الخميس، 5 يوليو 2012

الطبيعة العالمية لنمط الإنتاج الرأسمالي وأممية الحركة الاشتراكية:




إن عالمية نمط الإنتاج الرأسمالي ليست ميزة طارئة، أو مرحلة من المراحل التي تمر بها الرأسمالية، فالميزة التاريخية التي تميز هذا النمط من الإنتاج عن كل أنماط الإنتاج الماقبل رأسمالية تكمن في طابعه العالمي. إذ أن الشرط التاريخي لظهور الرأسمالية لا يكمن في تطور محلي لقوى الإنتاج على مستوى بلد أو مجموعة بلدان، بل في تحول القوى الإنتاجية إلى قوة عالمية. فتطور التجارة العالمية، واكتشاف العالم الجديد وطرق الطواف البحري والحملات الاستعمارية، وتشكل السوق العالمية واحتكارها من طرف الشركات العالمية والإمبراطوريات التجارية ثم الصناعية، كل هذا كان قد مثل الشرط التاريخي لظهور وتطور نمط الإنتاج الرأسمالي.
ولعل كل تاريخ الرأسمالية منذ ظهورها في القرن السادس عشر هو تاريخ تدمير واستيعاب أساليب الإنتاج التقليدية وإخضاعها لأسلوب الإنتاج الجديد. وسواء تمظهرت هذه العملية في شكل حملات عسكرية استعمارية أو في شكل إلحاق صناعي وتجاري فان مؤداه العام كان بالضبط "خلق الرأسمالية لعالم على صورتها".
إن الخطأ العام للاقتصاد السياسي البورجوازي (بما في ذلك الاقتصاد السياسي المسمى ماركسي) في بحثه للرأسمالية، هو انطلاقه من "الاقتصاد الوطني"، أي أنه يبحث في الرأسمالية وتطورها انطلاقا من هذا البلد أو ذاك، أو من هذه القارة أو تلك، ويعتقد أن الرأسمالية تتطور في كل بلد على حدة بمعزل عن بقية العالم. وهذا الاقتصاد السياسي البورجوازي إذ يقر بالطابع العالمي للرأسمالية، فانه من جهة يعتبر أن عالمية الرأسمالية هي مرحلة مستحدثة وطارئة عليه وليست منبثقة من جوهره التاريخي، ومن جهة أخرى فانه يرى في العالمية تجميعا لتطور محلي للرأسمال الوطني. وهذا ما قاده في الغالب إلى أبحاث مجزأة ومشوهة هي تعبير عن وجهة نظر إيديولوجية قومية بورجوازية.
ولقد ظهرت أشكال متنوعة من هذا الأدب الاقتصاد سياسي في تونس على يد العديد من الفرق الماركسية. وكانت كل أبحاثها تتعلق بما يسمى "طبيعة المجتمع التونسي". وان التعارض مع كل هذا الأدب يكمن في نقطة الانطلاق بالذات. فبحث الرأسمالية عملية مستحيلة تماما على مستوى بلد واحد أو حتى مجموعة دول. فمثلما أن ميدان نشاط الرأسمال هو الكوكب كله وليس الدول، فان ميدان بحثه يقع في المستوى العالمي، أي بحثه بصفته نمط إنتاج ذو طبيعة عالمية وليس قطرية أو قارية أو محلية ضيقة.
وليس غريبا أن كل تلك الأبحاث، رغم كونها تنطلق في أغلبها من نفس المعطيات والإحصائيات القطرية، فإنها تصل إلى نتائج متناقضة. وهذا ليس نتيجة اختلاف في الإحصائيات نفسها، بل لأن كل طرف يجد في حضور أو غياب هذا العنصر أو ذاك من العناصر التي يعتبرونها أساسا من أسس نمط الإنتاج الرأسمالي، دليلا على صحة نتائجه. فواحد يعتبر، مثلا، وجود نسبة عالية من السكان المدينيين دليلا فاقعا على تطور الرأسمالية في تونس، بينما الآخر يجد في غياب الصناعة الثقيلة دليلا عل غياب أي تطور رأسمالي وواحد يجد في وجود العمل المأجور تعبيرا على حضور الرأسمالية، بينما الآخر يجد في غياب فرع من فروع الإنتاج (إنتاج وسائل الإنتاج مثلا) إثباتا قاطعا على أن نمط الإنتاج السائد هو نمط إنتاج ما قبل رأسمالي أو إقطاعي أو شبه-شبه..الخ.
وبطبيعة الحال، وانطلاقا من زاوية النظر القطرية هذه، فان كل فرقة تجد بالفعل عناصر واقعية تؤيد بها تحاليلها. ففي تونس، كما في كل بلد، بما في ذلك الدول "المتطورة"، يمكن العثور على إثباتات إحصائية سواء على وجود نمط إنتاج رأسمالي أو على غيابه أو تخلفه أو تبعيته..الخ. والعناصر التي يمكن أن نعثر عليها في هذا البلد ولا نجدها في بلد آخر، قد ينقلب الوضع تماما بمفعول التطور الرأسمالي نفسه، فنعود لنجدها في البلد الثاني في مقابل غيابها عن البلد الذي كانت حاضرة فيه بقوة. والعناصر التي كانت تميز بلدا معينا، في مرحلة تاريخية محددة، قد تغيب عنه تماما في مرحلة لاحقة. وهكذا فان طريقة البحث هذه تتحول إلى مطاردة إحصائية للظواهر الاقتصادية القطرية، وتفقد أي علاقة بالبحث التاريخي لأسلوب الإنتاج الرأسمالي.
وعلى النقيض من هذه الأبحاث ذات الطابع الإيديولوجي، فان بحثنا للرأسمالية كظاهرة تاريخية عالمية، لا يمكن أن ينطلق من الميدان القطري. فالعمل المأجور، والإنتاج من أجل المبادلة والربح، والمنافسة وهيمنة الطابع الفيتشي للبضاعة وسيطرة النقد كسلطة عالمية، وكل القوانين الاقتصادية الخاصة بنمط الإنتاج الرأسمالي بما في ذلك القانون الرأسمالي الأشمل: قانون القيمة-العمل، الذي يمثل الجوهر التاريخي لهذا الأسلوب الإنتاجي، كلها لا يمكن فهمها وبحثها إلا كظواهر عالمية. كما لا يمكن فهم التناقضات العامة التي تؤدي إليها: التناقض الأساسي بين الطابع الجماعي للإنتاج وطابع التملك الفردي لوسائل الإنتاج، التناقض الطبقي بين عبيد الأجر (البروليتاريا) وبين البورجوازية، كما الأزمات المتعاقبة والإختلالات وفوضى الأسواق وتقلبات الأسعار والتغير في تكلفة الإنتاج وفي قيم البضائع والأجور، كلها لا يمكن تبينها، كما هي على حقيقتها، بدون بحثها كظواهر عالمية، أي كظواهر تحدث في السوق العالمية وليس في الأسواق الوطنية أو الإقليمية.
إن تطور الرأسمالية لا يقع على مستوى وطني ليتجمع فيما بعد إلى تطور عالمي. فالعكس هو الصحيح، حيث أن تطور الرأسمالية يقع على المستوى العالمي ليجد مظاهر تطوره ذاك على مستوى البلدان أو القارات. لذلك فان بحث "طبيعة المجتمع التونسي" (وأسطورة المجتمع التونسي نفسها تبين الطابع البورجوازي لهذه الأبحاث) لا يمكن أن تكون نقطة انطلاقه "المجتمع التونسي" كجزيرة معزولة، بل السوق العالمية الرأسمالية وما يطرأ عليها من تحولات، ثم النتائج العامة لهذه التحولات على "المجتمع التونسي".
وإذا كان من الممكن تحقيب تطور الرأسمالية واقعيا، وبحث أثره على مستوى البلدان، فان التحقيب الوحيد للرأسمالية هو مرورها من الهيمنة الشكلية على العالم (
domination formelle ) إلى مرحلة الهيمنة الفعلية عليه ( domination réelle).أي من مرحلة هيمنة أسلوب الإنتاج الرأسمالي على العالم من خلال ربطه عبر سلطة المال والتجارة، إلى مرحلة هيمنته الفعلية، أي تحوله إلى أسلوب حصري للإنتاج في العالم كله. فان كان الأسلوب الرأسمالي المباشر في المراحل الأولى لتطور الرأسمالية، أي الأسلوب الإنتاجي القائم على العمل المأجور وإنتاج فائض القيمة، قد شمل جزء محددا فقط من العالم، فانه كان يبسط سيطرته على بقية أساليب الإنتاج الأخرى ويضمها في حركته عبر ربطها بالسوق العالمية. أما في المرحلة الثانية فان هذا الأسلوب الإنتاجي قد أصبح بالفعل الأسلوب الحصري في الإنتاج في كل العالم تقريبا، ولم تعد أساليب الإنتاج الماقبل رأسمالية سوى جزر صغيرة معزولة وخاضعة بالمطلق لقوانين رأس المال.
وتونس، وغيرها من البلدان، لم تشذ عن هذه القاعدة التاريخية. وان كان هذا ليس المجال لبحث المسار التاريخي الطويل لعملية إلحاق البلاد بالسوق العالمية، وصولا إلى السيطرة الفعلية لأسلوب الإنتاج الرأسمالي، فان المؤكد اليوم هو كون التناقضات والأزمات وكل الكوارث الاجتماعية التي تعرفها البلاد، ليست ناتجة عن نقص في التطور الرأسمالي، أو في تبعيته أو في عناصر ضعفه، بل نتيجة نموه المطرد وما يصاحب هذا النمو من أزمات، هي في الواقع ليست شيئا سوى جزئ من الأزمات التي تعيشها الرأسمالية في العالم. كما صار من المؤكد اليوم، كون التناقض العام والرئيسي الذي يشق "المجتمع التونسي" لا يعدو أن يكون الاستتباع الطبيعي للتناقض العام والرئيسي الذي يشق العالم بين البورجوازية مالكة وسائل الإنتاج وبين جمهور الشغيلة الذي لا يملك سوى قوة عمله الجسدية والذهنية، والتي لم يعد في الغالب يجد طريقا لبيعها في السوق الرأسمالية الكاسدة، أو أنه مضطر لبيعها في شروط تزداد بؤسا في كل يوم.
* * *

ومثلما أن وجود رؤوس أموال فردية لا يتعارض مع وجود رأس المال الوطني داخل كل بلد، بل إن الرأسمال الوطني لا يوجد إلا في شكل رؤوس أموال فردية متصارعة ومتنازعة، لكنها تتوحد جميعها سواء في مواجهة رؤوس الأموال الوطنية الأخرى، أو ، وخاصة، في مواجهة الطبقة النقيضة (البروليتاريا) وحركتها الثورية. كذلك فان وجود رؤوس أموال وطنية متصارعة ومتنازعة لا يتعارض مع وجود الرأسمال العالمي، بل إن الرأسمال العالمي يجد في الرأسمال الوطني صيغة وشكلا من أشكال وجوده. لكن، ومثلما أن الرأسمال الوطني ليس مجرد تجميع عددي لرؤوس الأموال الفردية في بلد معين، فان الرأسمال العالمي ليس مجرد إضافة عددية لرؤوس الأموال الوطنية المتعددة. فالرأسمال هو بالأساس علاقة اجتماعية، وهو بذلك علاقة اجتماعية عالمية.
وإذا كان هناك، في كل بلد بعينه، مجموعة من البورجوازيين كأفراد أو في شكل تجمعات بورجوازية متحلقة حول شركات أسهم، فان ذلك لا يتعارض مع وجود بورجوازية وطنية موحدة، رغم المنافسة الداخلية. كذلك فوجود بورجوازيات وطنية متحلقة حول الدول الوطنية المتعددة لا يتعارض مع كون البورجوازية، هي في الحقيقة، طبقة عالمية موحدة رغم كل حروب المنافسة التي تعصف بها يوميا. والطابع العالمي لطبقة البورجوازية يجد تجسيده في وجود الدولة العالمية للرأسمال (هنا يجب أن نميز بين الدولة ( ) والبلاد ( ))، أي الجهاز العالمي لإدارة شؤون الرأسماليين على المستوى الدولي. ولعل الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمنظمة العالمية للتجارة والحلف الأطلسي وغيرها من المؤسسات الدولية والإقليمية هي أجهزة دولتية للإشراف العالمي العام، تماما مثلما أن الدولة الوطنية (القطرية) تمثل الجهاز القطري لإدارة شؤون الرأسماليين في كل بلد بعينه. فمثلما أن وجود إدارات محلية (مستوى من مستويات وجود الدولة الوطنية) لا يتعارض مع وجود الدولة المركزية، فان وجود الدول الوطنية المتعددة لا يتعارض مع وجود الدولة العالمية للرأسمال، بل يمثل صيغة من صيغ وجودها وأسلوبا من أساليب إدارتها العامة.
* * *

وإذا كانت البورجوازية طبقة عالمية من حيث الطبيعة والأهداف التاريخية، فان الرأسمالية قد خلقت خلال تطورها طبقة نقيضة ذات طبيعة أممية وذات أهداف موحدة على المستوى العالمي. هذه الطبقة هي البروليتاريا، أو عبيد العمل المأجور.
والرأسمال بطبيعته العالمية تلك، يخلق تناقضا كونيا عاما ورئيسيا بين البورجوازية والعمال. ففي حين يكمن الهدف الموحد لكل البورجوازية في تحقيق مزيد الأرباح ومواجهة الهبات الثورية لضحايا النظام، فان الهدف التاريخي الموحد لكل البروليتاريا، أينما وجدت، هو في الصراع ضد نظام الاستغلال الرأسمالي ومواجهة شروط البؤس التي يفرضها عليها العمل المأجور.
وهكذا نرى كيف أن الأممية، والطابع الأممي للبروليتاريا، ليس شعارا عاطفيا، ولا هو مقولة عقائدية، ولا هو دين عالمي يجب على البروليتاريا اعتناقه، بل هو واقع مادي تخلقه الرأسمالية نفسها. لذلك فان الأممية لا تتمثل في ترديد نشيد الأممية ألف مرة في اليوم، ولا في تدبيج البيانات "المساندة" لهذه الحركة العمالية أو تلك، ولا في تزيين الجدران بالمطرقة والمنجل، أو في تذييل البيانات بشعار "يا عمال العالم اتحدوا"، بل في إبراز وحدة الأهداف الطبقية للبروليتاريا في العالم. فكثيرون هم من يرفعون شعار الأممية ويتغنون به، غير أنهم في الواقع يناقضونه ويقفون على الضد منه. وذلك بابتداع مهام خاصة للبروليتاريا في هذا البلد أو ذاك. فنجدهم يحاولون إقناع العمال "بالتحرر الوطني " هنا، و"باستكمال المهام الديمقراطية البورجوازية" هناك، و"بمساندة هذا النظام التقدمي أو الوطني" هنا، و"بالدفاع عن المكاسب الديمقراطية "ضد "المد الفاشي" هناك، إلى غير ذلك من الوصفات الإيديولوجية التي يقترحونها على البروليتاريا، ولا يتورعون عن وصف أنفسهم بالأمميين.
فالأممية ستكون كلمة بلا معنى، إذا كانت للبروليتاريا أهداف متناقضة. فأية أهداف مشتركة تربط عمالا "يناضلون" من أجل بناء الدولة الرأسمالية الوطنية المستقلة (التحرر الوطني)، وبين عمال آخرين يناضلون ضد "رأسمالهم" الوطني بالذات. وما الذي سيجمع بين عمال "يناضلون" من أجل "استكمال المهام الديمقراطية"، أي استكمال بناء النظام البورجوازي الوطني، وبين عمال يناضلون ضد هذه الديمقراطية البورجوازية بالذات. فالأممية، بهذا الشكل، سوف لن تكون سوى صندوق فارغ المحتوى وخالي الوفاض، ومجرد دعوات أخلاقية فضفاضة.
* * *

"ليس للعمال وطن، لا يمكن أن نمنحهم شيئا ليس لهم"، تلك كانت صرخة الأممية، وهي ليست صرخة سبارتاكيس أو اليسوع المخلص، ولا هي شعار للتحشيد الإيديولوجي، إنها صرخة واقع العمال أنفسهم. فالبروليتاريا في أي زمن وجدت فيه، وفي أي مكان تخوض فيه نضالاتها، ليست لها مصالح خاصة، أو مصالح وطنية، أو قومية، أو عرقية، أو جهوية..الخ تدافع عنها. فمصلحتها كانت دائما وستظل في النضال ضد عبودية الأجر، ضد مستغليها. أي ضد البورجوازية "الوطنية" التي تلعق، كالوحوش، من دمها وعرقها لمراكمة الثروة.
وانجرار البروليتاريا وراء هذا الشق البورجوازي أو ذاك، باسم الدفاع عن الوطن، أو عن الديمقراطية، أو من أجل "بناء الاقتصاد الوطني المستقل"، سوف لن يعني غير إلغاء نفسها كطبقة وتحولها إلى وقود لحرب المنافسة البورجوازية. فكيف يمكن لنا أن نتحدث عن الأممية والعمال يتقاتلون فيما بينهم دفاعا عن مصالح أعدائهم باسم الوطنية أو القومية والدفاع عن المدنية والحضارة ونشر الديمقراطية...الخ؟ وهل سيبقى للأممية معنى إذا وقف العمال في جبهات متناحرة تحت هذه اليافطة أو تلك؟
إن شرط تحرر العمال يكمن في تعرفهم على مصالحهم الأممية الموحدة. وإذا كانت البورجوازية العالمية تحكم تحت شعار "فرق تسد"، فان شعار "يا عمال العالم اتحدوا" لا يمكن أن يكون له معنى تاريخي إذا لم يتجسد في وحدة البرنامج التاريخي للبروليتاريا العالمية، إذا لم يتجسد في وحدة الأهداف، ووحدة الحركة. فالرأسمال كائن عالمي، ومواجهته إما أن تكون عالمية، وإما أنها محكومة بالفشل مسبقا.
لكن الأممية في الواقع العملي للحركة الثورية تكمن في أن العمال عليهم مواجهة "بورجوازيتهم" الوطنية بالذات. وهذه المهمة الطبقية ليست موكولة لقطاع بروليتاري دون آخر، ولا لبروليتاريا بلد دون غيره، ولا هي مهمة خاصة بمرحلة تاريخية دون أخرى من تطور حركة العمال. إنها مهمة البروليتاريا وقت ما وجدت وأينما وجدت. فالعمال والبورجوازية أعداء، وكل تحالف طبقي بينهم، أو "جبهة "شعبية" أو "وطنية" أو "ديمقراطية" تجمع السيد بعبده، لا تعني سوى إنهاء العمال كطبقة اجتماعية وتحولهم إلى ذرات فردية، إلى "مواطنين"، وبالمحصلة تحولهم إلى تابع ذليل ومنفذ لبرامج الرأسمال.
* * *

إن وجهة النظر الأممية هذه تضعنا في التناقض مع كل الحركات القومية، سواء منها الحركات القومية الكلاسيكية (القوميين العرب، البعثيين..الخ) أو تلك الحركات القومية اللابسة لبوس الماركسية واليسارية (الجبهة الشعبية، الوطنيون الديمقراطيون، الحركات الماوية أو الماركسية اللينينية..الخ). إذ أن هذه الحركة القومية تنطلق من زاوية نظر البورجوازية "الوطنية" ومن نزاعها من أجل أخذ موقع أفضل في السوق العالمية، سوق نهب فائض القيمة واستغلال العمال. ومهما زينت هذه الحركة مقولاتها بطابع "عمالي" و"شعبي"، ومهما دبجت من خطابات راديكالية حول "التحرر الوطني " و"الوحدة العربية" و"تحرير فلسطين" و"بناء الاقتصاد الوطني المستقل" و"الصراع ضد الامبريالية"..الخ، فإنها في الواقع لا تعبر إلا عن مصالح أعداء العمال، ولا تفعل سوى أنها تجر البروليتاريا خارج أرض صراعها الطبقي ضد الرأسمال، وتبتدع لها أهدافا غريبة عن أهدافها التاريخية الحقيقية، لتدمجها في النزاعات ما بين البورجوازيات.
فالتحرر الوطني لا يعني في الواقع سوى تحرر البورجوازية المحلية من هيمنة الأقطاب الرأسمالية الأخرى. والاستقلال الوطني لا يمثل سوى استقلال البورجوازية المحلية واستئثارها "بالحق" في استغلال "عمالها". فكل بورجوازية، أينما وجدت، تطمح لحيازة موقع "مستقل" في سوق النخاسة للعمل المأجور. وهي للوصول إلى هدفها ذاك مضطرة لحشد جمهور الكادحين وراءها. وفي ذلك فإنها تحاول تصوير مصلحتها الطبقية الخاصة كمصلحة عامة "للوطن"، "للقومية"، "للدين"، "للطائفة"، "للعرق"، "للجنس"...الخ، أي أنها تحاول إخفاء هدفها الخاص وتحويله إلى هدف عام يهم كل "الأمة"، كل "الوطن"، وتخوض حروبها ليس باسمها الخاص، بل باسم "الدفاع عن الوطن"، "الدفاع عن الأمة". والبورجوازية تجد في هذه الحركات القومية اليمينية منها واليسارية خير سلاح لحشد البروليتاريا وراءها.
ولعل التجربة التاريخية تثبت كون العمال، إذا ما انجروا وراء هذه الإيديولوجيات البورجوازية، فان مصيرهم المحتوم أن يكونوا قربانا على مذبح رأس المال، قربانا من أجل أن يبني الرأسمال الوطني دولته الوطنية المستقلة، أي أن تبني البورجوازية الوطنية دولتها وجهاز سيطرتها الطبقية، ولن يجني العمال سوى مزيد البؤس والفقر والاستغلال. وحالما يتم طرد "الرأسمال الاستعماري" يقيم الرأسمال "الوطني" عرشه البورجوازي بأكثر الطرق بربرية ووحشية. وتتواصل آلة الاستغلال الطبقي. ويتواصل نهب فائض القيمة. والأسياد الغرباء القدامى يتركون مكانهم (مؤقتا) للأسياد الوطنيين الجدد.
* * *

هناك من الفرق القومية ذات اللون الماركسي من يبرر شوفينيته البورجوازية بكون أن في هذا البلد أو ذاك لم تنجز البورجوازية الوطنية المهام الموكولة لها، نتيجة تحولها إلى بورجوازية عميلة أو "كمبرادورية"، وأنها، بحكم طبيعتها تلك، صارت عاجزة عن انجاز هذه المهمة. ويستنتجون من ذلك أنه على البروليتاريا أن تقوم بما عجزت البورجوازية عن القيام به: تطوير الرأسمالية الوطنية، تحقيق الديمقراطية، بناء الدولة الحديثة، انجاز "الاستقلال الوطني الحقيقي"، فك الارتباط مع الامبريالية...الخ. أي أنهم يقترحون على البروليتاريا إقامة مجتمع بورجوازي بدون البورجوازية، إقامة الرأسمالية بدون الاستغلال الطبقي، تحقيق النمو الاقتصادي والتطور التكنولوجي بدون البطالة والفقر والتهميش، تطوير قوى الإنتاج بدون أزمات وإختلالات وفوضى السوق، تطوير الاقتصاد الرأسمالي بدون الاندماج في السوق العالمية بل وفك الارتباط بها، مراكمة الثروة والأرباح بدون استخلاص فائض القيمة ونهب عرق العمال، بناء اقتصاد بضاعي للمبادلة بدون تمايز طبقي وفي كنف الهدوء والسلام الاجتماعي...أي إقامة الرأسمالية بدون جوانبها "السلبية" الملازمة.
إنهم يقرون بوجود بروليتاريا في هذه الدول، لكنهم ينكرون وجود رأس المال، أو يصنفونه كرأسمال من طبيعة خاصة (رأسمال تابع، رأسمال كمبرادوري...الخ)، وهذا يجرهم إلى اعتبار أن للبروليتاريا في هذه الدول مهمات خاصة مختلفة عن البروليتاريا في الدول الصناعية المتقدمة. هنا "يناضل" العمال من أجل بناء الرأسمال، وهناك يناضل العمال من أجل إنهائه. هنا "يناضل" العمال بالوكالة عن عدوهم، وهناك يناضلون من أجل أنفسهم.
إنهم مثلما ينظرون للرأسمال، لا كنظام عالمي، بل كظواهر محلية تتطور كل واحدة منها على حدة، فإنهم ينظرون للبروليتاريا، لا كوجود أممي، بل كمجموعات تناضل كل واحدة لحسابها الوطني الخاص.
إنهم لا يكتفون بإعلان غياب العلاقات الرأسمالية في بلدانهم (أي أنهم يقولون للعمال لا تناضلوا ضد رأس المال فهو غير موجود أصلا) بل إنهم يقترحون على العمال بناء أو استكمال بناء تلك الرأسمالية الغائبة أو المنقوصة. أو بلغة أخرى، فهم يقولون للعمال إنكم الآن بلا أعداء "وطنيين"، أو أن أعداءكم "الوطنيين" عاجزين عن انجاز ما يجب أن ينجزوه (وماذا يمكن لهؤلاء أن ينجزوا غير استغلال العمال واستعبادهم)، لذلك عليكم أن تخلقوا هؤلاء الأعداء وتسمنوهم جيدا، ومن ثمة ستمرون للنضال ضدهم. هذه ليست لوحة كاريكاتورية، بل هي لب تفكير هذه الفرق القومية الماركسية. والغريب ليس في إيديولوجياتهم المتفسخة هذه، بل في حفاظهم على ادعاء الأممية وانتصارهم لقضايا العمال.
* * *

إن انجاز المهام المسماة "ديمقراطية "أو "وطنية" لا تعني سوى الدعوة لتطوير الرأسمالية الوطنية، أي تطوير كل التناقضات الملازمة للنظام الرأسمالي وكوارثه الاجتماعية المصاحبة. وان انجرار العمال وراء هذه الشعارات لن يعني سوى تخليهم عن أهدافهم الطبقية الخاصة لصالح أهداف البورجوازية بكل شرائحها وفئاتها.
وإضافة بعض المصطلحات البراقة من نوع "ديمقراطية شعبية" أو "ديمقراطية جديدة" أو جمهورية اجتماعية" أو " تحرر وطني ذو أفق اشتراكي"..الخ لا يمكن أن تغير من الطبيعة التاريخية لهذه الشعارات البورجوازية. وهي في أحسن الحالات تعبر عن فهم خاطئ لطبيعة رأس المال وللطبيعة الأممية لنضال العمال، وهي في أغلب الحالات بث للأوهام الشوفينية الرجعية في صفوف البروليتاريا الثورية.
فالرأسمال منذ يوجد فهو ذو طبيعة عالمية، والبورجوازية منذ توجد فهي طبقة عالمية ذات مصالح موحدة، رغم نزاعاتها الداخلية. وبالمثل فالبروليتاريا منذ توجد فهي طبقة أممية، لأنها تواجه عدوا أمميا، ولأن تحررها لا يجد شرط وجوده الواقعي إلا في المستوى الأممي. وهكذا فالعامل في إفريقيا أو في آسيا أو في أوروبا أو في أمريكا يصارع نفس العدو، ويحارب نفس الطبقة، ويهدف لنفس الهدف التاريخي، أي تحرره من ربقة رأس المال. ومهما اختلفت الظروف الخاصة لنضال العمال، فان برنامجهم التاريخي واحد، مصيرهم واحد، وحركتهم حركة أممية واحدة. ويمكن الجزم بأنه بدون وحدتهم الطبقية الأممية، فان تحررهم سيكون مجرد سراب ومجرد أحلام رومنسية في أذهان "المتعاطفين" مع عبيد العصور الحديثة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق