوة عمله، والرأسمالي يشتريها باعتبارها السلعة الوحيدة التي، وبواسطة فائض قيمتها، يمكنه من خلق وزيادة رأس المال. الرأسمالي، إذا، لا يهتم بشيء إلا بانتاج فائض القيمة بكميات أكبر من أي وقت مضى. بعد استنفاد موارد فائض القيمة المطلق، وجد فائض القيمة النسبي. وهو الآن يرى أنه يستطيع، بواسطة الآلات، الحصول في الوقت نفسه على انتاج مضاعف، مرة، ومرتين وخمس مرات أكبر من ذي قبل؛ فيعتمد على الآلات. التعاون، والتصنيع يتحول ليصبح صناعة كبيرة، والمشغَل يصبح صناعة.

الرأسمالي، وبعد أن شوه العامل بواسطة تقسيم العمل، وبعد أن اقتصر ذلك على تنفيذ عملية جزئية واحدة فقط، يحضر لنا مشهدا أكثر حزنا. فينتزع من يدي العامل امتيازه الوحيد الذي كان لا زال يذكره بفنه، حالته السابقة كإنسان كامل، ويعطيه للآلة. بدلا من أن يعطي للآلة القوة الدافعة، تاركا للعامل تنفيذ العمل، فإنه يجعل من الآلة نفسها جهاز التشغيل اليدوي، ولا يترك للعامل وظيفة أخرى سوى الإشراف، وأحيانا التشغيل.

مع استعمال الآلات، فإن الرأسمالي يحقق بداية أرباحا هائلة، كما فهمنا بسهولة إذا تذكرنا ما قلناه عن فائض القيمة النسبي. ولكن مع انتشار نظام الانتاج الميكانيكي، فيتوقف الربح الاستثنائي، وتبقى فقط الزيادة في الانتاج، وذلك بسبب انتشار الآلات، وذلك يقلل من قيمة الأشياء الضرورية للعامل، وبالتالي مدة العمل الضروري، ومعدل الأجور، ويزيد بالتالي من فائض القيمة وفائض العمل.

رأس المال يتميز بكونه يتألف من رأس المال الثابت ورأس المال المتحرك. نسمي رأس المال ثابتا ذلك الذي يمثل وسائل العمل والمواد الأولية. أما الأبنية، وسخانات المياه، والأدوات، والمواد اللازمة كالشحم والفحم والزيت…، والمواد الأولية مثل الحديد والقطن والحرير والخشب…، كل هذه الأشياء تشكل جزءا من رأس المال الثابت. رأس المال المتحرك يتمثل بالأجر، أي سعر قوة العمل. الأول يسمى ثابتا، لأن قيمته تبقى ثابتة في قيمة السلعة التي هي جزء منها؛ في حين الثاني يسمى متحركا، لأن قيمته تزداد عبر دخولها كجزء مكون من قيمة السلعة. رأس المال المتحرك الذي خلقه فائض القيمة؛ والآلة لا يمكن إلا أن تكون جزءا من رأس المال الثابت.

الرأسمالي يعتزم، داخل الصناعة الكبيرة، أن يستفيد من القدر الهائل من العمل الماضي، وفي الوقت عينه الاستفادة من مجموع القوى الطبيعية، أي مجانا. ولتحقيق هذا الهدف، ثمة حاجة إلى تقنية، تتألف من مواد غالية الثمن إلى هذا الحد أو ذاك، وتستوعب كمية معينة من العمل. لكنه لا يحتاج إلى شراء قوة البخار، أو الخصائص الأساسية للمياه والهواء؛ ولا يحتاج لشراء الاكتشافات وتطبيقاتها الميكانيكية، ولا يحتاج لشراء الاختراعات والتحسينات على أدوات المهنة. يمكنه استخدام كل ذلك، كما يريد، دون أي حساب؛ يكفي الحصول على التقنية المناسبة. الآلة، كما قلنا، تشكل جزءا من رأس المال الثابت؛ والنسبة التي تساهم في تكوين قيمة السلعة هي بعلاقة مباشرة باستهلاكها والمواد اللازمة لها كالفحم والشحم…، وبعلاقة عكسية مع قيمة السلعة. وهذا يعني أنه كلما كان استهلاك الآلة كبيرا واستهلاك المواد اللازمة في انتاج سلعة، كلما كانت الآلة مرتبطة بقيمة الأخيرة؛ في حين كلما كانت قيمة السلعة التي تنتجها كبيرة، كلما كان قليلا، بشكل متناسب، الجزء من القيمة المرتبط بالسلعة من استهلاك الآلة.

"إذا كان الاستهلاك اليومي لمطرقة البخار، واستهلاكها للفحم…، يتوزع على مجموعة كبيرة من الحديد المسحوق، كل قنطار من الحديد لا يشمل إلا جزءا صغيرا من القيمة [قيمة الاستهلاك]؛ هذا الجزء سيكون كبيرا بشكل واضح، إذا كانت هذه الآلة العملاقة [مطرقة البخار] تحطم المسامير الصغيرة".

عندما تتوقف، عبر تعميم نظام الصناعة الكبيرة، الآلة عن أن تكون مصدرا مباشرا للربح الهائل للرأسمالي، الأخير ينجح في إيجاد طرق عديدة التي تمكنه من الاستمرار بالحصول على فائض القيمة من هذه الطريقة الجديدة للانتاج.

"رأس المال، بمجرد استحواذه على الآلة، يصرخ قائلا: "العمل للنساء، العمل للأطفال!" هذه وسيلة فعالة للحد من عمالة الرجال وبالتالي تتغير عبر زيادة عدد العمال؛ بحيث يضم كل أعضاء الأسرة، دون تمييز على أساس العمر أو الجنس، كلهم تحت عصا رأس المال. العمل القسري لرأس المال لا يسلب فقط ألعاب الطفولة، إنما أيضا العمل الحر داخل العائلة ومن أجلها.

"يتم تحديد قيمة قوة العمل بواسطة الوقت المطلوب ليس فقط للحفاظ على العامل الراشد، إنما أيضا على عائلته. عبر رمي جميع أفراد الأسرة في السوق، الآلة تقسم قيمة قوة عمل الرجل لتوزيعها على جميع أفراد عائلته؛ تخفض بذلك قيمة قوة عمل العامل. شراء أربع قوى عمل التي من خلالها تستطيع الأسرة، على سبيل المثال، أن تكون مجزأة، تكلف أكثر من تكلفة شراء قوة عمل رب الأسرة؛ ولكن كما حلت أربعة أيام عمل مكان يوم عمل واحد، وقيمتها انخفضت بما يتناسب مع الزيادة في فائض عمل أربعة عمال نسبة لفائض عمل عامل واحد. أربعة أشخاص يوفرون الآن لرأس المال ليس فقط العمل، إنما أيضا فائض العمل، لتستطيع عائلة واحدة العيش. الآلة، بزيادة إمكانيات استثمار رأس المال، أي القدرة على الاستثمار في الموارد البشرية، تزيد في الوقت عينه من درجات الاستغلال.

"إن الاستعمال الرأسمالي للآلات يؤثر بشكل كبير في العقد، الذي شرطه الأول كان أن يظهر الرأسمالي والعامل إزاء بعضهما البعض كرجلين حرين، كمالكين مستقلين لسلع، الأول يملك المال ووسائل الانتاج، والثاني قوة العمل. ولكن اليوم يشتري رأس المال من القاصرين وشبه القاصرين. العامل يبيع مسبقا قوة عمله، التي كان يستطيع التصرف بها بشكل حر. اليوم فإنه يبيع زوجته وأولاده. لقد أصبح تاجرا لعبيد.

"إذا كانت الآلة الوسيلة الأقوى لزيادة انتاجية العمل، أي لتقصير وقت العمل الضروري لانتاج سلعة، فقد أصبحت، كسند لرأس المال، ضمن فروع الصناعة التي تتولاها، الوسيلة الأقوى لتمديد يوم العمل أبعد من الحد الطبيعي. وسيلة العمل، التي باتت الآن الآلة، تقوم مستقلة تجاه العمال. شغف وحيد يحرك الرأسمالي: يريد الحد من العقبة التي تواجه الطبيعة الإنسانية- الطبيعة المقاومة، ولكن المرنة- إلى حد أدنى من المقاومة. السهولة الظاهرة للعمل بواسطة الآلة، والعنصر الأكثر قابلية للإدارة والانصياع هم/ن النساء والأولاد، الذين/اللواتي تستعبدهم/ن هذه الآلة.

"إن الاستهلاك المادي للآلات يتمثل بجانبين. فالآلات تستهلك، من جهة، بسبب استخدامها، كقطع من العملة من خلال تداولها؛ ومن جهة ثانية، من خلال عدم استعمالها، كسيف صدئ في غمده؛ هذه هي طرق تدمير الآلة. النوع الأول من الاستهلاك هو بطريقة مباشرة إلى هذا الحد أو ذاك، والنوع الثاني، هو لدرجة معينة، على العكس من طريقة استخدامه. تخضع الآلة لما يمكن تسميته الاستهلاك الأخلاقي. فهي تفقد قيمتها التبادلية إزاء آلات أخرى يمكن أن تكون مصنوعة بسعر أرخض، أو إزاء آلات متطورة تنافسها".

لإصلاح الأضرار التي أصابت الآلة، يحتاج الرأسمالي إلى تشغيل آلته أكثر ما يمكن، وهو يبدأ، قبل كل شيء، بتمديد يوم العمل، من خلال تشغيل عماله خلال الليل واعتماد نظام المناوبة. والأخير كما يدل اسمه عليه، شبيه باستبدال الخيول التي تنقل البريد، وهذا النظام يعني أن العمل ينفذه فريقين من العمال كل فريق يتغير بعد مرور 12 ساعة، أو بواسطة ثلاث فرق من العمال كل فريق يتغير بعد مرور 8 ساعات، بحيث لا يتوقف العمل طيلة 24 ساعة. هذا النظام، الشديد الربحية، اعتمد لأول مرة عند ظهور الآلات، حيث استعجل الرأسمالي لجمع على أكبر كمية من الأرباح الهائلة، التي تراجعت بعد تعميم استعمال الآلة.

إذا، يزيل الرأسمالي بفضل الآلات جميع عقبات الوقت، وكل حدود يوم العمل، التي فرضت داخل المصنع على العمل. وعندما وصل إلى الحد الطبيعي لليوم، أي إلى استعمال الـ 24 ساعة، فإنه وجد وسيلة لتحويل يوم عمل واحد إلى يومين، ثلاثة، أربعة أيام، وأكثر من ذلك، من خلال تكثيف العمل مرتين وثلاث وأربع مرات. في الواقع، إذا كان خلال يوم عمل وجد وسيلة حتى ينفذ العامل العمل مرتين، أو ثلاث، أو أربع مرات أكثر من السابق، من الواضح أن يوم العمل القديم يمثل يومين، ثلاثة، أربعة أيام عمل. والرأسمالي يجد وسيلة للقيام بذلك، مما يجعل، كما قلنا سابقا، العمل أكثر شدة، من خلال تكثيفه، بعبارة أخرى، في يوم عمل واحد يومين، ثلاثة، أربعة أيام. من خلال الآلات يحقق هذه النتيجة.

"إن تطوير المحرك البخاري قد زاد من عدد ضربات المكبس في الدقيقة، وسمح في الوقت عينه، بتحقيق اقتصاد أكبر للقوة، من خلال الشروع في اعتماد تقنية بشكل فعال مع نفس المحرك، من دون زيادة استهلاك الفحم، وحتى خفضه. تطوير تقنية جهاز نقل الحركة قد خفف من الاحتكاك، وقد خفف من قطر ووزن الأدوات المكونة للآلة…، وبالحد الأدنى المتناقص دائما؛ تمكنا من تسريع القوة المتزايدة للمحرك لكافة فروع الآلة. مع زيادة السرعة وقوة عمل الآلة، تمكنا من تخفيض حجم الآلة، كما هو الحال مع النول الحديث، أو زيادة، عبر تكبير الهيكل، حجم الأدوات في آلة الغزل، او زيادة مرونة الأدوات عن طريق إدخال تعديلات على التفاصيل كتلك، نحو عام 1837، التي زادت خمس مرات تقريبا سرعة المغزل في النول الآلي.

"عام 1836، قال أحد الصناعيين الإنكليزيين: "بالمقارنة مع الماضي، زاد بشكل ملحوظ المجهود المطلوب للقيام بالعمل الصناعي، نتيجة تزايد درجة الانتباه والنشاط المطلوب من العامل بفعل زيادة سرعة الآلات". عام 1844، قال اللورد آشلي في مجلس العموم: "إن عمل العمال المستخدم في عمليات الصناعة هو اليوم أكبر بثلاث مرات مما كان عليه عندما تم إدخال هذه العمليات. الآلات، مما لا شك فيه، حلت مكان أوتار وعضلات الملايين من الناس الذين خضعوا لحركتها الرهيبة".

"في المصنع، البراعة في التعامل مع الأدوات تنتقل من العامل إلى الآلة… الفرق الأساسي الذي يصنف الشغيلة كعمال يعملون على الآلات-الأدوات (بصرف النظر عن بعض العمال المسؤولين عن المراقبة وتشغيل المحرك الرئيسي) وإلى مجرد مشغلين خاضعين (بأغلبهم من الأولاد) للأوائل. يخضع لهؤلاء المشغلين الخاضعين ما يمكن أن نسميهم المزودين، المسؤولين عن إحضار المواد الأولية اللازمة للصناعة. إلى جانب هاتين الطبقتين الكبيرتين لدينا عدد قليل من الأشخاص المسؤولين عن مراقبة كل المعدات الميكانيكية وإجراء التصليحات الضرورية، كالمهندسين والميكانيكيين والنجارين… هذه الطبقة هي أعلى من العمال، وبعضهم حصل على تعليم علمي، والبعض الآخر يمارس مهنة: يبقون خارج دائرة عمال المصنع، وهم ليسوا إلا محاذين لهم.

"عمل الآلة يتطلب أن يتفرغ العامل منذ وقت مبكر لهذا النوع من العمل، حتى يتمكن من تنظيم الحركة بشكل مستمر ومنتظم… السرعة التي يتعلم فيها الأولاد عمل الآلة يلغي الحاجة إلى فئة معينة من العمال لهذا النوع من العمل… التخصص الذي كان يتطلب أن تتحول حياة العامل إلى أداة مجزأة، أصبح الآن تخصصا حتى تخدم حياته أداة مجزأة. نسيء استخدام الآلة حتى نحول العامل نفسه، ومنذ طفولته، إلى جزء من آلة مجزأة. لا تنخفض فقط التكاليف اللازمة لإعادة انتاج حياته، ولكن في الوقت عينه تصبح تبعيته كاملة للمصنع، ككل هو جزء منه، وبالتالي للرأسمالي، حيث يتم استهلاكه.

"في المصنع وفي المهنة، يستخدم العامل كآلة؛ في المشغل، يكون هو الآلة. هنا، حركة أداة العمل تنطلق منه؛ وهنا، يجب أن يخضع لهذه الحركة. في المصنع، يشكل العمال أعضاء لآلية حية. في المشغل، هناك آلية ميتة، مستقلة عنهم، وهم بمثابة ملحقات حية لها… سهولة العمل نفسها تصبح أداة تعذيب، لأن الآلة نفسها لا تحرر العامل من العمل، إنما تحرم عمله من مضمونه… بالتحول إلى العمل الآلي، تكون أداة العمل بالنسبة للعامل، خلال العمل نفسه، مثل رأس المال، مثل العمل الميت، مسيطرة وممتصة لقوة العمل الحية.

"الفصل بين القوى الفكرية للانتاج عن العمل اليدوي، وتحويل الأولى إلى قوى هيمنة رأس المال على العمل، يكتمل، كما سبقت الإشارة، في الصناعة الكبيرة القائمة على الآلات. مهارة العامل التفصيلية، بمساعدة الآلة، تختفي وتصبح ملحقا غير مرئي، أمام العلم، والقوى الطبيعية المذهلة، وأمام العمل الاجتماعي الهائل الذي يتم داخل الآلة والذي يشكل إلى جانبها القوة السيدة. هذا السيد داخل عقله حيث الآلة والاحتكار الممارس عليها غير مفصولين، يمكنه أن يقول لعماله، في حالة النزاع، هذه الكلمات المحتقرة: "يجب على عمال المصنع أن يحافظوا على ذاكرة حية لحقيقة أن عملهم هو في الواقع أقل شأنا؛ وليس هناك ما يمكن تعلمه بسهولة أو أن يكون مدفوع الأجر على نحو أفضل، أو من خلال تدريب قصير مقدم إلى من هم أقل حبرة، يمكنهم أن يستوعبوه بسرعة. آلات السيد تمثل في الحقيقة عاملا أكثر أهمية للانتاج من عمل ومهارة العامل، ومن ستة أشهر تعليم، ومما يمكن لأي عامل أن يتعلمه". (تقرير لجنة صندوق الدفاع عن أصحاب المغازل والمصانع، مانشستر، 1854)

"إن التبعية التقنية للعامل للمسيرة الموحدة لأداة العمل، والتكوين الخاص لعدد من العمال، المؤلفين من الجنسين ومن كل الأعمار، يخلق انضباطا عسكريا ويولد نظام المصانع؛ هنا، نرى وصول هذا التنظيم للمراقبة إلى أعلى درجات تطورها، وكما أشرنا سابقا، تقسيم العمال بين عمال يدويين وعمال مشرفين، إلى جنود عاديين ورتباء في الجيش الصناعي. الدكتور [أندرو] أور، المنشد الشاعري لحسنات نظام المصانع يقول عن ذلك: "إن الصعوبة الرئيسية في المصنع الميكانيكي، تتوقف على الانضباط اللازم لرفض السماح للرجال بعدم انتظام عملهم وملاءمتهم للانتظام غير المتغير للآلة الكبيرة. ابتكار ووضع موضع التنفيذ ناجح لقانون انضباط لتلبية حاجات وسرعة النظام الآلي كمؤسسة جديرة بهرقل". ضمن نظام المصنع، الرأسمال يصيغ التشريع الخاص، وتحت إرادته، يمارس الاستبداد على العمال، دون الانشغال بمبدأ فصل السلطات، المبدأ العزيز جدا على قلب البرجوازية، ولا يهتم بالنظام التمثيلي التي تدافع عنه كثيرا. يتم استبدال سوط قائد العبيد بكتيب عقوبات مادية على شكل غرامات أو خصومات من الأجر".

فريدريك إنجلز قال: "العبودية التي تتعرض لها البروليتاريا على يد البرجوازية لا تظهر بشكل واضح بمقدار ظهورها في المصانع. هنا تتوقف الحرية، بقوة القانون والواقع. يجب على العامل أن يكون في المصنع من الساعة 5 ونصف صباحا؛ إذا تأخر بضعة دقائق، فيعاقب؛ إذا تأخر 10 دقائق، فلن يسمحوا له بالدخول حتى الفطور ويخسر ربع راتبه اليومي. يجب أن يأكل ويشرب وينام عندما يطلب منه ذلك… الصانع هو المشرع المطلق. هو الذي يضع القوانين التي تعجبه؛ ويعدل قانونه ويضيف عليه ما يحلو له؛ ويدرج أحكاما فظيعة، والمحاكم لا تقول شيئا للعامل: "منذ كنت قد وافقت بكل حرية على هذا العقد، يجب أن تخضع له". هؤلاء العمال أرغموا على العيش من عمر 9 سنوات وحتى مماتهم تحت سلطة روحية ومادية". (حالة الطبقة العاملة في انكلترا، 1845).

"لنأخذ على سبيل المثال حالتين حصلتا في المحاكم. في شفيلد [المملكة المتحدة]، عام 1866، تم التعاقد مع عامل لمدة عامين في مصنع للصناعات المعدنية. وبعد خلاف مع صاحب المصنع، ترك المصنع، معلنا رفضه التام لمواصلة العمل لصالح مديره. فلوحق لخرقه بنود عقد العمل، وحكم عليه بالسجن لمدة شهرين. (إذا خرق صاحب المصنع العقد، فلا يمكن ملاحقته إلا أمام المحاكم المدنية، ولا يعاقب إلا بدفع التعويضات). ما إن خرج العامل من السجن، أمره صاحب المصنع بالعودة إلى العمل بموجب العقد القديم. فرفض العامل، قائلا إنه قضى مدة عقوبته. وجرت ملاحقته والحكم عليه من جديد، على الرغم من أحد القضاة، السيد شي، قد ندد علنا بالقضية محتجا على المبالغة القضائية، والتي بموجبها يمكن الحكم عليه بشكل دوري لمدى حياته لنفس الجنحة. هذا الحكم لم يتخذ من قبل قضاة ريفيين جاهلين، إنما من جانب إحدى أعلى المحاكم في لندن.

"الحالة الثانية حصلت في ويلتشاير [المملكة المتحدة]، في تشرين الثاني/نوفمبر عام 1863. حوالي 30 عاملة في مصنع للنسيج يملكه رجل من عائلة هاروب، يصنعن فيه قماشا، بدأن إضرابا لأن هاروب اعتاد على الخصم من رواتبهن كلما وصلن بوقت متأخر في الصباح، بقيمة ستة بنس لكل دقيقتين تأخير، وشيلينغ لكل ثلاث دقائق، وشيلينغ وستة بنس لعشر دقائق: لكن معدل أجر هؤلاء العاملات كان حوالي 10 إلى 12 شيلينغ بالأسبوع. هاروب كلف ولدا صغيرا لقرع الجرس في الصباح؛ وهذا الأخير كان يقرعه في بعض الأحيان قبل الساعة السادسة، وبمجرد توقفه، تغلق الأبواب، والعاملات اللواتي لم يدخلن يصبحن عرضة للغرامة؛ وبما أنه لا يوجد ساعة داخل المصنع، فكانت العاملات تحت رحمة قارع الجرس، الذي يعمل بأوامر هاروب. بدأت العاملات إضرابا، أمهات وفتيات، وأعلن أنهن لن يعاودن العمل إلا في حال استبدل قارع الجرس بساعة، وأن تصبح الغرامات بمعدلات معقولة. فلاحق هاروب 19 عاملة أمام القضاء لإخلالهن بشروط العقد. وقد حكمت كل واحدة منهن بغرامة وقدرها ستة بنس و2 شيلينغ وستة بنس كتكاليف، في ظل إدانة الحضور. وقد لاحقت هاروب صفارات الجمهور المستهجن، عندما خرج من المحكمة". الآثار المحزنة للتصنيع والصناعة الكبيرة كان العمال قد توقعوا حدوثها، كما يتضح من الترحيب الذي أبدوه عند كل ظرف للآلات الأولى:

"في القرن السابع عشر وقعت ثورات في كل أوروبا عند دخول آلة نسج الخيطان والقماش، التي جرى اختراعها في ألمانيا، وقد سميت بـ باندموهل أو بانستوهل. الأب لانشيلوتي ذكر في كتابه الذي ظهر في البندقية عام 1636: "أنطوان مولر، من دانزيغ، قد رأى في هذه المدينة منذ خمسين عاما (لانشيلوتي كتب كتابه عام 1579) آلة بارعة جدا، تنجز 4 إلى 6 أقمشة في وقت واحد؛ ولكن مجلس المدينة، خشي وقتها من أن هذا الاختراع سيدفع العديد من العمال إلى التسول، فمنع الاختراع وخُنِق أو أُغرِق المخترع".

"عام 1629، الآلة نفسها استعملت للمرة الأولى في لايدن [هولندا]؛ فقام النساجون بأعمال شغب مجبرين البلدية على حظر استعمالها. قال بوكسهورن عن ذلك: "في هذه المدينة، أحدهم اخترع منذ عشرين عاما آلة نسيج يستطيع عامل واحد صناعة الكثير من القماش، وبطريقة سهلة جدا، فيما لو قام العديد من العمال بالعمل نفسه. بدأت المشاكل بين النساجين، حتى جرى منع استعمال هذه الآلة من قبل قاضي التحقيق". بعد أن صدرت عدة قرارات تمنع استعمال هذه الآلة، عامي 1632 و1639… قررت السلطات العامة السماح باستعمالها، تحت شروط معينة، في 15 كانون الأول/ديسمبر عام 1661.

"جرى حظر استعمال هذه الآلة في كولونيا عام 1676؛ وأثار البدء بالعمل بها في انكلترا في الفترة نفسها الكثير من الاضطرابات بين النساجين. وصدر مرسوما امبراطوريا في 19 شباط/فبراير عام 1685 يحظر استخدامها في جميع أنحاء ألمانيا. في هامبورغ أحرقت علنا بأمر من مجلس المدينة. في شباط عام 1719 جدد الامبراطور شارل السادس مرسوم عام 1685؛ وبقي ذلك حتى عام 1765 حين سمح باستخدامها في ولاية سكسونيا.

"هذه الآلة التي خلقت الكثير من الضجة في العالم كانت الشرارة لاختراع الكثير من الآلات في صناعة النسيج والخيوط، خاصة خلال الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر. وقد كان يمكن لصبي صغير لا يعرف شيئا عن مهنة النسيج، بأن يضع في المكان المناسب المكوكات، ويحرك ذراع التدوير ذهابا وإيابا، وتنسج لوحدها، بشكل متقن، 40 إلى 50 قطعة في وقت واحد.

"عند نهاية الثلث الأول من القرن السابع عشر، دمرت جموع من الناس طاحونة رياح التي أنشأها الهولنديون في ضواحي لندن. أيضا عند بداية القرن الثامن عشر، نجت طاحونة مياه بصعوبة في انكلترا من المقاومة الشعبية المدعومة من البرلمان. وعندما بنى إيفيريت عام 1758 أول آلة تعمل على حركة المياه لجز الصوف، فذهب مئة ألف رجل حُرِموا من عملهم بسببها وأحرقوها. وقدم خمسين ألف مواطن يعيشون من تمشيط الصوف عريضة إلى البرلمان ضد آلات أركرايت لتمشيط الصوف. تدمير العديد من الآلات في المناطق الصناعية الانكليزية، خلال بداية القرن التاسع عشر، قدم للحكومة الحجة لأن تصف ذلك بالعنف الرجعي.

"الأمر يتطلب بعض الوقت والتجربة قبل أن يوجه العمال هجماتهم، بعض أن علموا التمييز بين الآلة واستخدامها لصالح الرأسمالية، ليس ضد وسيلة الانتاج نفسها، إنما ضد الشكل الاجتماعي للاستغلال".

هذه هي نتائج الآلات والصناعة الكبيرة على العمال. الأخيرون، بداية، طردوا بأعداد كبيرة من المصانع، وحلت مكانهم الآلة. العدد القليل من الذين استمروا في العمل تعرضوا للإذلال لأن أيديهم قد جردت من آخر وسيلة عمل، وسخروا لخدمة الآلة؛ يجب أن يتحملوا العبء المتزايد ليوم العمل؛ التخلي عن زوجاتهم وأولادهم، الذين/اللواتي باتوا وبتن عبيدا للرأسمال؛ وأخيرا، تحمل معاناة تفوق الوصف التي يولدها العمل المكثف المدفوع من الشغف المجنون بفائض القيمة الذي أغرى الرأسمالي خلال حقبة الصناعة الكبيرة. ولكن علماء الدين لم يفشلوا في التمجيد لرأس المال-الإله، عبر تفسير وتبرير كل شيء وفق ما يسمونه بـ "القوانين الأزلية". بمواجهة الصرخة اليائسة للعمال المتعبين من الآلة، يجاوبون بالإعلان عن "قانون التعويض" الغريب من نوعه:

"دعمت كتيبة من الاقتصاديين البرجوازيين، مثل: جايمس ميل، ماك كولوخ، تورينس، سينيور، جون ستيوارت ميل…، فكرة أن الآلة، عندما تطرد العمال من المصنع، تجعل دائما متاحا، في وقت واحد وبالضرورة، لرأس المال إمكانية توفير فرص عمل جديدة لهؤلاء العمال أنفسهم.

"لنفترض أنه في مصنع للسجاد وظف رأسمالي 100 عامل، ويدفع لكل منهم أجرا سنويا بمقدار 30 جنيه استرليني؛ رأس المال المتحرك الذي صرفه يصل إذا إلى 3000 جنيه استرليني. فيصرف 50 عامل، ويوظف 50 عامل جديد لإدارة الآلات التي تكلفه 1500 جنيه استرليني. لتسهيل المثل، سأضع جانبا البناء والفحم… لنفترض أكثر أن المواد الأولية المستخدمة تكلف، كما كان من قبل، 3000 جنيه استرليني. من خلال هذا التحول، هل جرى تحقيق رأس المال المتاح؟ في النمط القديم للاستغلال، كان مجموع المبلغ المستخدم، كرأس مال ثابت ورأس مال متحرك، 6000 جنيه استرليني. اليوم يتألف من 4500 جنيه استرليني من رأس المال الثابت (3000 جنيه استرليني للمواد الأولية، و1500 جنيه استرليني للآلات)، و1500 جنيه استرليني من رأس المال المتحرك (أجور 50 عامل). العنصر المتحرك قد انخفض من نصف إلى ربع مجموع رأس المال. وبعيدا من جعله متاحا، نجد أن رأس المال المتألف من 1500 جنيه استرليني قد كف عن أن يكون تبادليا لقاء قوة العمل، أي تحوله من رأسمال متحرك إلى رأسمال ثابت. في المستقبل، مجموع رأس المال من 6000 جنيه استرليني لا يوظف أبدا أكثر من 50 عامل، إنما يوظف عددا أقل مع تطور للآلة.

"إذا كانت تكلفة الآلات الحديثة المستخدمة تبلغ مجموع قوة العمل المخفضة والوسائل التي كانت تستعملها، على سبيل المثال 1000 جنيه استرليني عوضا عن 1500، فسيتم تحويل رأسمال متحرك من 1000 جنيه استرليني إلى رأسمال ثابت، ورأسمال من 500 جنيه استرليني يصبح متاحا. هذا الأخير، وفي وقت بقي الأجر كما هو، يمكن أن يسمح بتشغيل حوالي 16 عامل، في حين جرى فصل 50 عامل، حتى يتمكن من تحويل ذلك إلى رأسمال، يجب أن يوظف جزء من الـ 500 جنيه استرليني المتاحة كرأسمال ثابت، وسائل عمل، ومواد أولية…، ولا يبقى إلا جزءا يمكن استخدامه، كرأسمال متحرك، لدفع قوة العمل.

"إن صناعة الآلة يوفر عملا لعدد معين من العمال الميكانيكيين الذين ما كانوا ليحصلوا عليه من دونها: ولكن هل ذلك هو تعويض لعمال مصنع السجاد الذين ألقي بهم في الشارع؟ في جميع الحالات، صناعة الآلة تتطلب عددا أقل من العمال من الذين طردوا. مبلغ الـ 1500 جنيه استرليني، الذي يعود إلى عمال المصنع المصروفين، لا يمثل سوى الأجور، ويمثل، بالنسبة إلى الآلة، ثلاثة عناصر مختلفة: القيمة الناتجة من وسائل الانتاج الضرورية للصناعة، وأجر العمال الميكانيكيين، وفائض القيمة التي وضعها صاحب العمل في جيبه. بالإضافة إلى ذلك، متى ما صنعت الآلة لن يتم تكرار صناعتها إلا متى تعطلت عن العمل، ولإشغال العمال الميكانيكيين بشكل دائم التي صنعوها، يجب أن تستبدل بقية المصانع، الواحد تلو الآخر، العمال بالآلات.

"ولكن منظري التعويض لا يريدون في الحقيقة الكلام عن توافر رأس المال الذي تكلمنا عنه للتو. فهم يسعون إلى أمر آخر: سبل العيش المرتبطة بالعمال المطرودين. في الواقع، لا يمكن أن ننكر، أنه في مثالنا، الآلة لم تجعل فقط من خمسين عامل "متاحين"، إنما أيضا كسرت العلاقة بين الأخيرين وسبل العيش بقيمة 1500 جنيه استرليني؛ سبل العيش هذه، التي لن يستهلكها العمال لأنهم فقدوا أجرهم، هي التي باتت "متاحة".

هذا هو الواقع في قصتنا الحزينة! حرمان العامل من سبل عيشه، وجعل "متاحا" ما كان يجب أن يغذي العامل، هذا الأمر يسمى، بلغة الاقتصاديين، أن يتاح، بواسطة الآلة، لرأس المال المخصص لاستبدال العامل. نراه، يرتبط بطريقة التعبير عنه: من الممكن التغلب على الشر من خلال إعطائه أسماء أخرى".


الفصل الثامن: الأجر
    

Kazimir Malevich | Suprematist composition
الكاتب/ة: كارلو كافيرو.
ترجمه/ته الى العربية: وليد ضو     


أنصار النمط الرأسمالي للانتاج يدَعون أن الأجر هو لقاء العمل، وأن فائض القيمة هو نتاج رأس المال.

ولكن ما هو العمل؟

العمل، نجده لا يزال في العامل نفسه، أو خرج منه بالفعل؛ أي ما يعني أن العمل، هو القوة، أو القدرة على فعل شيء ما، أو أنه هو هذا الشيء نفسه، الذي جرى صنعه؛ في المحصلة، العمل هو قوة العمل أو السلعة. العامل لا يستطيع بيع العمل الذي خرج منه، أي الشيء الذي صنعه، السلعة، لأن الرأسمالي يملكها، وليس هو. وبالتالي فإنه حتى يتمكن العامل من بيع العمل الذي خرج منه، أي السلعة التي أنتجها، يجب أن يمتلك وسائل الانتاج والمواد الأولية، وبعد ذلك يصبح تاجرا للسلع التي أنتجها. لكنه لا يمتلك شيئا، إنه بروليتاري، ولكي يعيش، يحتاج إلى بيع للآخرين، الملكية الوحيدة المتبقية لديه، وهي قدرته على العمل، قوة عمله. الرأسمالي لا يمكن أن يشتري منه سوى قوة العمل.

قوة العمل هذه، مثل كل السلع الأخرى، لها قيمة استعمالية وقيمة تبادلية. الرأسمالي يدفع للعامل القيمة التبادلية، أو القيمة الفعلية للسلعة الذي يبيعها الأخير. ولكن، عبر هذا الدفع، يكون قد حصل أيضا على القيمة الاستعمالية للسلعة التي اشتراها. بيد أن للقيمة الاستعمالية لهذه السلعة الفريدة نوعية مزدوجة. الأولى مشتركة مع القيمة الاستعمالية لكل السلع، أي لتلبية حاجة ما؛ أما الثانية فهي خاصة بها، وتميز هذه السلعة عن بقية السلع، وتتجسد بكونها تخلق القيمة.

إذا، الأجر لا يمكن أن يمثل أي شيء سوى سعر، ليس العمل (عبارة مبهمة وغامضة)، إنما قوة العمل. فائض القيمة لا يمكن أن يكون نتاج رأس المال، لأن رأس المال هو مادة خامدة، الذي يجد نفسه في السلعة بنفس كمية القيمة التي دخل بها؛ إنه مادة خالية من الحياة، وهو لن يكون من دون قوة العمل. قوة العمل وحدها هي الوحيدة التي تنتج فائض القيمة. وهي التي تقدم لرأس المال بذرة الحياة الأولى. وهي التي تحافظ على حياة رأس المال. والأخير لا يفعل شيئا سوى المص، ومن ثم يشرب عبر كل المسام، وأخيرا يشفط بقوة فائض قيمة العمل.

الشكلان الرئيسيان للأجر هما: الأجر على أساس الوقت والأجر على أساس القطعة.

الأجر على أساس الوقت هو أن يُدفع لقاء وقت معين: ليوم، أو لأسبوع، أو لشهر… عمل. وهو ليس إلا تحويلا لقيمة قوة العمل. فبدلا من أن نقول إن العامل قد باع قوة عمله لقاء 3 فرنك باليوم، نقول أن العامل يعمل لقاء أجر 3 فرنك باليوم.

أجر 3 فرنك باليوم هو إذا ثمن قوة العمل ليوم واحد. ولكن هذا اليوم يمكن أن تختلف مدة طوله. فإذا كان يوم العمل يتألف من 10 ساعات عمل، على سبيل المثال، قوة العمل تكون قيمتها 30 سنتيم بالساعة، في حين إذا تألف يوم العمل من 12 ساعة عمل، فإن قوة العمل تكون بقيمة 25 سنتيم بالساعة. إذاً، الرأسمالي، ومن خلال زيادة يوم العمل، يقلل من قيمة المبلغ الذي يدفعه للعامل لقاء قوة عمله. الرأسمالي يمكنه أن يزيد الأجر، من خلال الاستمرار بالدفع للعامل، لقاء قوة عمله، السعر السابق نفسه، أو حتى عبر سعر أقل حتى. فإذا زاد الرأسمالي أجر العامل من 3 فرنك إلى 3،6 فرنك، وفي الوقت عينه زاد يوم العمل، الذي كان 10 ساعات عمل، إلى 12 ساعة عمل، فإنه يستمر في الدفع للعامل 30 سنتيم بالساعة لقاء قوة عمله. وإذا زاد الرأسمالي الأجر من 3 فرنك إلى 3،6 فرنك، ومدد يوم العمل من 10 ساعات إلى 15 ساعة، فإنه يدفع للعامل لقاء قوة عمله أقل من قبل، أي 24 سنتيم بالساعة عوضا عن 30. الرأسمالي يحصل على نفس الأثر عندما، وبدلا من زيادة من مدة يوم العمل، يزيد من كثافته، كما رأينا من قبل عندما قام بذلك بواسطة الآلات. باختصار، الرأسمالي، بزيادة العمل، ينجح بخداع العامل بكل أمانة: ويمكنه أن يقوم بذلك بكل السخاء، من خلال زيادة الأجر اليومي.

عندما يدفع الرأسمالي بالساعة للعامل، فإنه يجد أيضا وسيلة لإلحاق الأذى به، من خلال زيادة أو خفض العمل، ولكن عبر دفع بكل أمانة نفس سعر ساعة العمل. لنفترض أن أجر ساعة العمل يبلغ 25 سنتيم. إذا شغل الرأسمالي العامل لمدة 8 ساعات، بدلا من 12 ساعة، فإنه سيدفع له فرنكين بدلا من 3 فرنكات؛ أي أنه خسر فرنكا، أي ثلث ما هو ضروري للعامل لتلبية احتياجاته اليومية. إذا حصل العكس حيث شغل الرأسمالي العامل لمدة 14 أو 16 ساعة، فإنه سيدفع له 3،5 فرنك أو 4 فرنك بدلا من 3 فرنك، فإنه يأخذ من العامل ساعتين أو 4 ساعات بقيمة أقل مما تستحق. في الواقع، بعد 12 ساعة عمل تتراجع قوى العامل، وساعتا أو 4 ساعات عمل ينبغي أن تدفع بمعدل أعلى من الـ 12 ساعة الماضية. الشكوى المقدمة من العمال، قَبِل بها العديد من المصانع، حيث ساعة العمل الإضافية تدفع بسعر أعلى. كلما كان سعر قوة العمل، ضمن الأجر على أساس الوقت، قليلا، كلما كانت مدة العمل طويلة. ومن الواضح أنه يجب أن يكون كذلك. إذا كان الأجر 25 سنتيم بالساعة بدلا من 30، فإن العامل بحاجة إلى يوم عمل من 12 ساعة، بدلا من 10 ساعات، وذلك للحصول على الـ 3 فرنك التي تتطلبها احتياجاته اليومية. إذا كان الأجر 2 فرنك باليوم، فإن العامل يحتاج إلى ثلاثة أيام، بدلا من يومين، لشراء ما هو ضروري ليومين فقط. هنا تخفيض الأجر يزيد العمل؛ ولكن قد يحدث أيضا أن زيادة العمل قد تؤدي إلى انخفاض بالأجر. بعد دخول الآلة إلى الصناعة، على سبيل المثال، حصل أن تمكن العامل من انتاج ضعف ما كان ينتجه في السابق؛ ثم قلل الرأسمالي من عدد العمال؛ وكنتيجة لذلك زاد عرض قوة العمل، مما أدى إلى انخفاض الأجور.

الأجر على أساس القطعة ليس سوى تحويلا للأجر على أساس الوقت، كما أظهرنا في السابق واقع أن نوعي الأجور يتم استخدامهما على قدم المساواة، ليس فقط ضمن صناعات مختلفة، إنما أيضا في بعض الأحيان في نفس الصناعة.

يعمل عامل لمدة 12 ساعة عمل مقابل راتب من 3 فرنك وينتج ما قيمته 6 فرنك. لا يهم القول أن العامل ينتج في أول ست ساعات من عمله الـ 3 فرنكات التي تشكل أجره، وفي الساعات الست المتبقية ينتج الـ 3 فرنكات التي تشكل فائض القيمة؛ بالتالي، يمكننا القول أيضا أن العامل ينتج في أول نصف ساعة 25 سنتيم التي تمثل 1/12 من أجره، وفي كل ثاني نصف ساعة، ينتج 25 سنتيم تمثل 1/12 من فائض القيمة. وبالمثل، إذا أنتج العامل، خلال 12 ساعة عمل، 24 قطعة من سلعة معينة، فإنه ينال 12،5 سنتيم بالقطعة، أي 3 فرنك بالمجمل، وهذا بالضبط كما لو أن العامل أنتج 12 قطعة لانتاج 3 فرنك من أجره، وأنتج 12 قطعة أخرى لانتاج 3 فرنك قيمة فائض القيمة؛ أو حتى ينتج العامل في كل ساعة عمل، قطعة لصالح أجره، وقطعة لصالح صاحب العمل.

"ضمن العمل بالقطعة، يتم التحكم بنوعية العمل من خلال العمل نفسه، الذي يجب أن يكون متوسط الجودة حتى يدفع ثمن القطعة بالسعر المتفق عليه. وفق هذه المعادلة، يصبح الأجر على أساس القطعة مصدرا لا ينضب من الذرائع لتخفيض أجر العامل. كما يوفر في نفس الوقت للرأسمالي مقياسا محددا لكثافة العمل. وقت العمل يندمج بكمية السلع المحددة سلفا، ومجربا بشكل محدد، يعتبر كوقت العمل الضروري اجتماعيا، وهو وحده ما يدفع ثمنه. في مصانع الخياطة الكبيرة في لندن، قطعة معينة، سترة على سبيل المثال، تسمى ساعة، نصف ساعة…، الساعة تحتسب بقيمة 6 بنسات. التجربة هي التي أعطت معدل الانتاج في الساعة. وإذا تعلق الأمر بمنتج جديد أو تعديلات عليه…، فإن نقاشاً سيولد بين صاحب العمل والعامل لمعرفة كم تحتاج هذه القطعة أو تلك لوقت…، إلى أن تعلن عن ذلك التجربة. الأمر عينه يحصل عند صانعي المفروشات… إذا لم يتمكن العامل متوسط القدرة من تسليم في يوم عمل واحد الحد الأدنى من العمل، فيتم طرده.

"مراقبة نوعية وكثافة العمل لو تمت كما يحصل مع الأجور، فإن جزءا كبيرا من عمل المراقبة سيكون لا لزوم له. هذا النموذج يمثل أساس العمل الحديث في المنزل، ويشكل نموذجا من تنظيم هرمي للاستغلال والاضطهاد. من جهة، العمل بالقطعة، يسمح بتدخل الطفيليين بين الرأسمالي والعامل، أو المقاول من الباطن. ربح الأخير، من مقاولته، يأتي فقط من الفرق بين السعر المدفوع من الرأسمالي لقاء العمل المنجز، والجزء من هذا المبلغ الذي يكون المقاول من الباطن مستعدا للتخلي عنه للعامل. هذا النظام يسمى في انكلترا نظام التعرق (أي نظام يسبب التعرق للعامل). من جهة أخرى، الأجر على أساس القطعة يسمح للرأسمالي بتمرير عقد، لدفع الكثير بالقطعة، للعامل الرئيسي،- في المعمل: رئيس مجموعة العمال، في المنجم: العامل الذي يدير عملية استخراج الفحم، في المصنع: مشغل الآلة،- هذا العامل الرئيسي يتولى عملية توظيف العمال ودفع الأجور لمساعديه. استغلال رأس المال يتحقق هنا من خلال استغلال العامل للعامل نفسه.

"بمجرد إقامة العمل بالقطعة، تدفع المصلحة الشخصية، بطبيعة الحال، العامل لتكثيف بأقدر جهد ممكن عمله، مما يسهل للرأسمالي برفع الدرجة العادية للكثافة. وعلى الرغم من هذه النتيجة التي تنتج نفسها، عادة ما يتم استخدام وسائل اصطناعية لضمانها بشكل أفضل. في لندن، على سبيل المثال، عند الميكانيكيين، يخبرنا أمين سر إحدى النقابات، دونينغ، إنها مسألة معتادة، من جهة الرأسمالي، "اختيار متزعم لعدد من العمال يتميز ببنية بدنية قوية وبمهارة أعلى من المعدل. ويدفع له كل فصل أجرا إضافيا بشرط أن يقوم بكل ما هو ممكن لإثارة التنافس بين العمال الموضوعين تحت أوامره، الذين لا يحصلون إلا على أجور عادية". العامل المهتم أيضا بزيادة يوم العمل، لأنها وسيلة لزيادة أجره اليومي أو الأسبوعي. فيتبع كردة فعل مماثلة لتلك التي جرى وصفها في حالة الأجر على أساس الوقت، دون أن يحتسب أن تمديد يوم العمل، حتى لو كان الأجر على أساس القطعة بقي ثابتا، يعني في حد ذاته انخفاضا في سعر العمل.

"الأجر على أساس القطعة هو الداعم الرئيسي لنظام يؤاجر العمل على أساس الساعة، بدلا من توظيف العامل على أساس يومي أو أسبوعي.

"في المؤسسات الخاضعة لقوانين المصانع (1)، الأجر على أساس القطعة يصبح القاعدة العامة، لأن رأس المال لا يجد وسيلة لزيادة حجم العمل اليومي إلا عبر تكثيفه".

زيادة الانتاج يتبعها تخفيضا نسبيا للراتب. عندما ينتج العامل 12 قطعة خلال 12 ساعة، الرأسمالي يدفع، على سبيل المثال، أجرا بمقدار 25 سنتيم بالقطعة. إذا تضاعف الانتاج، وأصبح العامل ينتج 24 قطعة بدلا من 12، هنا يخفض الرأسمالي الأجر بمقدار النصف. ولا يدفع له أكثر من 12،5 سنتيم بالقطعة.

"هذا التغيير في الأجر، على الرغم من كونه اسمي، يؤدي إلى صراعات مستمرة بين الرأسمالي والعامل: إما لأن الرأسمالي يتخذ ذلك ذريعة لتخفيض حقيقي لسعر العمل، أو بسبب زيادة انتاجية العمل المترافقة مع زيادة في كثافة الأخير، أو أيضا لأن العامل، الذي أخذ على محمل الجد مظهر، الذي سببه الأجر على أساس القطعة، أنه قد نال أجره مما أنتجه وليس من قوة عمله، فيثور ضد تخفيض أجره الذي لم يترافق مع تخفيض مماثل في سعر السلعة. الرأسمال يدفع جانبا وعن حق مثل هذه الحجج، التي تبدو مملية من فهم خاطىء لطبيعة العمل المأجور، ويعلن بكل فظاظة أن انتاجية العمل لا تخص العامل".

الهوامش:

(1) قانون انكليزي يحدد مدة يوم العمل بعدد من الساعات المحددة. [ملاحظة كارلو كافيرو]. 


الفصل التاسع: تراكم رأس المال

Kazimir Malevich | Taking in the Rye
الكاتب/ة: كارلو كافيرو.
ترجمه/ته الى العربية: وليد ضو     


إذا لاحظنا معادلة رأس المال، فسنفهم بكل سهولة أن المحافظة عليه تقوم على إعادة انتاجه المتوالي والمستمر.

في الواقع، ينقسم رأس المال، كما سبق وعرفنا، إلى رأس مال ثابت وآخر متحرك. رأس المال الثابت، يتمثل بوسائل العمل والمواد الأولية، التي تتآكل تحت تأثير العمل نفسه. فالأدوات تتآكل وكذلك الآلات والفحم والشحم… التي تحتاجها الآلات؛ وأخيرا مبنى المصنع نفسه يتآكل. المواد الأولية يتم استيعابها. ولكن في الوقت الذي يسبب فيه العمل تآكلا لرأس المال الثابت، فإنه يعيد إنتاجه بنفس النسب التي أدت إلى استهلاكه. يعاد إنتاج رأس المال الثابت في السلعة بنفس نسبة استهلاكه خلال صناعة الأخيرة. الجزء من قيمة استهلاك وسائل العمل والمواد الأولية يتم إعادة انتاجها دائما في قيمة السلع، كما رأينا سابقا. إذا كان رأس المال الثابت قد أعيد انتاجه بشكل جزئي في كل سلعة، فمن الواضح أنه، في قيمة عدد معين من السلع المنتجة، فإننا نجد كل رأس المال الثابت الذي جرى استهلاكه خلال عملية الصناعة.

رأس المال المتحرك كرأس المال الثابت. رأس المال المتحرك، الذي يتمثل بقيمة قوة العمل؛ أي الأجر، يعاد انتاجه بالضبط، هو أيضا، في قيمة السلعة. كما رأينا سابقا. العامل، في الجزء الأول من عمله، ينتج أجره، وفي الجزء الثاني ينتج فائض القيمة. وكما أن الراتب لا يدفع للعامل إلا بعد أن ينجز عمله، فإنه يجد نفسه لا يقبض أجره إلا بعد أن ينتج قيمة سلعة الرأسمالي.

مجموع الرواتب المدفوعة للعمال منتجة باستمرار بواسطتهم. هذا الانتاج المتواصل لمجموع الرواتب يديم خضوع العامل للرأسمالي. عندما يصل البروليتاري إلى السوق لبيع قوة عمله، فإنه يأخذ المكان الذي يكلفه به نمط الانتاج الرأسمالي، مساهما في الانتاج الاجتماعي للجزء الذي يتعلق به، ويتلقى، لإعادة انتاج قواه، من مجموع الرواتب، جزءا من رأس المال المتحرك الذي من شأنه، قبل كل شيء، إعادة انتاج عمله.

هي سلسلة دائمة تحافظ على خضوع الإنسان، سواء تحت شكل من العبودية، أو القنانة، أو في إطار العمل المأجور.

يظن المراقب العادي أن العبد يعمل من أجل لا شيء. وهو لا يفكر أنه على العبد قبل كل شيء تعويض سيده لما يكلفه للحفاظ عليه؛ وسنلاحظ أن المحافظة المقدمة للعبد هي في بعض الأحيان أكبر بكثير من ذلك الذي يُجبِر الأجير على إشباعه. لأن سيد العبد شديد الاهتمام للحفاظ على الأخير، كما لذلك الجزء من رأسماله. القن، والأرض التي يرتبط بها، يملكها السيد، الذي هو، بالنسبة إلى المراقب العادي، في وضع متقدم بالنسبة للعبد، لأننا نرى بوضوح أن القن يعطي جزءا من عمله لسيده، في حين يستعمل الجزء الآخر لاستخراج من الأرض المخصصة له وسائل بقائه. بدوره العامل المأجور، يظهر للمراقب العادي كحالة أفضل بكثير من القن، لأن العامل يبدو، في مثل هذه الحالة، حرا تماما ويبدو أنه ينال قيمة العمل الذي أنجزه.

وهم عجيب! لو كان العامل قد حقق فعلا بنفسه قيمة عمله، فإن نمط الانتاج الرأسمالي ليس موجودا. كما قلنا سابقا. لا يمكن للعامل أن يحصل على أي شيء سوى على قوة عمله، الشيء الوحيد الذي يستطيع بيعه، لأنها هي السلعة الوحيدة التي يملكها في العالم. انتاج العمل يعود إلى الرأسمالي، الذي يدفع راتبا للبروليتاري، أي لإعادة انتاج قواه. كذلك، قطعة الأرض التي تركها السيد للقن، وكذلك الوقت والوسائل الضرورية للزراعة، تمثل مجموع الوسائل التي هي لدى القن حتى يعيش، في حين عليه أن يعمل بقية الوقت لصالح سيده.

العبد والقن والعامل يعملون، ثلاثتهم، في جزء من عملهم لانتاج ما هو ضروري لاعادة انتاج قواهم، والجزء الثاني لصالح سيدهم. يمثلون ثلاثة أشكال مختلفة من ذات سلسلة الخضوع والاستغلال البشري. دائما إخضاع الإنسان المحروم من أي إمكانية لتحقيق التراكم (أي وسائل الانتاج التي هي وسائل للعيش) لصالح رجل يملك تراكما سابقا، ووسائل الانتاج، ووسائل العيش (1). المحافظة على رأس المال، أي على إعادة الانتاج، هي بالضبط، ضمن نمط الانتاج الرأسمالي، المحافظة على هذه السلسلة من الخضوع والاستغلال البشري.

لكن العمل لا يعيد انتاج فقط رأس المال: فهو ينتج كذلك فائض القيمة، التي تشكل ما يسمى مردود (2) رأس المال. إذا أرجأ الرأسمالي كل سنة كل مردود رأسماله أو جزء منه، فيتحقق تراكم رأس المال؛ وسيتزايد رأسماله باستمرار. من خلال إعادة انتاج بسيطة، العمل يحافظ على رأس المال؛ من خلال تراكم فائض القيمة، العمل يزيد رأس المال.

عندما يضاف المردود إلى رأس المال، فيستعمل هذا المردود بجزء منه في وسائل الانتاج، وبالمواد الأولية، وبقوة العمل. فائض العمل الماضي، والعمل الماضي غير المدفوع، يزيد رأس المال. جزء من العمل غير المدفوع من السنة الماضية ضروري للسنة الحالية. هذا ما يحقق النجاح للرأسمالي، وذلك بفضل الآلية البارعة للانتاج الحديث.

بمجرد القبول بنمط الانتاج الحديث، القائم بشكل كامل على الملكية الخاصة والعمل المأجور، لا يمكننا نقد النتائج الناجمة عنه، ومن بينها تراكم رأس المال. لا يهم أن يعلم أنطوان أن الفرنكات الثلاثة التي يقبضها تمثل العمل غير المدفوع للعامل بيار. ما يحق له أن يعرفه هو هل هذا المبلغ يعادل قوة عمله، أي ما يعادل بشكل دقيق الأشياء التي يحتاجها ليوم واحد، إذا تم احترام قانون التبادل.

عندما يبدأ الرأسمالي بمراكمة رأس المال فوق رأس المال، تولد لديه فضيلة جديدة، وتتطور، هذه الفضيلة نسميها التقشف، الذي يهدف إلى تخفيض النفقات بشكل كبير، بهدف استعمال الجزء الأكبر من المردود للتراكم.

"إرادة الرأسمالي ووعيه لا يعكسان سوى حاجات رأس المال الذي يمثله، لا يمكن أن نرى في استهلاكه الشخصي سوى نوعا من السرقة، قروضا على الأقل أدت إلى التراكم: وفي الواقع، مسك دفاتر حسابات القيود المزدوجة تتضمن النفقات الخاصة للآخرين، كمبالغ مستحقة للرأسمالي إلى رأس المال. التراكم، هو اكتساب عالم الثروة الاجتماعية. من خلال زيادة عدد الخاضعين، تتوسع الهيمنة المباشرة وغير المباشرة للرأسمالي، وينمو طموح لا ينضب.

"لوثر يظهر ذلك بشكل جيد، على سبيل المثال المرابي- الشكل القديم للرأسمالي، ولكننا لا زلنا نراه في فترات متقطعة- الذي تكون رغبته بالسيطرة عنصرا لشغفه بتحقيق الثروات: "الوثنيون، المسترشدون بسبب بسيط، صنفوا المرابي بدرجات أعلى من درجة اللص والقاتل. ولكن، نحن المسيحيون، نقدم له كل الشرف، ونسجد له تقريبا بسبب ماله. من ينهب ويسرق ويأكل طعام الآخرين يرتكب جرما كبيرا (بقدر ما في وسعه) تماما كذلك الجائع الذي يقتل ولكن هذا بالضبط ما يفعله المرابي، الذي يجلس بكل ثقة على كرسيه، في وقت وبحسب منظومة العدالة يجب شنقه على حبل المشنقة وأن تأكله الغربان التي سرق أموالها، على افتراض أنه لديه جسدا كافيا حتى ينال كل غراب جزءا منه. يتم سجن صغار اللصوص، في حين يتنعم كبار اللصوص بالذهب والحرير. لا يوجد على الأرض من عدو للإنسانية (بعد الشيطان) أكثر من الجشِع والمرابي، لأنه يريد أن يكون إلها فوق كل الناس. الأتراك، الجنود والطغاة هم أيضا يشكلون حاضنة للشر، ولكنهم سمحوا للناس بأن يعيشوا، واعترفوا أنهم أشرار وأعداء؛ قد يكون لديهم حتى بعض الرحمة على عدد قليل من الناس. ولكن المرابي، والجشِع، يريدون أن يجوع ويعطش كل الناس وأن يحزنوا وأن يعيشوا بالبؤس، كل ذلك حتى يمتلكوا كل شيء لأنفسهم، وأن لا يحصل أي شخص إلا منهم، كآلهة، وأن يخدموهم مدى الحياة. هم يرتدون المعاطف وسلاسل الذهب، والخواتم ويظهرون أنفسهم كأتقياء وصادقين. المرابي هو وحش بشع، أسوأ من غول مفترس… وإذا كنا نلاحق ونقطع رؤوس قطاع الطرق والقتلة، فلماذا لا نلاحق ونلعن ونقطع رؤوس كل المرابين".

يتطلب تراكم رأس المال زيادة في عدد اليد العاملة. يجب زيادة عدد العمال، حتى يمكن تحويل جزء من المردود إلى رأس مال متحرك. تنظيم اعادة الانتاج الرأسمالي يضمن أن العامل يحافظ على قوة عمله من خلال الجيل الجديد، حيث يواصل رأس المال في استعمال ذلك حتى تتواصل عملية اعادة الانتاج. ولكن العمل الذي يطلبه رأس المال اليوم هو أكبر من الذي طلبه البارحة؛ وبالتالي فإن السعر يجب أن يزيد بشكل طبيعي. وأن تزيد الأجور، ما لم يكن هناك في تراكم رأس المال من سبب يؤدي على العكس إلى انخفاض الأجور.

جزء من المردود الذي يضاف سنويا على رأس المال يتم تحويله، كما رأينا سابقا، بجزء منه إلى رأس مال ثابت، وبجزء آخر إلى رأس مال متحرك، أي جزء لوسائل العمل والمواد الأولية، وجزء آخر لقوة العمل. ولكن يجب علينا الاعتبار، أنه مع تراكم رأس المال، سوف تنتج التحسينات لأنظمة الانتاج القديمة، أنظمة الانتاج الجديدة والآلات: كل شيء يؤدي إلى زيادة الانتاج، ويخفض من سعر قوة العمل، كما علمنا بشكل فعلي. ما إن يتزايد تراكم رأس المال، يتناقص الجزء المتحرك، في حين يزداد الجزء الثابت. أي نرى زيادة في الأبنية والآلات والمواد التابعة لها، والمواد الأولية للعمل، ولكن في الوقت عينه، وبما يتناسب مع هذه الزيادة، مع تراكم رأس المال تنخفض الحاجة إلى قوة العمل، الحاجة إلى اليد العاملة. بانخفاض الحاجة إلى قوة العمل، ينخفض الطلب على تلك القوة، وفي نهاية المطاف ينخفض السعر أيضا. ونتيجة لذلك، كلما تزايد تراكم رأس المال، كلما انخفضت الأجور.

تراكم رأس المال يأخذ أبعادا واسعة من خلال المنافسة والائتمان. والأخير يحمل من تلقاء نفسه الكثير من رؤوس الأموال الممزوجة، أو بالأحرى الاندماج برأس مال أقوى عوضا عن كل رأس مال لوحده. المنافسة، على العكس من ذلك، هي الحرب بين كل رؤوس الأموال؛ هي صراعهم للبقاء، ومن بعدها يخرج أقوى، ذاك الذي تغلب، كان فعليا الأقوى.

بالتالي يستغني تراكم رأس المال عن عدد كبير من اليد العاملة: أي أنه يخلق فائضا نسبيا- وغير مطلق- من السكان من بين العمال (3.)

"وفي حين يتقدم تراكم الثروات على أساس رأسمالي منتجا بالضرورة فائضا عماليا نسبيا، الذي يصبح الرافعة الأقوى للتراكم، وشرطا لوجود الانتاج الرأسمالي خلال نموه الكامل. فهو يشكل جيش احتياط للصناعة، ينتمي إلى رأس المال بشكل مطلق الذي كان قد رباه وأعده على نفقته الخاصة. وهو يؤمن المواد البشرية المتاحة دائما والتي يمكن استخدامها لانتاج فائض القيمة… فقط تحت نظام الصناعات الكبيرة يصبح الفائض العمالي منبعا دائما لانتاج الثروات".

الجيش الاحتياطي الصناعي، الفائض العمالي، يكون بثلاثة أشكال، الشكل العائم، والشكل الكامن والشكل الراكد. الشكل الأول يقبض أفضل أجر، ويعاني أقل من غيره لعدم وجود عمل، في وقت يقوم بعمل أقل تعبا. الشكل الثاني، على العكس، يتكون من عمال يتم توظيفهم أقل من غيرهم، ودائما في عمل متعب ومقرف، ويقبضون أدنى سعر ممكن دفعه للعمل البشري.

الشكل الأخير هو الأكثر عددا، ليس فقط بسبب قوة التقدم الصناعي الكبيرة التي تؤثر به، ولكن خاصة لأنه يتشكل من أشخاص وفيري الانتاج، كما يوضح الواقع.

"قال آدم سميث: "يبدو الفقر ملائما للجيل". تتشابه هذه الحكمة مع تلك التي قالها الكاهن غالياني: "الله جعل من الرجال الذين يعملون في مهن بالغة الأهمية غزيري الانجاب". لاينغ أثبت من خلال الإحصاءات أن: "البؤس وصل إلى درجة أنه يولد المجاعة والأوبئة، وإلى ميل السكان إلى التزايد بدلا من التوقف عن ذلك".

"تحت هذه الأشكال الثلاث، لم يبق سوى بقايا من فائض السكان النسبي، الذين يعيشون في جحيم الفقر. مثل المشردين والمجرمين والعاهرات والمتسولين وكل أولئك الذين يشكلون البروليتاريا الرثة، هذه الطبقة الاجتماعية تتألف من ثلاث فئات. الأولى تتضمن العمال القادرين على العمل. مجرد إلقاء نظرة على إحصاءات الفقر الانكليزية حتى نرى تضخم هذه الكتلة عند كل أزمة وانخفاضها مع كل انتعاش للأعمال. الفئة الثانية تشمل الأيتام والأطفال الذين بحاجة للمساعدة. والأخيرون يشكلون الجيش الاحتياطي للصناعة الذي في حالات الانتعاش الكبير يتم توظيفه بأعداد كبيرة منه. الفئة الثالثة وتتضمن الفاشلين والمهمشين وغير القادرين على القيام بأي عمل؛ هم، من جهة، أولئك الذين حرمهم تقسيم العمل من إشغال الوظائف والمهن التي تسمح لهم بالعيش؛ ومن ثم أولئك الذين تجاوزت أعمارهم الحد الطبيعي لحياة العامل؛ ومن ثم ضحايا الصناعة الذين تتزايد أعدادهم بسبب الآلات الخطرة، والاستثمارات المنجمية، وصناعة المواد الكيميائية… والمشلولين والمرضى والأرامل

"العوز هو مصير غير القادرين من الجيش النشط للعمل، والحمل الثقيل لجيش الاحتياط الصناعي. وهم نتاج السبب الذي ولد فائض السكان النسبي، وضرورتهم نشأت من ضرورة الأخير؛ فهم يشكلون، مثله، شرط وجود الانتاج الرأسمالي ونمو الثروة.

"وبالتالي يمكن فهم كل حماقة الحكمة الاقتصادية، التي تبشر العمال باستيعاب أعدادهم وفق حاجات رأس المال. إنها الآلية نفسها للانتاج والتراكم الرأسمالي التي تتكيف باستمرار مع هذا العدد من الاحتياجات. الكلمة الأولى لهذا التكيف، هي عبر خلق هذا الفائض النسبي أو جيش الاحتياط الصناعي؛ والكلمة الأخيرة، هي البؤس المتزايد لطبقات من الجيش الفاعل للعمل، الحمل الثقيل للعوز.

"إن القانون الذي يؤثر على نمو القوة الاجتماعية المنتجة للعمل يقلل تدريجيا من إنفاق قوة العمل، بسبب زيادة الكفاءة وتزايد استعمال وسائل الانتاج، هذا القانون، الذي يمكن الإنسان الاجتماعي من انتاج كميات أكبر بعمل أقل، يؤدي في ظل النظام الرأسمالي- حيث وسائل الانتاج ليست في خدمة العامل، ولكن العامل هو في خدمة وسائل الانتاج-، هذه النتيجة هي على العكس من ذلك: كلما اكتسبت وسائل الانتاج الموارد والقوة، كلما ازداد عدد العاطلين عن العمل، وكلما ازدادت هشاشة وضعهم وبالتالي شروط بقاء المأجورين وبيع قوة عملهم.

"تحليل انتاج فائض القيمة النسبي أثبت أن كل وسائل زيادة القوة المنتجة للعمل تتطور، في النظام الرأسمالي، على حساب العامل الفرد؛ وأن كل وسائل زيادة الانتاج تتحول إلى وسائل للاستعباد والاستغلال للمنتج؛ وهي تشوه العامل من خلال جعله رجلا مجزأ، وتدهور حاله لصالح جعله مجرد ملحق للآلة؛ وتجرد العمل من مضمونه، مسببة للعامل الألم؛ وتعزل العامل من القوى الفكرية للانتاج، العلم يصبح قوة غريبة ومعادية؛ وتجعل شروط العمل غير طبيعية أكثر فأكثر؛ وأن يخضع العامل، خلال العمل، لاستبداد خسيس وبغيض، وتمدد يوم العمل إلى حد لا يستطيع فيه العامل العثور على وقت للعيش؛ وتقذف بزوجته وأولاده تحت عجلات عربة جاغرنو (4) لإله رأس المال.

"راهب البندقية، ج. أورتيز، أحد أبرز الخبراء الاقتصاديين في القرن الثامن عشر، رأى العداء المتأصل في الانتاج الرأسمالي قانونا عاما طبيعيا ينظم الثروة الاجتماعية، فقد قال: "بدلا من تحقيق ما لا يلزم من الأنظمة من أجل إسعاد الشعب، سأنظر فقط في أسباب بؤسهم… في أمة، الخير والشر الاقتصاديان دائما يتوازنان؛ وفرة السلع عند البعض تتساوى دائما مع الحاجة إلى هذه السلع عند البعض الآخر. الثروة الكبيرة لعدد من الناس تترافق دائما مع حرمان الضرورة لعدد أكبر بكثير من الناس". ثروة الأمة، يضيف، تتطابق مع سكانها، وبؤسها يتطابق مع غناها. عمل البعض يولد الكسل عند الآخرين. الفقراء والخاملون هم ثمار ضرورية لوجود الأغنياء والكادحين.

"بعد 10 سنوات على أورتيز، مجد أحد رجال الدين البروتستانت، تاونسند، بوحشية الفقر باعتباره شرطا ضروريا للثروة: "سيكون هناك إلزام قانوني للعمل الذي يتطلب الكثير من التعب والعنف والضجة، في حين أن الجوع لا يسبب فقط ضغطا جليلا، وصامتا ومستمرا، إنما أيضا، كنتاج طبيعي للصناعة والعمل، فهو يخلق جهدا أقوى". لا يتعلق الأمر في جعل الجوع دائما في صفوف الطبقة العاملة، بحسب تاونسند، مبدأ السكان (5) النشط بشكل خاص بين الفقراء، هو المسؤول. "يبدو ذلك قانونا طبيعيا، أن يكون للفقراء دائما قدرا من التبصر، لدرجة أن يجد دائما كميات كافية لاتمام الوظائف الأكثر بغضا والأكثر حقارة في المجتمع. أساس السعادة البشرية يتزايد بذلك إلى حد كبير، يتم تحرير الأكثر حساسية من هذه الأعمال، ويمكنهم أن يعملوا في مهن ذات شأن… قوانين الفقراء (6) تميل إلى تدمير الانسجام والجمال، والتماثل والنظام في هذه المنظومة، التي أنشأها الله في هذا العالم".

"إذا كان راهب البندقية يجد في الحتمية الاقتصادية للبؤس منطقا للمحبة المسيحية والعزوبية والرهبنة… فإن القس الانكليزي يجد على العكس من ذلك ذريعة لإدانة إغاثة الفقراء.

"ستورش قال: "إن تقدم الثروة الاجتماعية يولد هذه الفئة الضرورية للمجتمع…، المكرسة لاتمام أكثر المهن مسببة للملل، وذات أدنى مستوى، وأكثر إثارة للاشمئزاز؛ التي تتولى، بعبارة واحدة، على عاتقها جميع ما يجعل من الحياة كريهة ومهينة، وتوفر بذلك لبقية الطبقات الترفيه وفرح الروح والكرامة". ثم وبعد أن تساءل عن ميزة الحضارة الرأسمالية، مع البؤس وحالة التردي المفروضة على الجماهير، المقدمة بوجه البربرية، لم يذكر سوى ميزة واحدة فقط: الأمن!

"أخيرا قال ديستو دو تراسي بكل بساطة: "الدول الفقيرة، هناك حيث الناس يعيشون بكل راحة وثراء، أما في الدول الغنية، هنا يكون الفقر أمرا اعتياديا".

دعونا الآن نرى من خلال الوقائع، ما هي الآثار المترتبة لتراكم رأس المال. هنا، كما ورد أعلاه، كل الأمثلة من انكلترا، بلد تراكم رأس المال بامتياز، الذي (يجب أن نكرر، وألا ننسى) تسعى كل الدول الحديثة إلى الوصول إلى هذا النموذج. نحن نأسف إلى عدم تمكننا من كتابة سوى عدد قليل من المواد التي جمعها ماركس.

"عام 1863، أوصى مجلس الملكة الخاص بإجراء تحقيق، تحت إشراف ضابط طبيب، د. سيمون، حول محنة الذين يعانون من سوء تغذية ضمن صفوف الطبقة العاملة الانكليزية. تم الاتفاق على اتخاذ كقاعدة خلال هذا التحقيق، من كل فئة أصح وأفضل العائلات نسبيا. وكانت النتيجة التي توصلوا إليها هي التالية: بين عمال المدن الذين أجري التحقيق معهم، كان استهلاك الأزوت أعلى بقليل من الحد الأدنى المطلق الذي من دونه يمكن الإصابة بأمراض ناجمة عن الجوع؛ ضمن فئتين أخريين كان هناك عجز، وفي واحدة منهما كان هناك عجز شديد جدا في الأغذية الأزوتية والكربونية؛ وعند العمال الزراعيين، أكثر من خُمْسِهم ينال أقل من الحصة الضرورية من الأغذية الكربونية، وأكثر من ثلثهم ينال أقل من الحصة الضرورية من الحصة الأزوتية؛ وأخيرا في ثلاث مقاطعات (بيركشاير، أوكسفوردشاير، وسومرستشاير) لم يتحقق الحد الأدنى من الغذاء الأزوتي. من بين عمال الزراعة، الذين كانوا أكثر من عانوا من سوء التغذية كانوا من انكلترا، الجزء الأغنى في المملكة المتحدة. ضمن السكان الزراعيين، سُجِل نقصٌ في التغذية وخاصة بين النساء والأطفال لأنه "من الضروري أن يأكل الرجل، حتى يتمكن من القيام بواجبه". النقض بالغذاء الأكثر شدة كان يسبب أضرارا كبيرة من بين فئات العمال المُدنيين: "كانوا يعانون من سوء تغذية، بحيث أن حالات الحرمان القاسي والمدمر للصحة يجب أن تكون بالضرورة عديدة".

"في تقريره العام، يقول الدكتور سيمون: "كل من يعالج المرضى الفقراء أو المستشفيات يمكنهم أن يشهدوا على وجود أمراض ناجمة عن نقص بالتغذية أو الأخيرة تولد وتفاقم أمراضا عديدة… من الناحية الصحية، تضاف ظروف حاسمة أخرى هنا… يجب أن نذكر بأن كل نقص بالغذاء لا يمكن تحمله، وبشكل عام فإن الحمية الإجبارية لم تحصل إلا بعد أن تحققت أشكال مختلفة من الحرمان. قبل وقت طويل من وزن النقص الغذائي على الميزان الصحي، وقبل وقت طويل من تفحص كميات الأزوت والكربون حيث معدلاتها تؤرجح الإنسان بين الحياة والموت جوعا، كل أنواع الراحة المادية الأخرى قد اختفت بالفعل من المنزل. الثياب والتدفئة تقلصوا أكثر بكثير من الغذاء. لم يعد هناك من حماية كافية من البرد؛ تقصلت مساحة المساكن لدرجة أنها تسبب أمراضا أو تزيدها سوءا؛ بالكاد يمكن العثور على قطعة من الأثاث أو الأواني. النظافة باتت كذلك مكلفة جدا أو صعبة. إذا، وانطلاقا من العناية بالذات، لا زال ذلك بحاجة إلى المزيد من الجهود، وكل مجهود إضافي يفاقم من حالة الجوع. يسكنون في بيوت رخيصة الإيجار، وفي أحياء لا تدخلها الشرطة الصحية، وحيث المجاري مكشوفة، والكثير من النفايات في الشوارع، والقليل من المياه أو أنها ملوثة، كل ذلك في مدينة الأقل تهوئة والأقل إنارة. هذه هي المخاطر التي يتعرض لها الفقر بشكل حتمي، عندما يفرض الجوع نقصا بالتغذية. مجموع هذه المشاكل تزن وزنا مخيفا على الحياة، نقص الغذاء، لوحده، هو أمر لا يحتمل… هنا بالضبط تكمن الأفكار المقلقة، وخاصة إذا تذكرنا أن الفقر ليس فقرا مستحقا ناتجا عن الكسل. إنه فقر الناس الذين يعملون. وفيما يتعلق بعمال المدن، فإنهم يحصلون على مبالغ زهيدة لقاء تمديد دوام عملهم. ورغم ذلك لا يمكن القول بمعنى شديد النسبية بأن ذلك يسمح لهم بالعيش. عملهم ينقلهم، عبر دروب طويلة أو قصيرة، إلى العوز".

"أي مراقب محايد يرى أن مركزة وسائل الانتاج تتزايد، الأمر الذي يزيد من تجمعات السكنية للعمال في مساحات صغيرة: الأمر الذي يزيد من التراكم الرأسمالي، وتزيد في الوقت عينه الظروف المزرية لسكن العمال. الجميع يرى "زينة" المدن التي تترافق مع زيادة الثروة: تدمير الأحياء المبنية بشكل سيء، وبناء القصور للبنوك، والمستودعات…، وتوسيع الطرقات أمام حركة المرور التجارية والسيارات الفاخرة، ومد خطوط سكك الحديد…، ينتج عن كل ذلك طرد الفقراء في أحياء غير صحية ومكتظة أكثر من ذي قبل. لنذكر التعليق العام للدكتور سيمون: "أي تكن وجهة نظري الرسمية الظاهرية، أبسط الإنسانية ألا نغفل الجانب الآخر من الشر، الذي وصل إلى درجة، يفرض نفسه بمثل هذا النفي بعيدا عن أي حساسية، هذا الاختلاط السيء غير النظيف للجسد والوظائف الجسدية، هذا الاستعراض العاري، نجد فيهم توحشا بدلا من الإنسانية. الخضوع للتأثيرات، يزيد من حالة التردي أكثر فأكثر. بالنسبة إلى الأولاد الذين ولدوا في هذه البيئة الملعونة، إنها معمودية العار. هذه البيئة لا تسمح للأشخاص الذين يربون فيها بأي جو حضاري جوهره يقوم على النظافة المادية والمعنوية".

"البروليتاريا غير المستقرة تعمل في الحقول، لكن تبقى اهتماماتها على الأغلب صناعية. إنهم مشاة رأس المال، تم رميهم، بحسب الحاجة، وأحيانا في هذا المكان وأحيانا في أماكن أخرى. العمل غير المستقر يتم استعماله في مختلف أعمال البناء وصنع الطوب والصرف الصحي وفي أفران الكلس وفي مد خطوط السكك الحديدية…. يتعرضون لكوكبة من الأوبئة في المناطق التي يسكنون فيها مثل الجدري والتيفوئيد والكوليرا والحمى القرمزية… وفي المؤسسات التي تتطلب رؤوس أموال كبيرة، مثل بناء خطوط سكك الحديد… فإن المقاول يوفر لعماله أكواخا خشبية وغيرها، منازل مرتجلة، من دون أدنى اهتمام باحتياطات السلامة والصحة، وبعيدا عن رقابة السلطات المحلية، وذلك يشكل مصدر ربح كبير للسيد المقاول، الذي يستغل عماله بشكل مضاعف كجنود في صناعته وكمستأجرين. بحسب عدد شبابيك الكوخ يتم دفع الإيجار، شباك واحد شيلينغ، شباكان اثنان شيلينغان بالأسبوع.

"في أيلول عام 1864، قال الدكتور سيمون، الوقائع التالية جرى التنديد بها في وزارة الداخلية من قبل لجنة الشرطة الصحية لرعية سيفينواكس: الجدري ما زال موجودا، منذ العام الماضي، غير المعروف فيها. قبل ذلك بوقت قليل بدأت أعمال بناء سكة الحديد بين لويشام وتونبريدج. في المدينة الأخيرة، وتحديدا في محيطها، نفذت الأشغال الأكثر أهمية، وقد أقيم المستودع الرئيسي للشركة. ونظرا لاستحالة البقاء في البيوت المتاحة للعدد الكبير من العمال، بنى المقاول على طول الخط منازل دون تهوئة ودون أنابيب للصرف الصحي، وبالإضافة إلى ذلك، كانت شديدة الازدحام، حيث كان المستأجر يستقر فيها مع أسرته، الكثيرة العدد، التي كانت تتألف من غرفتين. وأفاد التقرير الصحي أن هؤلاء الفقراء، ولتجنب رائحة مياه رائحة المراحيض الكريهة الراكدة تحت نوافذهم، اضطروا إلى إغلاق نوافذهم بإحكام، وبالتالي التعرض كل الليل من الاختناق. أحد الأطباء، المسؤولين عن التحقيق، وصف في عبارات قاسية وضه المساكن المزعومة، وقال إنه ثمة عواقب مميتة ما لم تتخذ التدابير اللازمة للحفاظ على السلامة فورا. وكان المقاول قد التزم بإقامة منازل للأشخاص الذين يعانون من الأمراض المعدية، لكنه لم يفِ بوعوده، وعلى الرغم من التبليغ بوقوع العديد من الإصابات بالجدري في أكواخ شديدة البؤس. بقيت مستشفى الرعية مزدحمة بالمرضى لمدة شهر. في عائلة واحدة، مات خمسة أطفال بسبب الجدري والحمى. من 1 نيسان/ابريل إلى 1 أيلول/سبتمبر، سجل وفاة 10 حالات بسبب الجدري، من بينهم 4 في الأكواخ، معقل انتشار العدوى. وليس ممكنا الإشارة إلى العدد الدقيق لحالات المرض، لأن العائلات حيث كانت تنتشر فيها العدوى كانوا يبذلون كل ما في وسعهم لإخفائها".

دعونا الآن نلاحظ آثار الأزمات على الجزء الأعلى أجرا في الطبقة العاملة. هنا ما يقوله مراسل صحيفة "مورنينغ ستار" الذي زار في شهر كانون الثاني/يناير عام 1867، خلال الأزمة الصناعية، التجمعات السكنية التي تأثرت بشكل رئيسي:

"في الضاحية الشرقية لمدينة لندن، يسكن أكثر من 15 ألف عامل مع عائلاتهم، وسط فقر مدقع؛ من بين هؤلاء أكثر من 3000 ميكانيكي وعمال من النخبة… عانيت كثيرا قبل الوصول إلى باب منزل العمال في بوبلار، حيث يتجمع حشد جائع. كانوا ينتظرون خبزا جيدا ولكن وقت توزيعه لم يحن بعد. في الساحة المغمورة بالثلوج، يحتمي بضعة رجال تحت مظلة، كانوا منشغلين بتكسير الحجارة لرصفها على الطريق: كان على كل واحد منهم أن يكسر 5 بوشل (البوشل يساوي 36 ديسيمتر مكعب تقريبا)، ويقبضون 3 بنسات باليوم وخبزا جيدا. في جزء آخر من الساحة نرى كوخا صغيرا في حالة سيئة. عندما فتحنا الباب، وجدناه مزدحما بالرجال، ملتصقي الأكتاف، يتدفأون. يفكون خيوط كابلات السفن، ويضعون علامات شرف لمن يعمل أطول فترة ممكنة مع الحد الأدنى من الغذاء. في هذا المكان يتم توزيع مواد الإغاثة لـ 7 آلاف شخص، من بينهم الكثير ممن ربح، منذ ستة أو سبعة أشهر، أعلى الأجور التي يمكن الحصول عليها في هذا البلد. قد تضاعف عدد العمال، وإذا لم يتوفر عدد كاف من الناس الذين، بعد أن استعملوا كل مدخراتهم، يمانعون من الاستعانة بالرعية، طالما ما زال لديهم ما يرهنونه.

"خلال مغادرتي لهذا المكان، دخلت إلى بيت عامل في قطاع التعدين، وقد بات عاطلا عن العمل منذ 27 أسبوعا. وجدته جالسا مع عائلته في غرفة خلفية. لم تكن الغرفة خالية تماما من الأثاث، وكانت النار مشتعلة في الموقدة.

كانت النار ضرورية لمنع تجمد أقدام الأطفال الحافية، لأن الطقس كان باردا بشكل رهيب. كان يوجد على طبق أمام الموقدة كتلة من الصوف، كان على الوالدة والأولاد أن يغزلوها مقابل الخبز يتلقونه من منزل العمال. الوالد كان يعمل في الساحة المذكورة أعلاه، مقابل خبز جيد و3 بنسات باليوم. وكان قد وصل للتو لتناول طعام الغذاء، متمتعا بشراهة كبيرة، كما قال لنا حين ارتسمت على شفتيه ابتسامة مريرة، واقتصر طبقه على بضعة شرائح من الخبز مع شحم الخنزير وكوب من الشاي بدون حليب.

"الباب الثاني الذي قرعناه فتحته امرأة في أواسط عمرها التي، ومن دون أن تقول أي كلمة، قادتنا إلى غرفة صغيرة في الخلف حيث كانت كل العائلة جالسة، صامتة، عيونها متسمرة بالنار التي على وشك أن تنطفئ. تلك العائلة وغرفتهم الصغيرة مثلوا مشهد العزلة وفقدان الأمل الذي لا أتمنى أن أرى مثله مجددا. "لم يقبضوا شيئا، سيدي، قالت الوالدة وهي تدل إلى أولادها، لم يقبضوا شيئا، منذ 27 أسبوع، وكل أموالنا تبخرت، كل أموالي وأموال زوجي التي وضعناها جانبا خلال أوقاتنا الجيدة، لقد اعتقدنا أننا سنضمن الأمان في المستقبل. أنظر إلى حالنا اليوم!"، صرخت بلهجة تكاد تكون متوحشة، وفي الوقت عينه أشارت إلى دفتر البنك حيث سجلت كل المبالغ المودعة والمسحوبة، حيث رأيت بكل الوضوح تاريخ فتح الحساب مع إيداع 5 شيلينغ، ومن ثم تزايد المبلغ إلى أن وصل إلى 20 جنيه استرليني، ومن ثم انخفض تدريجيا، من الجنيه الاسترليني إلى الشينلينغ، ومن الشيلينغ إلى البنس، وصولا إلى آخر سحب الأمر الذي جعل من الدفتر مجرد ورقة دون قيمة. هذه العائلة تتلقى كل يوم طعاما قليلا للغداء من منزل العمال

"في منزل آخر وجدت امرأة تعاني من جوع شديد، ممددة بكامل ملابسها على الحصيرة، وبالكاد تغطي جسمها بقطعة من السجاد. أولادها البائسون يعتنون بها، كانوا هم بحاجة إلى عطف الأمومة. وقد أخبرتني عن ماضيها، منتحبة كما لو أنها فقدت كل أمل بمستقبل أفضل… وقد استدعوني إلى منزل آخر، حيث وجدت امرأة شابة وطفلين جميلين: علبة من المساعدات وغرفة فارغة، كان هذا كل ما لديهم.

"من المألوف بين الرأسماليين الانكليز الإشارة إلى بلجيكا باعتباره جنة العمال، لأن حرية العمل لا تعيقها استبدادية النقابات العمالية، أو قوانين المصانع. السيد دوكبيتيو، المفتش العام للسجون والمؤسسات الخيرية البلجيكية، يعلمنا عن ذلك في كتابه الميزانية الاقتصادية للطبقات العاملة في بلجيكا (بروكسل، 1855). حيث نجد التشابه بين نظام عائلة عمالية بلجيكية وبين الجندي، بين بحار الدولة والسجين. كل موارد العائلة العمالية، المحسوبة بدقة تبلغ سنويا 1068 فرنك. هنا الميزانية السنوية للعائلة:

الوالد يعمل 300 يوم عمل، بأجر يومي 1،56 فرنك، يصبح المجموع 468

الأم تعمل 300 يوم عمل، بأجر يومي 0،89 فرنك = 267

الابن يعمل نفس المدة، بأجر يومي 0،56 فرنك = 168

الابنة تعمل نفس المدة، بأجر يومي 0،55 فرنك = 163

المجموع السنوي: 1066 فرنك.

"الإنفاق السنوي للعائلة وعجزها المالي يصلان إلى المبالغ الواردة أدناه، على افتراض أن العامل يحصل غذاء مماثل لذلك الذي يحصل عليه البحار والجندي والسجين:

الحالة الأولى (البحار): يبلغ الإنفاق: 1828 فرنك، ويبلغ العجز المالي: 760 فرنك

الحالة الثانية (الجندي): يبلغ الإنفاق: 1473 فرنك، والعجز المالي: 405 فرنك

الحالة الثالثة (السجين): يبلغ الإنفاق: 1112 فرنك، والعجز المالي: 44 فرنك.

"أجري تحقيق في انكلترا عام 1863، حول غذاء وعمل المحكومين بالنفي والمحكومين بالأشغال الشاقة. وأظهرت المقارنة بين المساجين الانكليز وبين الفقراء العاملين في منازل العمل والعمال الزراعيين أن الأوائل يحصلون على غذاء أفضل بكثير من الفئتين من الطبقة العاملة، وأن حجم العمل المطلوب من المحكوم بالأشغال الشاقة لا يكاد يبلغ نصف ذلك الذي ينفذه كمعدل العامل الزراعي.

"يشير، تقرير الصحة العامة صادر عام 1865، خلال زيارة جرت خلال انتشار وباء بين الفلاحين، إلى الحقيقة التالية: "تنام شابة مصابة بالحمى في نفس الغرفة مع والدها، وأمها، وابنها "غير الشرعي"، وأخوين لها، وأختيها وكل واحدة منهما مع طفلها "غير الشرعي"، فيبلغ المجموع 10 أشخاص. قبل بضعة أسابيع، سكن في نفس الغرفة 13 ولدا".

الحجم الصغير لهذا الكتاب/الملخص لا يسمح لنا بذكر العرض التفصيلي للحالة المزرية التي غرق فيها المزارعون في انكلترا. سنختتم هذا الفصل بالحديث عن آفة خاصة سببها تراكم رأس المال للعمال الزراعيين في انكلترا.

أدت زيادة عدد العمال الزراعيين إلى انخفاض الأجور، دون أن تتمكن هذه الفئة من السكان من تأمين كل احتياجاتها من رأس المال في ظل عمل عاجل واستثنائي تتطلبه الزراعة خلال أوقات معينة من السنة. ونتج عن ذلك الزام رأس المال لأعداد كبيرة من النساء والأطفال للقيام بمهام مؤقتة، بعد الانتهاء من هذه المهام يصبح هؤلاء جزءا من اليد العاملة الزراعية. وهذا ما أدى إلى نشوء نظام العصابات المتنقلة في انكلترا.

"العصابة تتألف من 10-40 وحتى 50 شخصا: من النساء والمراهقين/ات (الذكور منهم يتركون العصابة بمجرد بلوغهم سن 13 سنة)، والأولاد من الجنسين، من 6 سنوات إلى 13 سنة. زعيم العصابة هو عامل زراعي عادي، غالبا ما يكون ذي سمعة سيئة، معربدا، وسكيرا ولكن أيضا جريئا ومحتالا. هو الذي يجند عناصر العصابة، التي تعمل تحت أوامره. بالكاد يتجاوز ربح هذا الزعيم أجر العامل العادي، وذلك يعتمد على المهارة التي لديه، وفي أقل وقت ممكن، أن يستفيد أكثر ما يمكن من عمل عصابته. المزارعون يعلمون، من خلال التجربة، أن النساء لا يعملن جيدا إلا تحت سلطة الرجل الديكتاتورية، ولكن، من ناحية أخرى، عندما يبدأ النساء والأطفال بالعمل ويستمرون به بشغف حقيقي، كما لاحظ فورييه، في وقت يقوم العامل الذكر البالغ، والأكثر حكمة، بأقل عمل ممكن. زعيم العصابة ينتقل من مزرعة إلى أخرى، ويحتلها مع عصابته لمدة 6-8 أشهر في السنة. وهذا الأمر يوفر للعائلات العمالية زبونا مضمونا وأكثر ملاءمة من المزارع المعزولة، التي لا تشغل الأولاد إلا عرضا. هذا الواقع فرض تأثيره على القرى أكثر من بقية الأماكن حيث لا يمكن الحصول على الأولاد دون وسيط.

"مساوئ هذا النظام تكمن في الأعباء المفرطة المفروضة على الأطفال والفتيات، والمسافة التي تلزمهم للوصول إلى المزارع البعيدة تبلغ 5، 6 وأحيانا 7 ميل (8-11 كلم)، والمسافة عينها للعودة، فضلا عن الانهيار الأخلاقي داخل العصابة. على الرغم من أن زعيم العصابة يتسلح بعصا طويلة، ولكنه نادرا ما يستخدمها، والمعاملة الوحشية هي الاستثناء. هو امبراطور ديمقراطي، أو كـ"زعيم الفئران" بحسب الأسطورة الألمانية. هو يحتاج لأن يحظى بشعبية بين رعاياه، وهو يجذبهم بالجو البوهيمي السائد ضمن العصابة. من أبرز مميزات الأخيرة: اباحة غير منضبطة، وقلة تهذيب فرحة، فجور صفيق. عادة، يتم دفع الرواتب في حانة، حيث يرأس الجلسة زعيم العصابة يتوسط ثرثارين يجلسان إلى يمينه ويساره، ويقف خلفه الأولاد والفتيات المشاكسين، ويرددون من بعده الأغاني الفاحشة. وليس من غير المألوف أن نرى فتيات تتراوح أعمارهن بين 13-14 عاما أكثر من الفتيان من نفس العمر. القرى التي ترسل أبناءها إلى العصابات تصبح سدوم وعمورة، وتبلغ نسبة الولادات غير الشرعية أكثر من نصف تلك المسجلة في المملكة.

"العصابة، بالشكل التقليدي الذي وصفناه منذ قليل، تسمى عصابة عامة، ومشتركة أو متجولة. هناك أيضا العصابات الخاصة. هذه الأخيرة تتشكل كالعصابات العامة، ولكن عددها أقل بكثير، ولا تعمل بموجب أوامر رئيس عصابة، إنما لأوامر مزارع عجوز لا يجد صاحب المزرعة وظيفة أفضل له سوى تلك. هنا، لا تعيش العصابة الخاصة حياة بوهيمية، إنما وبحسب الأدلة التي تم جمعها، يقبض الأطفال أجورا منخفضة ويتعرضون لأسوأ معاملة.

"هذا النظام، وخلال السنوات القليلة الماضية، توسع باستمرار، لم ينشأ لتحقيق متعة زعيم العصابة. وقد أسس لإثراء كبار المزارعين وأصحاب الأملاك. صغار المزارعين لا يشغلون العصابات؛ التي لا تعمل في الأراضي الفقيرة. أحد مالكي الأرض الخائف من الإجراءات القمعية التي يمكن أن تسبب تخفيضا لربحه، أعلن بغضب أمام بعثة التحقيق: يكفي، يقول، أن يتم استبدال اسم العصابة باسم الجمعية التعاونية الصناعية-الزراعية لشباب الريف، ولن يعترض أحد. "يتميز عمل العصابات عن بقية الأعمال، ولهذا السبب يتم اعتماده"، بحسب زعيم عصابة سابق. "نظام العصابات أرخص بالنسبة للمزارعين، وبالتأكيد هو الأكثر ضررا على الأطفال"، قال أحد المزارعين. ومن المؤكد أنه لا يوجد طريقة أكثر براعة للمزارعين للحفاظ على عمالهم أقل بكثير من المستوى الطبيعي، وبوضعهم تحت إمرته، لتأدية أي عمل إضافي، يحتاج إلى عامل إضافي؛ حتى يتمكن من الحصول على أكبر قدر ممكن من العمل بأقل كلفة ممكنة، وحتى يبذل العمال الراشدون ما يزيد عن الحاجة. بحجة أن العمال الزراعيين سيختفون وينزحون إلى المدن، ومن جهة أخرى، سيفتقدهم العمل في الحقول بشكل دائم، يصبح نظام العصابات لا غنى عنه".

--

الهوامش:

(1) اقتبس هنا كافيرو فقرة من مقدمة النظام الأساسي للأممية، التي كتبها ماركس، وقد وردت بصيغة غير كاملة في النص الفرنسي، هنا ترجمتها عن الانكليزية: "إن الإخضاع الاقتصادي للعامل بواسطة محتكر وسائل العمل، هذا هو مصدر الحياة، يكمن في أسفل العبودية بجميع أشكالها…" [الملاحظة من جايمس غيللوم]

(2) كلمة المردود (تعني ما يقدمه رأس المال، وما ينتجه) تعبر عن اعتقاد خاطئ الذي يرى أن رأس المال منتج. [الملاحظة من جايمس غيللوم]

(3) قال ماركس حول الفائض النسبي من السكان العاملين: "قانون الانخفاض النسبي لرأس المال المتحرك والانخفاض المماثل في الطلب على اليد العاملة… له نتيجة انتاج فائض السكان النسبي. نسميه نسبيا، لأنه يأتي، ليس من نمو إيجابي ومطلق للسكان العاملين، إنما، ونسبة لاحتياجات رأس المال، جزء من السكان العاملين باتوا يشكلون فائضا، ولا طائل منهم، ويشكلون بالتالي فائضا نسبيا". [الملاحظة من جايمس غيللوم]

(4) عربة الآلهة الهندوس: جاغاناتا، فيشنو، بالابادرا التي تحملها الجماهير. [الملاحظة من المحرر]

(5) هذا ما يسمى بقانون مالتوس، الذي يعتبر أن السكان يتزايدون أسرع بكثير من نسبة تزايد كمية المواد. [الملاحظة من جايمس غيللوم]

(6) تهدف قوانين الفقراء إلى معالجة العوز عبر "ضريبة الفقراء" و"منازل العمل". [الملاحظة من جايمس غيللوم]


الفصل العاشر: التراكم الأولي
    

Peasant Woman | Kazimir Malevich
الكاتب/ة: كارلو كافيرو.
ترجمه/ته الى العربية: وليد ضو     


ها قد وصلنا إلى نهاية قصتنا الحزينة.

ذات يوم، التقينا بالعامل في السوق، حيث جاء لبيع قوة عمله، وشهدنا تعاقده الندي مع صاحب المال. وهو لا يعرف بعد كم ستكون صعبة طريق الجلجلة التي سيضطر على صعودها، ولم يقترب من شفتيه كأس الشراب المر الذي سيرغم على تجرعه حتى الثمالة. صاحب المال، الذي لم يصبح وقتها رأسماليا بعد، كان مالكا متواضعا لثروة ضئيلة، خجولة، وكان ليس أكيدا من نجاح مؤسسته التي سيوظف فيها كل ثروته.

دعونا نرى كيف تغير المشهد.

العامل، بفائض عمله، ولد رأس المال، وتعرض للاضطهاد بسبب العمل المفرط خلال يوم عمل طويل مكثف. بواسطة فائض القيمة النسبي، تقلص الوقت اللازم ليعيد انتاج قواه، وازداد فائض العمل، كل ذلك أدى إلى إغناء رأس المال. خلال التعاون البسيط، رأينا العامل، الخاضع لانضباط عسكري، والمرتبط بسلسلة كاملة مترابطة من القوى العاملة، المنهَك دائما لزيادة رأس المال المتراكم دون توقف. لقد شاهدنا العامل مذلولا، مكتئبا لأقصى الحدود عبر تقسيم العمل، داخل المعمل. ولقد رأينا المعاناة الجسدية والمعنوية التي لا توصف التي سببها دخول الآلة في الصناعات الكبيرة. مجردا من حرفته، تقلص دور العامل إلى مجرد خادم للآلة، وتحول، من عضو ضمن كائن حي، إلى ملحق معذب لآلية، العمل انتهكه بشدة الذي تزايد وتكثف بواسطة الآلة، التي تهدده في كل لحظة بانتزاع قطعة من لحمه، أو طحنه تماما تحتها؛ وعلاوة على ذلك، رأينا تحول زوجته وأولاده إلى عبيد لرأس المال. وفي الوقت عينه يدفع الرأسمالي له، الذي بات غنيا للغاية، راتبا الذي يمكنه أن يخفضه، من خلال الإيحاء له بأنه يحافظ على المعدل نفسه، أو حتى زيادته. أخيرا، رأينا العامل، الذي بات لا يحتاج تراكم رأس المال إليه، قد تحول من الجيش الصناعي الفاعل إلى الاحتياط، ومن ثم سقط في العوز إلى الأبد. اكتملت التضحية!

ولكن كيف حدث كل ذلك؟

بطريقة بسيطة جدا. في الواقع، العامل كان يمتلك قوة عمله، التي كانت تمكنه من انتاج الكثير مما كان يحتاج إليه لنفسه ولعائلته؛ ولكن كان يفتقر إلى العناصر الأساسية الأخرى، أي وسائل العمل والمواد الأولية. محروما من كل ثروة، أجبر العامل، لكسب لقمة عيشه، لبيع ملكيته الوحيدة، قوة عمله، لصاحب المال، الذي يحقق الأرباح منها. الملكية الخاصة والعمل المأجور، من أسس نظام الانتاج الرأسمالي، كانوا السبب الأول للكثير من المعاناة.

لكن ما حصل هو إثم! إنها جريمة! من أعطى الرجل الحق بالملكية الفردية؟ وكيف استطاع صاحب المال أن يحوز على "تراكم أولي" (1)، أصل كل تلك الخسة؟

صوت رهيب خرج من معبد الإله رأس المال يصيح قائلا: هذا هو الصحيح، لأنه كُتِب في كتاب القوانين الخالدة. منذ زمن بعيد جدا، حيث كان الرجال يتجولون بكل حرية ومساواة على الأرض. كان عدد قليل من بينهم كادحين ورزينين وفعالين؛ وكان الآخرون كسولين وشهوانيين ومبذرين. وكانت النتيجة أن أصبح الأوائل أغنياء، والآخرون بائسين. أولئك الذين شكلوا العدد الأقل بات لهم الحق (هم وأولادهم) بالتمتع بالثروات المتراكمة بكل استقامة؛ في حين أولئك الذين شكلوا العدد الأكبر سقطوا في براثن الفقر وباعوا أنفسهم للأغنياء وحُكِم عليهم مدى الحياة بخدمتهم، هم وأولادهم.

هكذا يفسر هذا الأمر بعض أصدقاء البرجوازية. "هكذا يعيد الطفولي الذي لا طعم له، السيد تيير (2)، على سبيل المثال، بكل وقار، للدفاع عن المُلكية، الأمر إلى الروحيين من الفرنسيين".

إذا كان هذا هو في الواقع، أصل التراكم الأولي، فإن النظرية التي انبثقت منها فتتمثل بالخطيئة الأصلية والقدر. الوالد كان كسولا وشهوانيا، الابن يجب أن يكون مصيره البؤس. ابن الغني، قدره أن يكون سعيدا، سلطويا ومتعلما وقويا…؛ أما ابن الفقير، فقدره أن يكون بائسا، فقيرا وجاهلا وأحمقا… مجتمع يقوم على قانون مماثل يجب أن ينتهي من دون شك كالكثير من المجتمعات الأخرى، الأقل وحشية والأقل نفاقا، لذلك نجد داخل العديد من الأديان والآلهة، بدءا من المسيحية، قوانينا تحتوي على أمثلة مشابهة من العدالة.

يمكننا التوقف هنا، إذا كان مسموحا البقاء عند هذه الوقاحة البرجوازية. ولكن قصتنا الحزينة لها نهاية تليق بها، كما سنرى بعد قليل، بالاعتماد على فعلها الأخير.

لنفتح كتاب التاريخ، كتاب كتبه البرجوازيون، واستخدم من قبل البرجوازية؛ لنبحث عن أصل التراكم الأولي، وهذا ما سنجده.

في الفترات الماضية، يوم استقر السكان في أفضل المناطق والأكثر غنى في الطبيعة. أسسوا المدن، وبدأوا بزراعة الأرض، وانخرطوا بمختلف المهن التي يمكن أن تكون ضرورية لتحقيق رفاههم. ولكن خلال عملية تطورهم تلك، التقت هذه المجموعات واشتبكت مع بعضها البعض، وبدأت الحروب والقتل والحرائق والنهب والمذابح. كل ما يملكه المهزومون بات ملكا للمنتصرين، من ضمنهم الناجين، الذين تعرضوا للاستعباد.

هذا هو أصل التراكم الأولي في العصور القديمة، لنرجع إلى العصور الوسطى.

في الحقبة الثانية من التاريخ، لا نجد سوى سلسلة من الغزوات: شعوب تقتحم بلادا غنية محتلة من شعوب أخرى؛ ومن جديد تتكرر نفس اللازمة، مذبحة ونهب… وكل ما يملكه المهزومون يصبح ملكا للمنتصرين، مع فارق وحيد أن الناجين لا يتعرضون للاستعباد، كما هو الحال في العصور القديمة، ولكنهم يضطرون للخضوع لنوع آخر من العبودية، يصبحون أقنانا، ملكا للأسياد، مع الأرض التي تعود إليهم. خلال العصور الوسطى لا نجد المزيد من أثر تطبيق هذا العمل، لهذه الرصانة ولهذا الاقتصاد الذي تتغنى به عقيدة البرجوازية باعتبارها مصدرا للتراكم الأولي. وتجدر الإشارة إلى أن حقبة العصور الوسطى هي التي تمثل ما يتغنى به الحائزون على الثروات المتباهون بمصادرها.

وصلنا، في الختام، إلى العصر الحديث.

الثورة البرجوازية دمرت الإقطاع، وحولت القنانة إلى العمل المأجور. ولكن في الوقت عينه أزالت عن العامل الرزق القليل الذي كانت القنانة تؤمنه له. القن، على الرغم من أنه يضطر إلى العمل وقتا طويلا لدى سيده، لكن كانت تتوفر له قطعة أرض والوسائل والوقت الضروري للزراعة. البرجوازية دمرت كل ذلك وجعلت من القن عاملا حرا، الذي لا يوجد لديه بديل آخر سوى أن يُستَغل بالطريقة التي رأيناها، على يد أول رأسمالي، أو أن يموت من الجوع.

لندخل الآن في التفاصيل. لنفتح كتاب تاريخ الشعوب، ولنتعرف كيف جرت مصادرة أراضي المزارعين، وكيف جرى إعداد هذه الجماهير العمالية حتى يؤمنوا قوة عملهم للصناعات الحديثة. سنقوم، كالعادة، نأخذ أمثالنا من انكلترا، لأننا نجد فيها المرض الذي ندرسه بحالة جد متقدمة، وهي التي تقدم لنا أفضل حقل للمراقبة.

"في انكلترا، اختفت القنانة فعليا في نهاية القرن الرابع عشر. تألفت الغالبية العظمى من السكان وقتها، وحتى خلال القرن الخامس عشر، من مزارعين أحرار ومالكين، أيا يكن معنى مصطلح الإقطاعي الذي يخفي تحته إلى هذا الحد أو ذاك حقهم بالملكية. في العقارات الإقطاعية الكبيرة، وكيل المزرعة القديم (3)، كان هو نفسه القن، وقد حل مكانه مزارع حر. عمال الزراعة يتألفون جزئيا من مزارعين مالكين لأراضٍ ويعملون في أوقات فراغهم في العقارات الاقطاعية الكبيرة، والجزء الثاني من طبقة أقل عددا وكانوا عمالا بالأجرة بشكل فعلي. ولكن الأخيرين كانوا في الوقت عينه، إلى حد ما، مزارعين مستقلين، لأنهم، إلى جانب رواتبهم، كان لديهم القدرة على امتلاك قطعة أرض من أربعة فدادين (حوالي 16 ألف متر مربع) وكوخ. ويتشاركون مع مزارعين آخرين الاستفادة من الأراضي المشاع (المشتركة)، التي كانوا يستخدمونها لرعي الماشية، وتوفر لهم الخشب والحجارة

"ما مهد للثورة خلق أسس نمط الانتاج الرأسمالي في الثلث الأخير من القرن الخامس عشر والثلث الأول من القرن السادس عشر. طرد المزارعين على يد أسيادهم أدى إلى غرق السوق بكتلة هائلة من البروليتاريا دون موقد أو منزل؛ جماهير ازدادت أعدادها بشكل كبير بعد احتلال المشاعات، وطرد المزارعين من الأراضي، التي كان لهم فيها، في ظل النظام الإقطاعي، حقوق أسيادهم نفسها. في انكلترا، السبب المباشر والمحدد لهذا الطرد كان ازدهار عمل مصانع القماش في فلادرز، والنتيجة كانت ارتفاع أسعار الصوف. تحويل الأراضي الزراعية إلى مراع للأغنام كان المهيمن. هاريسون وصف خراب البلد الناجم عن نزع ملكية صغار الفلاحين.

"لم يهتم المحتلون لهذا الأمر!" جرى هدم مساكن الفلاحين وأكواخ العمال الزراعيين، أو أجبروا على تركها. "إذا أردنا معرفة قوائم الجرد لمالكي الأراضي، فنجد اختفاء عدد عظيم من منازل المزارعين، وباتت الحقول تؤمن غذاء لعدد أقل من السكان، وتراجعت أحوال الكثير من المدن، في حين ازدهرت مدن أخرى مذاك…. المدن والقرى دمرت وتحولت لمراع للأغنام، ولم يبق سوى تلك العائدة إلى الأسياد، ويمكنني أن أعد لائحة طويلة فيها".

"وقد سببت مصادرة جديدة ورهيبة للأراضي انفجارا عنيفا للجماهير الشعبية، في القرن السادس عشر، من خلال الإصلاح وكانت النتيجة سرقة ممتلكات الكنيسة. الكنيسة الكاثوليكية كانت، في تلك الفترة، مالكة، في ظل النظام الإقطاعي، لجزء كبير من الأراضي الانكليزية. وجرى طرد سكان بعض المناطق الذين باتوا في صفوف البروليتاريا. ووزعت أصول الكنيسة في أغلب الأحوال على المحظيين الجشعين، أو بيعت بأثمان بخسة لسكان المدن والمزارعين المضاربين، الذين بدأوا بطرد جماعي للمستأجرين القدامى. حق الملكية، المكرس عبر القانون، الذي كان لفقراء الريف على جزء من العشور الكنسية، تمت مصادرته دون أي رادع. خلال السنة الـ 48 من حكم الملكة اليزابيث، أجبرت على الاعتراف بالفقر رسميا من خلال إقرار ضريبة الفقراء. "وكان كاتبو القانون خجولين من الاعتراف بالأسباب الموجبة له، وعلى العكس من التقاليد المعتادة، صدر القانون خاليا من أي ديباجة". (كوبيت) في ظل حكم شارل الأول، أقرت ديمومة القانون، ولم يتعدل حتى العام 1834، ليأخذ شكلا أكثر قسوة: حيث للتعويض عن المصادرة المفروضة، نعاقب الفقراء.

"خلال حكم إليزابيث، اجتمع بعض البروليتاريين مع بعض المزارعين الأغنياء من جنوب انكلترا، وكتبوا 10 أسئلة تدور حول تفسير قانون الفقراء، وقدموها إلى محامٍ مشهور يطلبون مشورته حولها. هنا مقتطف منها:

"يتوقع مزارعون أغنياء خطة حكيمة جدا، يمكن من خلالها تجنب أي نوع من الاضطراب أثناء تنفيذ القانون. وقد اقترحوا بناء سجن في الرعية. كل فقير لا يوافق على القانون يسجن في هذا السجن. نرفض تقديم المساعدة له. وسنعلن في الحي عن إذا كان يوجد من هو على استعداد لتوظيف الفقراء من الرعية، عليه أن يسلم، خلال يوم محدد، ظرفا مختوما يحدد فيه أدنى سعر سيوظفهم عبره. يفترض واضعو هذه الخطة أنه يوجد في المقاطعات المجاورة أشخاص لا يودون العمل، ولا يمتلكون الثروة والائتمان اللازم لشراء مزرعة، أو مركب، حتى يتمكنوا من العيش دون عمل. هؤلاء قد يكونون مستعدين لتقديم إلى الرعية باقتراحات مفيدة جدا. إذا مات أحد الفقراء العاملين في خدمة المقاول، الخطأ يقع عليه، لأن الرعية أوفت بواجباتها تجاه فقرائها. نحن نشعر بالقلق من أن القانون الحالي لا يسمح باتخاذ تدابير وقائية مماثلة؛ ولكن يجب أن تعلموا أن ما يتبقى من مستأجري هذه الأراضي في هذه المقاطعة وتلك المجاورة أن ينضموا إلينا لإلزام الممثلين في مجلس العموم أن يقدموا اقتراح قانون (4) يجيز حبس الفقراء مع فرض الأشغال الشاقة، بحيث كل فقير يرفض أن يسجن يخسر حقه بالمساعدة. هذا الإجراء، كما نأمل، يمنع حصول الفقراء على المساعدة".

خلال القرن الثامن عشر، أصبح القانون نفسه أداة لسرقة أراضي الناس. الشكل البرلماني لهذه السرقة كان "قانون حول حدود الأراضي العامة"، بعبارات أخرى المراسيم التي من خلالها يعتبر كبار مالكي العقارات الملكية الشعبية ملكية خاصة، كانت مراسيم مصادرة ممتلكات الشعب. سعى السير ف. م. إيدن إلى تمثيل الملكية العامة باعتبارها ملكية خاصة لكبار مالكي العقارات الذين حلوا مكان الإقطاعيين؛ ولكنه يناقض نفسه عندما يطلب من البرلمان أن يصوت على قانون عام يعاقب مرة واحدة وإلى الأبد تحديد الملكيات العامة: لأنه يعترف بذلك أن انقلابا برلمانيا هو ضروري لتشريع التغييرات على الملكيات العامة إلى ملكيات خاصة، وفي الوقت عينه يطالب بتعويضات للمزارعين الفقراء. إذا لم تحصل مصادرة للأراضي، فبالطبع لن يحصل أي شخص على تعويض.

"في نورثهامبتون ولينكولنشاير، قال أدينغتون عام 1772، اتخذ قرار لتحديد الأراضي العامة، ومعظم المناطق الجديدة الناتجة عن ذلك تحولت إلى مراعٍ؛ وبعد ذلك، في العديد من المناطق لا يوجد 50 فدانا (حوالي 200 ألف متر مربع) من الأراضي المزروعة، حيث كان يتم زراعة 1500 فدانا (حوالي 6 مليون متر مربع) في الماضي… أطلال المنازل والحظائر والاسطبلات…، هي الآثار الوحيدة المتبقية من السكان القدامى. في الكثير من الأماكن كان يوجد المئات من المنازل والعائلات، لا نجد اليوم سوى ثمانية أو عشرة. في أغلب الرعايا، حيث لم ينفذ تحديد الأراضي سوى منذ 15-20 سنة، كان عدد المالكين ضئيلا جدا مقارنة مع عدد المزارعين الذين كانوا يزرعون الأرض عندما كانت الحقول مفتوحة. وليس نادرا أن نرى أراضٍ واسعة يشغلها 4 أو 5 مربين أغنياء للماشية، التي جرى تحديدها مؤخرا، في حين كانت في السابق في أيدي 20 إلى 30 مزارعا، والعديد من صغار المالكين والمستأجرين. "لقد جرى طرد جميع السكان من أراضيهم التي كانوا يزرعونها". ليس فقط الأراضي البور، إنما في الكثير من الأحيان الأراضي المزروعة من قبل أفراد كانوا يدفعون رسوما للمقاطعة، أو يزرعونها بشكل مشترك، قد جرى إلحاقها من اللورد المجاور بحجة "التحديد". الدكتور برايس قال: "أتحدث هنا عن تحديد الأراضي المفتوحة والأراضي المزروعة. الكتاب المؤيدون للتحديد يتفقون مع أن، في هذه الحالة، التحديد يؤدي إلى التقليل من المزروعات، ورفع أسعار المواد الغذائية، ويسبب بنزوح السكان… حتى تحديد الأراضي غير المزروعة، كما هو الحال اليوم، يسلب من الفقراء جزءا من الوسائل لكسب العيش، ويزيد من مساحة المزارع التي هي أصلا واسعة جدا. عندما تصبح الأرض ملكا لعدد قليل من كبار المزارعين، صغار المزارعين"- الذين تحدث عنهم الدكتور برايس فوق: "هناك عدد كبيرة من صغار المالكين والمزارعين الذين يحصلون على غذائهم من منتجات الأراضي المستأجرة منهم، من لحم الأغنام والدواجن والخنازير…، يرسلون إلى الأراضي العامة، بحيث لا يصبحون بحاجة لشراء المنتجات التي يعيشون منها"- "يجدون أنفسهم قد تحولوا، لكسب عيشهم، إلى عمال يعملون في خدمة الآخرين وقد أجبروا على الانتقال لشراء كل شيء من السوق. قد يكون هناك المزيد من العمل، لأنه سيكون هناك المزيد من الإرغام… المدن والمصانع ستتوسع، لأن عددا كبيرا من الناس سيجبرون على البحث عن فرصة عمل. هذا هو الاتجاه الطبيعي الناتج عن تركز المزارع، وهو يتابع مساره في المملكة منذ عدة سنوات. باختصار، وضع الطبقات الدنيا قد ساء للغاية على مختلف الأصعدة، صغار المالكين والمزارعين باتوا عمالا ومرتزقة؛ وفي الوقت عينه، أصبحت الحياة في مثل هذه الظروف أكثر صعوبة". السيطرة على الأراضي العامة والثورة التي تلتها في الزراعة كان لهما نتيجة صعبة على العمال الزراعيين حيث، ووفقا لأيدن، بين عامي 1765 و1780 بدأت أجورهم بالانخفاض عن الحد الأدنى وكان لا بد من ردم هذه الهوة من خلال توزيع مساعدات رسمية طارئة. أجرهم، يضيف، "لم يكن كافيا لتلبية الاحتياجات الأساسية للحياة".

"في القرن الرابع عشر، فقدنا الصلة التي كانت تربط بين الزراعة والملكية الجماعية. وحتى لا نتحدث عن العصور القديمة، لم يتلقَ الناس قرشا واحدا من التعويضات المستحقة لهم من الـ 3511770 فدانا (حوالي 14 مليار متر مربع) من الأراضي العامة، التي سرقت منهم بين عامي 1801 و1831 مع العلم أن الملاك أنفسهم قد أقروا هذا الحق بالتعويض من خلال البرلمان".

"الأسلوب الأخير، وأهميته التاريخية، المستخدم لطرد العمال الريفيين يجب دراسته بشكل خاص في الأراضي المرتفعة (Highlands) باسكتلندا: حيث جرى تطبيقه بشراسة.

"قال جورج إنسور في كتاب نشره عام 1818: "كبار النبلاء الاسكتلنديين طردوا العائلات من أراضيها تماما كانتزاع الأعشاب الضارة، وقد تعاملوا مع قرى بأكملها وسكانها كالمعاملة التي تعرض لها الهنود، بانتقام، وكمطاردة للحيوانات البرية. وتم ابتزاز رجل بسبب جزه صوف خروف، أو بسبب قطعة من لحمه أو حتى أقل من ذلك… خلال غزو المناطق الشمالية في الصين جرى اقتراح، في المجلس الأعلى للمنغول، إبادة الشعب وتحويل الأراضي إلى مراع. وقد وضع العديد من المالكين في الأراضي المرتفعة (Highlands) هذا الاقتراح موضع التنفيذ في بلدهم وضد مواطنيهم".

"كل الإجلال لكل سيد. وها هي دوقة ساذرلاند التي أخذت المبادرة الأكثر منغوليةً. منذ أن تولت تلك المرأة، التي أنجزت دراستها في مدرسة الاقتصاديين، حكومة تلك المقاطعات، قررت تنفيذ علاج جذري، وتحويل كل الأراضي إلى مراع للأغنام، ومن ضمنها السكان، وبعد عدة عمليات مماثلة، جرى تنفيذها في وقت سابق، انخفض عدد السكان ليبلغ عددهم 15 ألفا. وبين عامي 1814 و1820 هؤلاء الـ 15 ألف، الذين يشكلون 3 آلاف عائلة، جرى طردهم بشكل ممنهج. جرى تدمير وحرق كل القرى، كل الحقول تحولت إلى مراعٍ. قاد جنود انكليز هذه العملية، مشتبكين مع السكان الأصليين. احترقت عجوز في حريق اشتعل في بيتها، بعد أن رفضت تركه. (استمعي جيدا يا برجوازية أنتِ التي تخطبين ضد الاستخدام الثوري للوقود! أنتِ التي استخدمتِ النار لسنوات طويلة ضد البروليتاريا. هذا هو تاريخكِ الذي يخبرنا عنكِ). وهكذا سيطرت تلك الدوقة على 794 ألف فدانا (حوالي 3 مليار متر مربع) من الأراضي التي كانت بيد السكان منذ سنوات مديدة.

"جزء من السكان المحرومين من أراضيهم جرى طردهم؛ وللجزء الآخر منهم، خصص 6 آلاف فدانا (حوالي 24 مليون متر مربع) لهم بمعدل فدانين (حوالي 8 آلاف متر مربع) لكل عائلة من أراضٍ واقعة إلى جانب البحر. هذه الفدادين بقيت غير مزروعة حتى وقتذاك ولم تعطِ أي انتاج لأصحابها. وقد بلغ كرم الدوقة مداه عندما فرضت بمعدل وسطي إيجارا لتلك الأراضي يبلغ شيلينغين وستة بنسات للفدان الواحد على السكان الذين، ومنذ قرون ماضية، قد بذلوا دماءهم دفاعا عن العائلة الحاكمة في ساذرلاند. وقد جرى تقسيم الأراضي المسروقة من السكان إلى 29 مزرعة كبيرة لرعي الأغنام، تسيطر عائلة واحدة على كل قسم، وكان أغلب العمال فيها من الانكليز. عام 1825، حل 131 ألف خروفا مكان الـ 15 ألف نسمة في الأراضي المرتفعة.

وقد بحث هؤلاء السكان المطرودين من أراضيهم إلى جانب البحر عن لقمة عيشهم فلجأوا إلى صيد السمك. وقد تحولوا إلى كائنات برمائية بشكل فعلي، بحسب تعبير كاتب انكليزي، حيث كانوا يعيشون بين البحر والبر، ولكن على الرغم من كل شيء، إن ذلك لم يسمح لهم بالعيش سوى نصف حياة. ولكن رائحة السمك وصلت إلى أنوف أسيادهم؛ وهؤلاء استشعروا بأرباح ممكن جنيها، فأجروا الشاطئ إلى مجموعة كبيرة من تجار لندن. وبذلك تم تهجير سكان الأراضي المرتفعة السابقين مرة ثانية.

"أخيرا، حصل تحول آخر. تم تحويل جزء من المراعي إلى أراضٍ للصيد… البروفيسور ليون ليفي، خلال خطاب ألقاه في نيسان/ابريل عام 1866 أمام جمعية الفنون، قال: "تهجير السكان وتحويل الأراضي الصالحة للزراعة إلى مراع، كانت أنسب طريقة لتحقيق الأرباح دون أي كلفة… قريبا تحويل المراعي إلى أراضٍ للصيد سيصبح حدثا عاديا في الأراضي المرتفعة… الغزال سيأخذ مكان الخروف، كما أخذ الأخير مكان الإنسان… مناطق واسعة، كانت قد وردت في إحصائيات اسكتلندا كمروج خصبة ذات مردود مرتفع، اليوم مُنِعَ فيها أي نوع من الزراعة والتحسين، وقد خصصت لتحقيق سعادة حفنة من الصيادين، الذين لا يأتون إليها إلا لبضعة أشهر بالسنة". في نهاية شهر أيار/مايو عام 1866، كتبت صحيفة اسكتلندية:

"في واحدة من أفضل مزارع الأغنام في ساذرلاندشاير وبعد انتهاء عقد الإيجار، عرض إيجار بقيمة مئة ألف جنيه استرليني لتحويلها إلى أرضٍ للصيد".

صحف أخرى، في التاريخ نفسه، تحدثت عن هذه الغرائز الإقطاعية، التي كانت تنمو أكثر فأكثر في انكلترا؛ ولكن واحدة منها قد خلصت، مدعمة حجتها بالأرقام، إلى أن عائدات كبار مالكي العقارات قد زادت، وكذلك الثروة الوطنية.

"إن نشوء ونمو البروليتاريا من دون موقد أو منزل كان أسرع من حاجة المصانع الوليدة. من جهة ثانية، الناس المنتزعون بالقوة من ظروف حياتهم المعتادة لا يمكنهم التأقلم بكل بساطة مع النظام الاجتماعي الجديد. وقد تحولوا، بأعداد كبيرة جدا، إلى متسولين وسارقين ومتشردين، أحيانا نتيجة الميل الطبيعي، وفي أغلب الأحيان نتيجة الضرورة. من ثم، وفي نهاية القرن الخامس عشر وخلال كل القرن السادس عشر، في أوروبا الغربية، صدر تشريع دموي ضد التشرد. آباء الطبقة العاملة الحالية، كانوا، قد عوقبوا لتحولهم إلى مشردين وفقراء معدمين. القانون تعامل معهم كمجرمين قصديين، كما لو تعلق الأمر بإرادتهم للاستمرار بالعمل في ظروف لم تعد موجودة.

"في انكلترا، بدأ هذا التشريع في عهد هنري السابع.

"في ظل حكم هنري الثامن، سنة 1530، كان المتسولون العجزة وغير القادرين على العمل يأخذون رخصة لممارسة التسول. المتشردون الأصحاء كانوا يجلدون ويعتقلون. كانوا يقيدون إلى عربة، ويجب جلدهم حتى تسيل الدماء من أجسادهم، ثم يحلفون يمينا للعودة إلى مكان ولادتهم، أو مكان سكنهم خلال السنوات الثلاث الماضية، وأن يعودوا إلى العمل. يا لها من سخرية قاسية! في السنة 27 من عهد هنري الثامن، تم تجديد هذه العقوبة، ولكن أضيف إليها عقوبات جديدة. في حال تكرار الفعل الجرمي [التشرد]، يجب جلد المشرد مرة أخرى وقطع نصف أذنه؛ وفي حال تكرر الفعل الجرمي مرة جديدة، فينفذ فيه حكم الإعدام كمجرم خطير على الدولة.

"في كتابه "يوتوبيا"، يصور المستشار توماس مور بوضوح وضع البؤساء في ظل تلك القوانين الجائرة. "يصلون، يقول، بكل جشع ونهم، كموجة حقيقية للسيطرة على آلاف الدونمات من الأراضي وإحاطتها بالسياجات، وتعريض أصحابها لكل أنواع المظالم التي تجبرهم على بيع كل شيء. بطريقة أو بأخرى، طواعية أو كراهية، يجب عليهم التخلص من كل شيء، الفقراء، القلوب البسيطة، الرجال، النساء، الأيتام، الأرامل، الأمهات وأولادهن الرضع وجميع أغراضهم؛ بقليل من الموارد ولكنهم بأعداد كبيرة، لأن الزراعة تحتاج إلى الكثير من اليد العاملة. يجب أن يبتعدوا عن بيوتهم القديمة، دون أن يجدوا مكانا للاستراحة. في ظروف أخرى، بيع أثاثهم وأوانيهم المنزلية يمكن أن يساعدهم، ولكن أقل من قيمتها الحقيقية؛ ولكن حين يرمون فجأة خارج بيوتهم، فيضطرون إلى بيعها بقيمة زهيدة جدا. وعندما يتجولون هنا وهناك، حيث يأكلون حتى آخر قرش يملكونه، ماذا يمكنهم أن يفعلوا سوى السرقة؟- اللعنة، بعد أن جردوا من كل ما هو شرعي!- أو التسول؟ وفوق ذلك نرميهم في السجن كمشردين، لأنهم يعيشون حياة ضالة ولا يعملون، ولا يريد أحد في العالم أن يشغلهم، حتى لو ألحوا على طلب أي نوع من العمل". من بين هؤلاء المشردين البؤساء، وضمنهم توماس مور، معاصرهم، القائل أنهم أجبروا على التشرد والسرقة، "أعدم 72 ألف شخص في ظل حكم هنري الثامن"، كما يخبر هولينشد في كتابه "يوميات انكلترا".

"صدر تشريع في السنة الأولى من عهد إدوارد السادس عام 1547، حيث أي شخص يرفض العمل يصبح عبدا للشخص الذي بلغ عنه. (هكذا يمكنه الاستفادة مجانا من عمل الشرير الفقير، بمجرد أن يبلَغ عن رفضه للعمل). السيد يؤمن للعبد الخبز والماء، شراب قليل الكحول وبقايا اللحم التي يعتقد أنها مناسبة له. يحق له إرغامه على القيام بأكثر المهام مثيرة للاشمئزاز، وذلك باستخدام السوط والسلاسل المعدنية. إذا تغيب العبد لمدة 15 يوما، فيحكم بالعبودية لمدى الحياة، ويتم وصمه بحرف S. (ع: عبد) على جبهته أو على خده؛ عند المحاولة الثالثة للهرب، يجب إعدامه كمجرم خطير على الدولة. يمكن للسيد بيعه، وتوريثه، وتأجيره كعبد تماما كالماشية أو قطعة أثاث. إذا اضطلع العبيد بشيء ضد أسيادهم، يجب أيضا إعدامهم. قضاة الصلح، حالما يبلَغَون، يجب أن يبحثوا عنهم. إذا كان واحد منهم خاملا لمدة ثلاثة أيام، يجب إعادته إلى مكانه الأصلي، بعد وصمه بحرف v على صدره، ويقيد بالسلاسل، ومن ثم يتم تشغيله في الطرقات أو غير ذلك من المهن. إذا أفاد المشرد بمكان إقامة غير ذلك الحقيقي، فيعاقب بإخضاعه للعبودية مدى الحياة لصالح ذلك المكان وسكانه، ويتم وصمه بحرف S (ع.: عبد). كل شخص يحق له خطف أولاد المشردين ويحتفظ بهم كمتدرب، الذكور حتى عمر 24 سنة، والفتيات حتى 20 سنة. إذا حاول هؤلاء الأطفال النجاة، فيصبحون حتى ذلك السن عبيدا لأسيادهم، الذي يحق له تقييدهم بالسلاسل وتوبيخهم كما يشاء. كل سيد يمكنه وضع على عنق كل عبد طوقا من الحديد، أو على ذراعه أو ساقه، حتى التعرف عليه والتأكد منه بشكل أفضل. الجزء الأخير من هذا التشريع ينص على الحالة التي يعمل فيها الفقراء لصالح الرعية، أو لصالح أشخاص يقدمون لهم الشراب والطعام: هذا النوع من عبيد الرعية تم الحفاظ عليه في انكلترا حتى ثلاثينات القرن التاسع عشر تحت اسم ("الرجال الجائلين"). وقد قدم أحد أبطال الرأسماليين هذه الملاحظة: "تحت حكم إدوارد السادس، بدا الانكليز شديدي الاهتمام بتشجيع المصانع وتوفير فرص العمل للفقراء. لدينا أدلة من التشريع الرائع الذي يقول أنه يجب وصم أجسام كل المشردين بالنار…" "تحت حكم إليزابيث، صدر تشريع، عام 1572، أن المتسولين غير الحائزين على رخصة وتجاوزوا سن 14 سنة فيتم جلدهم بقسوة ويتم وصمهم بالنار على أذنهم اليسرى، إذا لم يأخذهم أحد للعمل في خدمته لمدة عامين؛ وفي حال تكرار الجرم، وكان عمرهم قد تجاوز سن 18 سنة، يتم إعدامهم، أما في حال وجد من يأخذهم للعمل لديه لمدة عامين؛ ولكن في حال كرروا ارتكاب الجرم فتنفذ بحقهم عقوبة الإعدام دون رحمة كمجرمين خطيرين على الدولة. وقد صدرت قوانين مماثلة عامي 1576 و1597. وقد جرى تعليق المشانق للمشردين بموجب هذه القوانين. كل سنة يعلق 300 أو 400 مشرد على حبال المشانق. هنا أو هناك، يقول ستريب في كتابه: في مقاطعة سمورست وحدها، شنق في سنة واحدة أربعين مشردا، ووصم 35 بالنار، وجرى جلد 37 مشردا. في هذا الوقت يضيف المُحسن، "هذا العدد الكبير من المدانين لا يشمل الجزء الخامس من المجرمين، ويرجع إلى إهمال قضاة الصلح ورحمة الناس الحمقاء… في بعض المقاطعات في انكلترا، الوضع لم يكن أفضل، وفي بعضها كان أسوأ".

"في ظل حكم جاك الأول، كل الأفراد الذين يعثر عليهم ويكونون دون منزل أو يمارسون التسول يجب إعلانهم مشردين. قضاة الصلح (كلهم، بالطبع، من ملاك الأراضي وأصحاب المصانع ورجال الدين… المتولين المراكز القضائية) يستطيعون جلدهم علنا ومعاقبتهم بالسجن لمدة ستة أشهر أول مرة، وفي حال تكرارهم للفعل الجرمي يسجنون لمدة عامين. خلال فترة سجنهم، يمكن جلدهم مرة أخرى كلما وجد قضاة الصلح ذلك مناسبا… المتسولون غير القابلين للإصلاح والخطرون يوصمون بحرف R على كتفهم الأيسر، وتفرض عليهم الأشغال الشاقة؛ وفيما لو عادوا إلى التسول، يعدمون دون رحمة، ويحرمون من الرحمة الدينية. لم تلغَ هذه الإجراءات القانونية حتى العام 1714".

هكذا في وسط هذا الرعب كله، وبواسطة التدابير الدموية، جرى الانتهاء من نزع الملكية من السكان الزراعيين، وتشكيل الطبقة العاملة التي سُلِمت كعلف للصناعة الكبيرة. نحن هنا بعيدون كل البعد عن ملحمة الاقتصاديين! النار والحديد هما أساس التراكم الأولي؛ الحديد والنار حضرا لرأس المال البيئة الضرورية لتنميته؛ كتلة من القوى البشرية المكرسة لتغذيته؛ وإذا كان الحديد والنار ليسا اليوم الوسائل المعتادة المستعملة بواسطة التراكم المتزايد دائما، ذلك لأنه، حل مكانها، وسيلة أخرى منعدمة الرحمة وأكثر فظاعة، واحدة من الانجازات المجيدة للبرجوازية الحديثة، وسيلة تشكل جزءا ضروريا من تنظيم الانتاج الرأسمالي نفسه، وسيلة تعمل من تلقاء ذاتها، من دون ضجة، أو فضيحة، وسيلة متوافقة تماما مع الحضارة: الجوع.

لا نستطيع، في هذا الملخص القصير، أن نقارب تاريخ الاستغلال الرأسمالي في كل المستعمرات. نحيل قراءنا إلى قصص الاكتشافات البحرية الكبيرة، بدءا من كريستوفر كولومبوس، وكل قصص المستعمرات، سنكتفي في هذا الصدد بهذا الاقتباس "رجل بحماسة مسيحية سببت له كل هذه الشهرة"، ويليام هويت (5)، الذي يقول أيضا: "إن الفظائع الوحشية والمروعة التي ارتكبتها الأعراق المسماة مسيحية، في كل مناطق العالم وعلى كل الشعوب التي استعبدتها، لا نجد مثيل لها في أي حقبة من تاريخ العالم، وعند أي عرق، أيا تكن وحشيته وفظاظته وانعدام رحمته ووقاحته".

"وكما قالت، ماري أوجييه (في كتاب الائتمان العام، 1842)، "مع لطخات طبيعية من الدماء على وجه من أوجه العملة التي سببتها للعالم"، رأس المال جاء مسببا تعرقا من الدماء والوحل من كل المسام".

هذا هو بكل بساطة من التاريخ، أيتها البرجوازية، تاريخ حزين من الدم جدير بقراءته وتأمله من قبلكم أنتم الذين تعلمون، بحكم استقامتكم المعبرة عن رعب سليم للتعطش إلى سفك دماء (6) الثوريين في العصر الحديث؛ أنتم الذين تعلنون عدم السماح للعمال سوى باستعمال الوسائل الأخلاقية (7).

الهوامش:

(1). التراكم السابق (آدم سميث). [الملاحظة من جايمس غيللوم]

(2). أدولف تيير (1797-1877) سياسي فرنسي قمع كومونة باريس. [الملاحظة من المحرر]

(3). قاضٍ محلي. [الملاحظة من المحرر]

(4). قانون أو مرسوم.

(5). رائد الانثروبولوجيا. [الملاحظة من المحرر]

(6). "التعطش لسفك الدماء"، تهمة ألصقت بالمتمردين من العصبة المتمردة (كذا) في سان لوبو وليتينو وجالو [إيطاليا] في نيسان/ابريل 1877. [الملاحظة من كارلو كافيرو]

(7). إهانة وجهها القاضي في المحاكمة المذكورة أعلاه (الهامش رقم 6). [الملاحظة من كارلو كافيرو]

خاتمة كتاب ملخص رأس المال لكارل ماركس
    

Red Cavalry Riding | Kazimir Malevich
الكاتب/ة: كارلو كافيرو.
ترجمه/ته الى العربية: وليد ضو     

الشر جذري. منذ فترة طويلة يعلم عمال العالم المتحضر ذلك، ليس كلهم، بكل تأكيد، ولكن عددا كبيرا منهم؛ والأخيرون يعدون وسائلهم الخاصة لتدميره.

وقد اعتبروا التالي: 1) المصدر الأول لكل ظلم واستغلال للإنسان هو الملكية الفردية؛ 2) تحرر العمال (التحرر الإنساني) لا يمكن أن يقوم على هيمنة طبقية جديدة، إنما عبر نهاية كل الامتيازات والاحتكارات الطبقية وعبر المساواة في الحقوق والواجبات؛ 3) أن قضية العمل، قضية الإنسانية، لا حدود له؛ 4) أن تحرر العمال يجب أن يكن فعل العمال أنفسهم. ومن ثم صاح صوت قوي قائلا: "يا عمال العالم، اتحدوا! لا للمزيد من الحقوق دون الواجبات، ولا للمزيد من الواجبات دون الحقوق! ثورة!"

لكن الثورة التي يرتكز عليها العمال ليست ذريعة، وليست وسيلة تحقق هدفا مضمرا. البرجوازية، هي أيضا، ككثيرين غيرها، ارتكزت ذات يوم على الثورة: لكن كانت فقط لتحل مكان طبقة النبلاء، واستبدال النظام الإقطاعي للقنانة بنظام العمل المأجور الأقسى. هذا ما نتجرأ على تسميته التقدم والحضارة! كل يوم نساهم، بفعالية، باحتفالية البرجوازي السخيفة الذي يمضي قدما مكررا كلمة الاستيلاء على السلطة. ثورة العمال، هي ثورة تقوم من أجل تحقيق محتوى الفكرة الثورية.

إذا أخذنا كلمة الثورة بمعناها الواسع، بمعناها الحقيقي، التي تعني العودة إلى نقطة البداية، التحويل والتغيير. بهذا المعنى، إن الثورة هي روح كل المادة الدائمة. في الواقع، كل شيء في الطبيعة، ينجز دورة أبدية، كل شيء يتحول. المادة، تبقى دائما بنفس الكمية، يمكن أن يتغير شكلها بطرق لا حصر لها. عندما تفقد المادة شكلا قديما وتأخذ شكلا جديدا، تكمل انتقالا من الحياة القديمة، التي تموت، إلى حياة جديدة، تولد فيها. عندما قام غزالنا، لنأخذ مثلا مألوفا، بتحويل 10 كيلو من القطن إلى 10 كيلو من الخيوط، ما الذي حصل؟ موت الـ 10 كيلو من مادة القطن الخام، وولادتها في شكل الخيوط. وعندما يحول النساج الخيوط إلى قماش، ما الذي يحصل؟ لا شيء سوى انتقالا للمادة، من شكل الخيوط، إلى حياة في شكل القماش، كما حصل منذ قليل عندما تحولت الحياة من شكل القطن الخام إلى شكل الخيوط. إذا المادة، تتغير من شكل حياة إلى آخر، وتعيش في تغير مستمر، متحولة، مثورة.

ولكن، إذا كانت الثورة هي قانون الطبيعة، التي هي كل شيء، يجب أن تكون أيضا قانونا للإنسانية، التي هي الجزء. ولكن على الأرض هناك حفنة من الرجال لا تفكر كذلك، إنما تغلق عيونها حتى لا ترى وتصم آذانها حتى لا تسمع.

هنا، أسمع برجوازيا يصرخ بوجهي: "نعم، صحيح، القانون الطبيعي، الثورة التي تطالبون بها، هي المنظم المطلق للأفعال الإنسانية. الخطأ بطرق القمع، وبكل الاستغلال، وبكل الدموع وبكل الدمار الناجمة عنها، يجب أن يتحملها هذا القانون الذي لا يرحم الذي تفرضه الثورة، التحويل المستمر: الصراع من أجل البقاء، امتصاص الأقوى للأضعف، تضحية الأقل كمالا لصالح ازدهار الأكثر كمالا. إذا ضحى مئات العمال لتحقيق رفاهية برجوازي واحد، فإن ذلك يحصل، ليس بسبب خطأ منه، الذي على العكس قد يشعر بالأسى والأسف، إنما عن طريق تطبيق القانون الطبيعي الوحيد، الثورة".

إذا أردنا الحديث بهذه الطريقة، لن يطالب العمال بالأفضل: لأنه، في ظل القانون الطبيعي نفسه الذي يريد التحويل، الصراع من البقاء، الثورة، فإنهم يتحضرون ليكونوا الأقوى، للتضحية بكل النباتات البرية والطفيلية المعيقة لنمو النبتة الجميلة والقوية والكاملة التي يجب أن تكون الإنسان، الكامل والتام، بكامل طابعه الإنساني.

لكن البرجوازيين كثيرو الخجل والورع حتى يكونوا قادرين على المطالبة بالقانون العام للثورة. قد يكونون قادرين على ذلك في حالة السكر؛ ولكن في قرارة أنفسهم، وبعد أن أجروا حساباتهم، يجدون أن الأمور جيدة كما كانت، فيبدأون بالصراخ بصوت عالٍ: "النظام، الدين، العائلة، المحافظة!" وذلك بعد وصولهم، بواسطة المجازر والحرق والسرقة، للسيطرة على مواقع الهيمنة والاستغلال للبشرية، يعتقدون أنهم يستطيعون إيقاف مسار الثورة؛ لا يرون، بسبب غبائهم، أن جهودهم لن تؤدي إلا التحضير للإنسانية، وبالتالي لهم أيضا، مصائبا مخيفة، عبر الانفجارات الفجائية، للقوة الثورية المضغوطة بجنون.

الثورة- ما إن هدمت الحواجز المادية التي تعترضها، ومضت حرة في طريقها- ستكون كافية، وحدها، لتحقيق التوازن بين الرجال الأكثر كمالا، النظام والسلام والسعادة الأكمل، لأن الرجال، في تطورهم الحر، لا يسيرون كالبهائم، إنما ككائنات حية، العقلانيين على أعلى المستويات والاجتماعيين، الذين يفهمون أنه لا يمكن للإنسان أن يكون حرا حقا وسعيدا من دون الحرية والسعادة المشتركة لكل الإنسانية. لا للمزيد من الحقوق دون الواجبات، ولا للمزيد من الواجبات دون الحقوق. لذلك، لا للصراع بين رجل وآخر، إنما نعم للنضال من أجل بقاء كل الرجال ضد الطبيعة (1)، من أجل الاستيلاء على أكبر قدر ممكن من القوى الطبيعية لتحقيق منفعة البشرية جمعاء (2.)

متى عرفنا الشر، فمن السهل تصور علاجه: الثورة من أجل الثورة، أي ثورة تحقق محتوى الفكرة الثورية.

ولكن ماذا يفعل العمال لاستعادة مسار الثورة؟

هذا الكتاب ليس المكان المناسب لصياغة برنامج ثوري، وقد جرى بلورته ونشره في وقت سابق في كتب أخرى؛ سنكتفي في الختام، للإجابة عن السؤال، بذكر كلمات سمعناها من عامل، والتي سبق وأوردناها في بداية هذا الكتاب: "العامل قام بكل شيء، ويمكنه تدمير كل شيء، لأنه يمكنه بناء كل شيء".

الهوامش:

(1). نفضل استبدال جملة كافيرو الخرقاء بشكل مأساوي بعبارة أخرى لصديقه إليزيه ركلوس: "الإنسان الذي أصبح "وعي الأرض" الجدير بمهمته يقوم بذلك كجزء من المسؤولية لتحقيق التناغم والجمال في الطبيعة المحيطة". [الملاحظة من المحرر]

(2). المفهوم نفسه للتنظيم العفوي والحر للمجتمع الإنساني المتحرر بواسطة الثورة عرضه إريكو مالاتيستا أمام المؤتمر العام الثامن للأممية في برن (اجتماع 28 تشرين الأول/أكتوبر عام 1876): "المجتمع ليس تجميعا اصطناعيا، يدار بالقوة، أو بواسطة عقد، بيد أفراد متمردين بطبيعتهم. إنما على العكس من ذلك، هو جسم عضوي حي، يكون الرجال فيه الخلايا المساهمة معا في الحياة وتطور الجميع. يحكمه قوانينا أساسية، ضرورية وغير قابلة للتغيير تماما ككل القوانين الطبيعية. ليس هناك عقدا اجتماعيا، إنما يوجد قانون اجتماعي… . من خلال العادة، التي تتناسب، مع تطور البشرية، مع ما نسميه، في علم الميكانيك، قوة القصور الذاتي، تميل الأشكال الاجتماعية إلى تأبيد ذاتها؛ واجب الثوري هو بذل كل جهد ممكن لتحويل هذه الأشكال باستمرار وللحفاظ بشكل دائم على مستوى التقدم الأخلاقي والفكري للإنسانية. إذا كان هناك من يحاول وقف وإبطاء الحركة الاجتماعية، علينا المضي بالإنسانية قدما في طريقنا التي تبدو محفوفة بالمخاطر تماما كما هي الطريق إلى النجوم". [الملاحظة من جايمس غيللوم]


رسالة كافيرو إلى ماركس، ورد الأخير عليها
    

Kazimir Malevich | Non-objective composition, 1915
الكاتب/ة: كارلو كافيرو، كارل ماركس.
ترجمه/ته الى العربية: وليد ضو     
المصدر:     
لي موليير، 23 تموز/يوليو 1879

سيدي المحترم

أرسل إليكم مع هذه الرسالة نسختين من كتابكم رأس المال، الذي لخصته.

أردت أن أرسلهما لكم في وقت أبكر، ولكنني الآن تمكنت من الحصول على عدد قليل من النسخ بفضل عطف أحد الأصدقاء، والذي بتدخله نجح بنشر الكتاب.

لو تمكنت من نشر الكتاب عبر تحملي تكاليف الطباعة، لوددت فعلا أن أرسل لك مسبقا المخطوطة حتى تراجعوها، ولكني سارعت إلى الموافقة على النشر الذي عرض علي. وها أنا اليوم أراسلكم متمنيا عليكم أن تخبروني هل تمكنت في دراستي هذه من النجاح في فهم والتعبير الدقيق عن فكر المؤلف.

من فضلكم، سيدي، تقبلوا فائق احترامي وصدقي.

بكل إخلاص لكم

كارلو كافيرو

موليير، كانتون ليمور (سين اي واز)

السيد كارل ماركس، 41، مايتلاند بارك رود، ن. لندن.

--

-- رد ماركس --

29 تموز/يوليو 1879

41، مايتلاند بارك رود

لندن. ن.و.

عزيزي المواطن

خالص الشكر للنسختين من عملكم! منذ بعض الوقت وصلني عملين مماثلين، الأول باللغة الصربية، والثاني باللغة الانكليزية (نشر في الولايات المتحدة)؛ ولكن نقيصتهما هي التالية: راغبَين بأن يقدما ملخصا شعبيا لكتاب رأس المال، تمسكا في الوقت عينه بتحذلق شديد بالشكل العلمي للتطور. وبهذه الطريقة، يبدو لي أنهما فوتا على نفسيهما، إلى هذا الحد أو ذاك، هدفهم الرئيسي، أي إقناع الجمهور المقصود بهذين الملخصين. وهنا بالضبط يكمن تفوقكم الكبير في عملكم!

أما بالنسبة لمفهوم الشيء، لا أعتقد أنني كنت مخطئا في عزو الاعتبارات الواردة في المقدمة إلى فجوة واضحة، معرفة الدليل على أن الظروف المادية اللازمة لتحرر البروليتاريا هي عفوية تولدها سيرورة الاستغلال الرأسمالي. ومع ذلك، أنا أتفق معكم- إذا فهمت جيدا مقدمتكم- أنه يجب علينا عدم إثقال عقول الناس الذين نسعى إلى تثقيفهم. لا شيء يمنعكم من العودة في الوقت المناسب لابراز الأساس المادي هذا لكتاب رأس المال.

مجددا شكري وإخلاصي الشديد لكم.

كارل ماركس