الجمعة، 16 أغسطس 2013

أسطورة دستة الأذكياء




"دستة الأذكياء" لم تثبت يوما أنها أكثر ذكاء من الذكاء الجماعي للجماهير المسحوقة. الأمر مرهون فقط بالنظر للذكاء كمعطى اجتماعي تاريخي وليس كموهبة فردية خارقة أو كتعويذة سرية لا يمكن الوصول لها الا من خلال قدرات الفرد العجيبة. لنأخذ مثالا حول الموقف من السيرك الانتخابي الذي نظمته البورجوازية في تونس لملئ الفراغ السياسي الذي تسبب فيه سقوط الأجهزة السياسية للدولة وخسارتها لشرعية وجودها تحت ضربات الموجة الانتفاضية الأشرس في تاريخ البلد. فأغلب "دستة الأذكياء" كانت قد انخرطت في هذا السيرك بدون أن تعي كونها مجرد كمبارس في مسرح الديكور الانتخابي الليبرالي. فأما "دستة الأذكياء" التي فازت فقد اعتقدت أنها ستحكم بملئ ارادتها الخالصة، وهذا ما جعلها في كل يوم تصطدم بوجود ارادة "خفية" تقف خلف ارادتها توجهها وحتى تدفعها ضد مصالحها الخاصة بالذات. أما "دستة الأذكياء" التي وجدت نفسها في مواجهة هزيمة مدوية، فانها لم تتبين كون الأمر يتعلق بوضع ورهانات تتجاوزها، بل هي أعادت أسباب هزيمتها الى كل ما هو وهمي. حيث أنهم يعتقدون أن ذكاءهم الخارق لا يجد له رواجا في أوساط الجمهور "الغبي"، أو أنهم كانوا أقل حرفية من نظرائهم الفائزين في اقناع الجمهور الفاقد للذكاء بذكائهم وبرامجهم السحرية لحل مشاكل هذا الجمهور. أما أولائك الذين يعتقدون أنهم "دستة الأذكياء" الأصلية والوحيدة، أو أصحاب "النظرية الثورية" التي لا يأتيها الخطأ من أمامها ولا من خلفها، ويعتقدون بأنهم قد وصلوا بذكائهم الخاص والفريد من نوعه الى فهم اللعبة، ليسجلوا مقاطعتهم للانتخابات بأحرف من ذهب، وأنه باعلانهم أنهم مع "مواصلة المسار الثوري" وأنهم "ضد الديمقراطية الشكلية" من أجل "ديمقراطية حقيقية"، ويعتزون أيما اعتزاز بكون موقفهم ذاك قد مثل الموقف الأكثر "ذكاء" (يسمونه "الأكثر ثورية"). أولائك هم من يعتقدون أنهم "الدستة الذكية" بألف لام التعريف، وانهم الأكثر تمثلا "للنظرية الثورية" المقدسة الموروثة جيلا بعد جيل، والأكثر وفاء للتعاليم المذهبية الصافية، الخالية من كل شوائب "النزعات البورجوازية الصغيرة". لكن أولائك يصطدمون بواقع يخدش غرورهم، واقع كون نصف الجمهور الانتخابي الافتراضي قد قاطع هو نفسه هذا السيرك الانتخابي، بدون ادعاءات كبيرة، وبدون أن تنتفخ أوداجهم، وخاصة بدون أن يعتبروا أنفسهم دستة الأذكياء". هم فقط عبروا عن ذلك بالطريقة الأبسط والأسهل: أنهم اتجهوا لقضاء مصالحهم الخاصة، أو انهم "فدوا" من الطوابير الطويلة وسوء التنظيم الذي ساد العملية الانتخابية، أو أنهم اعتبروا الأمر لا يعنيهم بما أنهم مقتنعون (كل من جانبه) أن اصواتهم لن تغير شيئا في مجرى الأمور، أو أنهم، وهذا ما تردد كثيرا قبل الانتخابات، يقولون بلغتهم الخاصة: "الأحزاب الكل (تحشي) فيه" و"الأحزاب الكل (تفلم) علينا" و"الأحزاب الكل تجري وراء الكراسي"....الخ.. ومقاطعة هذا الجمهور الواسع للانتخابات لم يكن تحت تأثير "دعاية ثورية" لأية "دستة أذكياء". وحتى كلامهم حول أن "الأحزاب الكل تجري وراء الكراسي"، وهو كلام لاسلطوي بامتياز، بما أنه يعبر عن وعي بكون الكراسي (أي السلطة السياسية) ليست مجعولة لخدمتهم بل هي مصدر امتيازات مادية ومعنوية، حتى هذا الكلام فانه لم يكن بتأثير "دستة أذكياء" لا سلطويين لم يكن لهم وجود أصلا. كذلك فان هذه المقاطعة لم تكن ردة فعل سلبية لامبالية بل هي موقف حاسم في مواجهة الدعاية الاعلامية، بل وهناك بعض المجموعات الشبابية خاصة في الأحياء الشعبية قامت بتخريب اللافتات الاشهارية لجميع الأحزاب في مقاطعة نشطة عنيفة لم تبادر بها حتى المجموعات "الثورية". ولو عدنا للجمهور الذي "اختار" الذهاب الى صندوق الاقتراع، فانه ليس خاليا من الذكاء الجماعي كما تعتقد "دستة الأذكياء". فالاتجاه العام للتصويت يحمل علامات ذكاء جماعي متنوع وفق الشرائح الاجتماعية والأهداف الخاصة التي راهنت عليها من خلال الانتخابات. ورغم أننا لا نستطيع التفصيل في الأمر، بحكم غياب أبحاث جدية حول طبيعة اتجاه الأصوات وعلاقتها بالشرائح الاجتماعية، فاننا نستطيع أن نفهم مثلا الصعود "المفاجئ" لقوائم العريضة الشعبية، ليس كمؤامرة تجمعية مثلما روجت له "دستة الأذكياء"، بل كتعبير عن رغبة في تحقيق مطالب لا علاقة لها بالدستور والمجلس التأسيسي ولا بالعلمانية والهوية...أي لا علاقة لها بمضمون الانتخابات نفسها. الخ بقدر اتصالها بالمسائل المعيشية المباشرة لتلك الشرائح الاجتماعية مثل الصحة والتشغيل...الخ. كما وأن التصويت المكثف لحركة النهضة جاء في شكل الزام خفي لهذه الحركة على التخلص من خطابها الايديولوجي القديم لصالح خطاب "متسامح دينيا"، وهكذا فان حركة النهضة وجدت نفسها تصعد للسلطة مكبلة بوعود يستحيل عليها انجازها، وهو ما سيستنزفها بسرعة خاصة مع تنامي الموجات الاحتجاجية.
لكن لنفترض جدلا أن "دستة الأذكياء" تملك وعيا "ثوريا" يتجاوز الوعي السائد في صفوف الجماهير الواسعة، فأي تأثير لهذا الوعي "الثوري" على مجرى الأمور؟ وهل حقا أن تقدم أو تعثر المسار الثوري مرتهن بوجود "دستة الأذكياء" التي تصف نفسها "بالطليعة الثورية"؟
لنعد للحياة الواقعية حيث تنقشع أسطورة "دستة الأذكياء". فموجة الانتظام في لجان الدفاع عن الأحياء مثلا، وبرغم المحدودية التاريخية لهذه الحركة، والتي بادر بها الجمهور الواسع في غمرة هيجانه الثوري، هل كانت بفعل تأثير "دستة الأذكياء"؟ بل هل كانت "دستة الأذكياء" تملك وعيا مسبقا بهذه الحركة؟ وهل تمثلت "دستة الأذكياء" هذه الحركة؟ وهل كان لها أي تأثير في تطورها أو في منع اندثارها لصالح الترتيبات السياسية الفوقية للأحزاب؟
ان الانتظام في لجان أو مجالس ذاتية التسيير تعبر في جوهرها عن حركة لاسلطوية بامتياز. فهي مبادرة تكسر السلطة المركزية الفوقية وتستعيض عن أجهزة الدولة القمعية والبيروقراطية بادارة ذاتية وتركز الجهود في ادارة الشؤون الاجتماعية بدل المنازعات السياسية على السلطة. ولو عدنا لهذه التجربة الفريدة في بلادنا فاننا نجد أن الجمهور لم يتحرك وفق ارادة "دستة الأذكياء" ولا وفق "نظرية ثورية"، بل وفق الظروف الواقعية التي وجد نفسه في مواجهتها. ونفس هذه الظروف الواقعية هي التي ستحكم لاحقا بأي اتجاه ستتطور تلك التجربة. وحتى الأوهام التي صاحبت الحركة هي في الواقع تعبير عن موازين قوى مادية موجودة على الأرض وليس في سماء ذكاء الأفراد.
أما "دستة الأذكياء" فانها في الحقيقة أقل ذكاء من الذكاء الجماعي الذي يظهر لنا كمعجزة خارقة استطاعت أن توقظ الجماهير من أقصى البلاد الى أدناها، وفي ضربة واحدة، وفي خطوة جماعية مفاجئة، لم تتأخر مدينة أو حي من الأحياء في انشاء لجانها ومجالسها بشكل متزامن عجيب سيبقى لغزا بالنسبة ل"دستة الأذكياء". هذه الأخيرة لم تجد غير ترديد ما كانت تردده دائما: الحرية السياسية، الانتخابات الديمقراطية، المجلس التأسيسي...الخ. واذا اقتربنا أكثر للجناح الراديكالي من "دستة الأذكياء" فنجد: المرحلة الديمقراطية، التحرر الوطني، الاقتصاد الوطني...الخ. وهكذا، وفيما كانت الجماهير تندفع ضد الدولة البورجوازية الديكتاتورية منها والديمقراطية، فان "دستة الأذكياء" كانت تروج لبضاعة النموذج الديمقراطي الليبرالي على الطريقة الأوروبية وللمجلس التأسيسي البورجوازي، وتدعو الجمهور الى صناديق الاقتراع بدل الاسقاط الفعلي للنظام، أي بدل ما بادرت به الجماهير "الغبية" نفسها بالقيام به فعليا من خلال التفكيك المتسارع للجهاز البوليسي وحل أجهزة الحكم السياسية وبدايات الاستيلاء على الملكية البورجوازية (أراضي، عقارات، مغازات، بنوك...الخ).
طبعا ف"دستة الأذكياء" تعيد ما يسمونه فشل الحركة المجالسية الى غياب "القيادة الثورية"، وهم يقصدون غيابهم هم أنفسهم، ويعتبرون أن الجماهير ما كان لها أن تتقدم في حركتها الثورية في ظل غياب تلك "القيادة الثورية"، أي في ظل غيابهم هم، بل تعتبر ببساطة أن كل ما حدث هو مجرد "انتفاضة عفوية"، أي سحابة عابرة في سماء النظام الصافية.
لكن لماذا غابت هذه "القيادة الثورية"؟ لا اجابة. لأننا لو قلنا أن "غياب القيادة الثورية" ناشئ عن غياب "دستة الأذكياء" نفسها فهذا سيخدش حياء من يزعم أنه"دستة الأذكياء" ، أو أننا سنعود لتفسير التاريخ بارادة الأفراد. أما لو قلنا أن غياب "القيادة الثورية" ناشئ عن شروط واقعية لا علاقة لها بذكاء الأفراد وارادتهم الخالصة، فساعتها فاننا سننهي من الأصل أسطورة دور "القيادة الثورية" طالما أن الحركة الثورية لا تتقدم أو تتعثر بسبب وجود أو غياب "دستة الأذكياء" بل بسبب الشروط الواقعية التي تنشأ ضمنها الحركة الثورية نفسها وما تواجهه من عناصر مادية تتجاوز حكاية الذكاء و"الوعي الثوري" المزعوم.
لكن من المهم أن نكشف التمويه بالكلمات الذي هو حرفة تختص بها "دستة الأذكياء"، فالحركة المجالسية في تونس، ونقصد بالحركة المجالسية هي حركة الانتظام الذاتي في أشكال تنظيم وادارة وتسيير ذاتية لا ترتهن لسلطة مركزية فوقية، كما الحركة المجالسية في كمونة باريس أو الحركة المجالسية في روسيا واسبانيا وايران والعراق وغيرها من الدول، هذه الحركة في الواقع لم تفشل أبدا، اذا فهمنا كلمة فشل بمعناها التاريخي. والدليل أن هذه الحركة مازالت تنبعث مع كل هبة ثورية عميقة كتلك التي نشهدها في تونس ومصر، حتى وان كان ذلك بأشكال وأسماء ويافطات مختلفة. فهذه الحركة لم تفشل بل انهزمت بتأثير ميل موازين القوى العسكرية لصالح الطبقات السائدة، وهو اختلال لا يقع في مستوى محلي أو وطني بل على المستوى العالمي حيث لاتزال الرأسمالية تحتفظ بتفوق عسكري، ولا يخفى كون القوة العسكرية هي قوة اقتصادية. فالقول بأن هذه التجربة أو تلك قد فشلت يوحي من خلاله السلطويون أصحاب الذكاء الخارق كون التجربة قد انحلت فقط من خلال عناصرها الداخلية، وبالتالي فانها عاجزة بنفسها عن النجاح. اما في الواقع فان تلك التجارب قد تم سحقها بالقوة والقمع الدموي ووسائل الدعاية والاختراق ، وذلك على عكس الاشتراكيات الدولتية التي تبشرنا بها "دستة الأذكياء" والتي فشلت بالفعل وانحلت بمفعول أزماتها الداخلية وليس من خلال تدخل عسكري. فالاتحاد السوفييتي (أسطورة اشتراكية "دستة الأذكياء") كان قد سقط وتحلل بدون أن يكون هناك تدخل عسكري خارجي، بل ان الدولة السوفييتية كانت تتوفر على أعظم ترسانة عسكرية في العالم. والأفضع من كل ذلك أن "اشتراكية" الاتحاد السوفييتي كانت قد تبخرت برغم وجود "دستة الأذكياء" على رأسها. فلماذا لم يمنع وجود "دستة الأذكياء" (الجدود المقدسون لأذكيائنا الجدد) من السقوط المروع لتلك "الاشتراكية". أما موت ستالين أذكى أذكياء "دستة الأذكياء" فهو التفسير الوحيد الباقي لدى اشتراكيينا السلطويين لسقوط اشتراكيتهم تلك. وهذه الأسطورة لا تضاهيها سوى أسطورة سقوط دولة الخلافة بسبب موت آخر الخلافاء، أو تحول "اشتراكية" الصين الشعبية الى رأسمالية بسبب موت ماو تسي تونغ. وهكذا سينتظر التاريخ ولادة رسول جديد خالد لا يموت لكي تقوم الاشتراكية ولا تنتكس مرة أخرى الى الرأسمالية.
أما هزيمة الانتظام المجالسي في تونس فهو ناشئ بالأساس عن حملة القمع والترويع وبث الفوضى المتعمدة وبقاء موازين القوى العسكرية لصالح الطبقة السائدة، ثم توحيد البورجوازية لنفسها من خلال نخبتها السياسية في اطار ما سمي بالمجلس الوطني لحماية الثورة ثم الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة وفرض هذه الأخيرة كسلطة بديلة بالقوة العسكرية وقوة وسائل الاعلام واختراق الحركة الجماهيرية من خلال عناصرها الأكثر نشاطا، ثم اتحاد الأحزاب والنقابات وكل أصناف الجمعيات التي تم ضخ الأموال الطائلة لتفريخها من أجل فرض ما أسموه بالانتقال الديمقراطي وجر الجمهور الى صناديق الاقتراع في مشهد دعائي غير مسبوق، حتى أن حمة الهمامي زعيم "دستة الأذكياء" ظل لأيام هو وزوجته يستعملون كل ما بقي لديهم من رصيد ثقة جماهيرية لإقناع الشباب المنتفض بالعودة الى حضيرة السيرك الانتخابي.
فهل تسمون ذلك فشل الحركة المجالسية؟ انه فشلكم أيها السوبرمانات الذكية. أما في الواقع فانها قد كانت حربا ضروسا ودموية، لم تستسلم فيها الجماهير (وهي لم تستسلم الى الآن) بدون أن تكون قد راكمت التجارب والخبرات، وبدون أن تكون قد طورت ذكاءها الجماعي وأرست تقاليد ثورية من المؤكد انها ستكون سلاحا اضافيا في معاركها القادمة. أما "دستة الأذكياء" فانها ستظل تندب حظها العاثر لأن "قيادة ثورية" لم تبرز، ولأنهم لم يثبتوا يوما أنهم أكثر ذكاء من الذكاء الجماعي للجماهير.
ملاحظة: تم استعمال مصطلح "دستة الأذكياء"، الذي يعود في الأصل للينين، بمعاني مختلفة يمكن فهمها من خلال السياق العام للنص. كما أن هناك بعض العبارات من اللهجة المحلية التونسية الموضوعة بين ظفرين يمكن أيضا فهمها من خلال السياق.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق