السبت، 22 أكتوبر 2011

الأزمة المعاصرة في تأملات الليبراليين الأخلاقية

لقد كتبنا في (هل نحن على أعتاب انفجار عالمي جديد؟) في عام 2008 في الحوار المتمدن: "إنَّ كلَّ عنصر يمنع تكرار الأزمات السابقة في السوق الكونية، يصبح بدوره بذرة جديدة لأزمة أقوى وأعم من كلَّ ما سبقها من أزمات في تاريخ المجتمع العالمي لرأس مال .. وإنَّ أزمة اليوم، ككلِّ الأزمات الصناعية السابقة في تاريخ الرأسمالية، هي أدلة متكررة لعدم قدرة الرأسمالية، على إدارة مجتمع إنساني خالٍ من الأزمات، وما يلازمها من المصاعب الاجتماعية، أي البطالة، والمجاعة، والفقر، والحروب".

وها هي حركة احتلال وول ستريت تنتشر وستصل تدريجيا إلى بوسطن، ولوس انجلس، وسان لويس، وكانساس سيتي، ومن ثم ستخترق حدودها الأمريكية وستضرب كندا وأوروبا. وإن الحركة في مجموعها تعبر عن غضب العاطلين عن العمل إزاء جشع الحكومات والشركات الرأسمالية. وها هي الأزمة اليونانية تتسرب إلى أمريكا وأوروبا الموحدة كلها بفضل وصولها على الأخص إلى بنك ديكسيا (
DEXIA) الفرنسي - البلجيكي الذي تعرض للديون اليونانية والدول الأوروبية الأخرى ذات السيادة في السوق العالمية، وهو لاعب فعال في السندات الأمريكية أيضا. وفيما عدا ذلك، فقد انخفضت أسواق الأسهم في أوروبا وآسيا بشكل حاد وسط مخاوف من تصاعد الأزمة اليونانية إلى أزمة مصرفية في منطقة اليورو كلها، الأمر الذي لا بد أن يؤدي من جديد إلى ركود شامل في الاقتصاد العالمي، فالركود سيعوق بشدة الشحنات من كافة أنواع السلع الاستهلاكية، والإلكترونيات، والكهربائيات، والسيارات، والمواد الأولية. ولهذه التطورات عواقب وخيمة على الاقتصادات الضعيفة الأخرى في منطقة اليورو وهي على الأقل 17 دولة من دول الاتحاد الأوروبي التي ستحتاج قريبًا مساعدة هذا الاتحاد والصندوق النقد الدولي. فما اللعبة المحتملة اللاحقة إذا؟ هل يمكن لليونان إيجاد فانوس السحري، أم أنها مجرد استباق لكارثة عالمية؟

لقد ظهرت في التجربة لا في النظريات: ان وجود الاتحاد الأوروبي، وصندوق النقد الدولي، والأولوية الفورية لتأمين اليورو، وزيادة الضرائب، وسياسة التقشف، وانخفاض قيمة العملات، والاصلاحات السياسية والاقتصادية، وسباق الحكومة اليونانية مع الزمن لتحقيق مطالب المقرضين أو حتى تخليها عن يورو وعودتها إلى الدراخما لا يجلب للعالم أو حتى لليونان وحدها، سوى راحة مؤقتة، فمنطقة اليورو غير قادرة على استعادة قدرتها التنافسية في السوق العالمية إلا بأساليب أخرى. لذلك، فإن تحسين الحالة اليونانية - وهو غير ممكن في الوقت الحاضر ومع الشروط الاقتصادية الحالية للرأسمالية العالمية- لا يعني شيئا بالنسبة للأسواق الدولية. وأدرك الاقتصاديون البرجوازيون أنفسهم، أن الوضع أسوأ بكثير مما كانوا يتخيلونه في الأشهر القليلة السابقة، فعجلت الأزمة بحركة الآلاف من المتظاهرين في أثينا احتجاجا على تدابير التقشف، إلى قلب منظم البورصة الأمريكية في وولستريت، الأمر الذي لا بد أن يعجل بأزمة أكبر وركود أكثر، لا في منطقة اليورو فحسب، بل في العالم أجمع، بما فيه الصين والسعودية واليابان، فما يسمى ببناء الجدار (
Firewall) حول البلدان المذيبة للسوائل مثل البرتغال وإيطاليا وأيرلندة، ليس سوى وهم جديد ولعبة جديدة لخدع الناس، فما نسمعه من الإعلام الرسمي، ليس هو ما يحدث وراء الكواليس، وما حدث في وول ستريت ليس سوى بداية جديدة لنشوء حركة طبقية تخترق حدودها السابقة، فتهديد الوزارات من قبل الجماهير في اليونان لا يعني سوى فتح أبواب جديدة أمام صراع طبقي سيصبح التاريخ العالمي المقبل مسرحه، الصراع الذي سيوضح أكثر فأكثر عجز الليبرالية التام في منع تكرار الصراعات الحاسمة بين القوى الاجتماعية التي تتنازع من جديد حول بقاء هذا النظام الاقتصادي المختل أو فنائه والاستعاضة عنه بنظام إنتاجي خاضع للوعي المشترك والمصلحة المشتركة لكافة أفراد المجتمع، فبقدر تعمق الأزمة المعاصرة، تتراجع الأوهام القومية والليبرالية إلى مؤخرة المسرح الوطني في كل مكان، وتتقدم حركات تضامنية مع شعاراتها الطبقية الجديدة إلى مقدمة المسرح العالمي. وسوف يعود بالتأكيد الشرق الذي ساهم بنضالاته الجماهيرية في تعميق الأزمة العالمية لرأس المال، وسيرفع هذه المرة شعاراته إلى مستوى أعلى من مستوى الليبراليين البرجوازيين الذين لا يستهدفون من كفاحهم سوى إنقاذ الرأسمالية من مأزقها، فيحاول الليبرالييون تفسير الأزمات بخطايا أخلاقية يرتكبها الأفراد، وكأن الأزمات ناتج من سلوك الأفراد لا من قانون اقتصادي خاص بنظام إنتاج الرأسمال، وحسب الليبراليين فمن الممكن للناشطين وممثلي المجتمع المدني الاتفاق على اقتصاد أخلاقي أكثر ملاءمة مع لقمة العيش للفقراء، فالسؤال الذي يشغل بال فلاسفة الأخلاق، هو كيفية إيجاد نظام رأسمالي أكثر إنصافا واستدامة، فمن خلال جعل العالم الليبرالي أكثر أخلاقية، سنجعل من الأرباح أكثر تعاظمًا، وسنجعل النمو الاقتصادي أكثر حرية، وهو الأمر الذي سيفسح المجال لاستخدام صناعة أكثر عقلانية، وتقليل التكاليف في الإنتاج، والازدياد في الموارد الطبيعية، ومن ثم تقليل الفقر، فكأن الأزمات ناتجة من قلة الموارد البشرية لا الكثرة منها.

هكذا يمكن للبشر أن يبحثوا أسباب الأزمة المعاصرة وما تلازمها من الصراعات في فلسفة الأخلاق وعلم اللاهوت، فالتأملات الاخلاقية بمثابة نظرة فاحصة للإنسان وأسراره التي تفرد بها وقدرته على التأثير في مجرى الأمور الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، فبدون اتخاذ طريقة أخلاقية في التنمية، لا يمكن القضاء على الفقر وإقامة الرفاهية في المجتمع، لذلك، ففي عالم غارق في المال، والمنتجات، والصناعة، والمدنية، لا يجد فلاسفة الأخلاق حلا للأزمة المعاصرة ومصائبها، إلا في زيادة المال والمنتجات.

وهكذا، فالأمر لدى فلسفة الليبراليين الأخلاقية يتعلق بالحياء، والجهل، والوجدان، والحب الإنساني، والمعرفة الأخلاقية، فبدل نقد شروط الإنتاج والتوزيع، على الإنسان أن ينزع أفكار الشريرة من رؤوسهم ويستعيض عنها بالأفكار الإنسانية الخيِّرة، فالحل تجده الفلسفة في التأملات الأخلاقية الموروثة في الأساس من التأملات الدينية التي تعود جذورها إلى الديانات الشرقية القديمة مثل البوذية والهندوسية والزرادشتية ثم الفلسفة اليونانية القديمة التي استعارت أفكار الخير والشر من هذه الديانات، ففلسفة الأخلاق تجد الحل في إعادة التربية، والتعاليم الأخلاقية، والسعي وراء الفضيلة، ومعرفة علاقة الخير والشر بالسعادة الإنسانية، ومنهج الوصول إليها، فالخير يأتي من المعرفة، من العلم، أما الشر فنتاج الجهل، وكأن الأزمات ونتائجها المأساوية، عاقبة أفعال الأخلاقية للأفراد لا المصالح الاقتصادية والسياسية التي تحكم كل العلاقات البشرية، فبدل النقد الدنيوي للمصالح الدنيوية، يجب إعادة توجيه الرأسمالية لصالح العام من خلال الصدق، والاخلاص، والمنافسة الأخلاقية، والبيع الأخلاقي، علما بأن فلسفة الأخلاق نفسها ليست سوى نتاج الجهل، فالأزمات والصراعات الحادة التنافسية والطبقية الناتجة منها تعبير متحضر عن تطور المدنية والليبرالية السياسية التي تنظمها، وإنها ظاهرة اقتصادية ناتجة من اختلال التوازن لا من أخلاق الأفراد. وإن النظام العالمي معيب اقتصاديا في جوهره، وإن هذا العيب سيدوم ما لم يسيطر البشر على الأسباب التاريخية لهذا الإنتاج المختل، فلا ذكاء إدارة أوباما ولا الأخلاق، يغير شيئا من هذا الجوهر المختل - في المجتمع الذي يقوده أوباما، وصل عدد العاطلين عن العمل إلى 14 مليون وعدد هؤلاء الذين يعيشون في خط الفقر إلى 50 مليون- فالمصدر الأصلي للاختلال هو فوضى المزاحمة، وهي قانون اقتصادي يتعارض في فترات تاريخية معينة، تعارضًا حادًا مع نمو الإنتاج الراسمالي. إن هذا التعارض يجب تجاوزه بالأزمات، فنمو انتاجية العمل يجري بصورة غير متناسبة في الفروع المختلفة للانتاج، وإن هذا النمو يجري في اتجاهات متعارضة بين الرأسماليين أنفسهم واقتسام الغنيمة - أي الربح بينهم - فالربح ونسبته إلى رأس المال، أي ما يسمى معدل الربح، هو الذي يحدد ضرورة توسيع الإنتاج أو الحد منه بدل حاجات البشر الاجتماعية. وهكذا، فالإنتاج يجري كقانون أعمى بدلا من أن ينظمه وعي المنتجين المشترك، وهذا هو الأساس التاريخي للاختلال الاقتصادي لا الأخلاق. لذلك، فلا يمكن القضاء على هذا الاختلال، دون تنظيم الإنتاج حسب خطة موضوعة مسبقة. وهذا الاختلال هو الذي يدفع المجتمع البشري بين الحين والآخر نحو الخروج من دائرة نظام الإنتاجي المعاصر والاستعاضة عنه بإنتاج واعٍ منظم، فمن خلال التجربة يصل المجتمع إلى أن البشر لا يجدون حلا للفقر والبؤس والبطالة في التنمية، وأعمال البر والاحسان، وايجاد فرص العمل، والعاطفة الإنسانية، وقضاء الخير على الشر، وتغيير وجه صدام حسين بالطالباني، وبن علي أو مبارك أو قذافي أو الأسد برؤساء ذات روؤس ليبرالية وأخلاقية، فالأزمة المعاصرة قد تضع بنفسها حدًّا لكل هذا الهراء الفلسفي وتخلف وراءها جيلا يفقد كل ثقة بالليبراليين وأخلاقهم الإنسانية الحقة، وهم الجماهير الموجودين سلفًا في الشوارع ويواجهون عنف الدولة في كل مكان في العالم، في اليونان كتونس، في أمريكا كمصر، في بريطانيا كاليمن، فما يجري في عالم اليوم هو نتاج النظام الليبرالي، فالأزمات وما تلازمها من البطالة والمجاعة، تحدث بسبب وجود فوضى المزاحمة الناتجة من النظام الاقتصادي الليبرالي. إذًا فالأمر يدور حول الاختلال في الاقتصاد الليبرالي لا الصلة بين الفرد والأخلاق، فالمنفعة لا الحق والباطل، والسياسة لا الحب الإنساني، والمصلحة الشخصية لا الصدق، هي التي تحكم العالم وعلاقات البشر ذات مصالح متناقضة، فالمجتمع لا يتغير من خلال تغيير الأفراد أنفسهم، وتغيُّر وجوه الدكتاتورية بوجوه الليبرالية، بل يتغير من خلال الاستعاضة عن هذا الإنتاج المختل بإنتاج منظم. ولكي يتخطى المجتمع البشري أزماته، أو اختلال توازنه الاقتصادي، فلا بد أن يطرح التاريخ أسلوبًا إنتاجيًّا أعلى من الأسلوب المعاصر للإنتاج. وكما نفهمها نحن، فليس الأسلوب الإنتاجي هذا، سوى التعاونيات الاشتراكية الخاضعة للتسيير الذاتي للمجتمع أي الكومونات، فلا إدارة أكثر علمانية، ولا إدارة أعمال أكثر أخلاقية، ولا الإنتاج العقلاني، ولا الحريات المدنية في الشرق، تغير شيئًا من الطبيعة القاسية لهذا الإنتاج المختل، فلا تختفي الأزمات دون اختفاء اختلال التوازن الاقتصادي بصورة مسبقة، وإن اختفاء هذا الاختلال مشروط بظهور أسلوب آخر في الإنتاج أعلى من الأسلوب الرأسمالي للإنتاج، وما هذا الأسلوب إن لم يكن الأسلوب الاشتراكي في الإنتاج؟ ولذلك، فلا بد أن نسمع من جديد إلى هذا الاتجاه التاريخي في حركة الجيش الجماهيرية الواسعة التي ستحرك العالم من جديد نحو هذا الهدف، أي الاشتراكية، الحركة التي لا بد أن تهز العالم من جديد بصرختها الصاخبة: لتعش الاشتراكية!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق