الخميس، 5 يوليو 2012

تونس: قراءة في الموجة الاحتجاجية الراهنة


بعد فترة قصيرة من الخفوت النسبي، عادت موجة الاحتجاجات بأكثر حدة وشمولية. إذ أكد التقرير الرسمي الذي قدمته المؤسسة العسكرية الخاص بشهر ماي أن عدد الإضرابات الوحشية اليومية (إضرابات غير مؤطرة من طرف النقابات) قد تضاعف خمس مرات ليصل إلى حدود 15 إضراب يومي. كذلك عدد الاعتصامات المرفوقة في الغالب بقطع الطرق الرئيسية والسكك الحديدية. حيث تم تسجيل أكثر من 3 عمليات قطع طريق يومية. ورغم عودة النشاط جزئيا لإنتاج الفسفاط فان هذا القطاع يشهد شللا شبه كلي سواء في مناطق الإنتاج (الحوض المنجمي) أو في مناطق التكرير والشحن والتصدير (قابس، صفاقس). والأمر نفسه قد شمل، ولو بدرجة اقل، الأنشطة البترولية، حيث شهدت عديد حقول الإنتاج إضرابات واعتصامات سواء من عمال هذه الشركات أو من جمهور العاطلين عن العمل، وعمال المناولة والحظائر. كما وقام أهالي حي الملاحة برادس باعتصام شل حركة الميناء التجاري، مما أجبر الدولة على استعمال أكثر أشكال القمع، باعتبار وأن وقف نشاط هذا الميناء الأضخم في البلاد، والذي يمثل العصب الرئيسي للتبادل التجاري والاقتصادي، كان سيطلق رصاصة الرحمة على اقتصاد هو بطبيعته في حالة أزمة وركود غير مسبوقة. ولقد سبق ذلك انتفاضة محلية في أم العرايس (منطقة الحوض المنجمي) قامت على إثرها مواجهات دامية بين الجمهور المنتفض وقوات القمع، بما دفع هذه الأخيرة إلى الانسحاب كليا من المدينة. ورغم الهدوء النسبي الحالي في تلك المنطقة فان الوضع مرشح لعودة الانفجار باعتبار عجز السلطة على تقديم حلول للمطالبات الكبيرة والشاملة التي يطرحها الأهالي. وغير بعيد عن أم العرايس، وفي الرديف بالذات (رمز انتفاضة الحوض المنجمي في سنة 2008 ضد نظام بن علي) تخوض الجماهير جملة من التحركات الاحتجاجية من إضرابات جوع جماعية، إلى اعتصامات (عمال إدارة الفلاحة) وغلق كامل لفرع شركة الفسفاط هناك. وفي زيارة ميدانية لهذه المدينة يمكن معاينة غياب كلي لأجهزة الدولة (معتمد، بلدية، بوليس...الخ) بحيث أن الأهالي يقومون بتسيير شؤونهم بدون أي تدخل إداري رسمي مباشر. ولا تختلف الوضعية كثيرا في قفصة المدينة، حيث شهدت الأيام الماضية سلسلة من المواجهات الليلية أجبرت الوالي الجديد على النزول بنفسه لقيادة عمليات القمع والمداهمات والاعتقالات، وبالطبع لم تتخلف وسائل الإعلام الرسمية عن تشويه الحركة وتصوير الشباب المنتفض في صورة المنحرفين واللصوص، بل فان أجهزة القمع أصبحت تتعمد خلع المحلات التجارية والقيام بعمليات نهب ونسبها لهؤلاء الشباب من أجل تأليب الأهالي عليهم. وهذا بالتنسيق الفاضح مع بعض الميليشيات غير الرسمية لحزب النهضة الحاكم. وليس غريبا أن يتجه الجمهور الغاضب في أكثر من مناسبة للهجوم على مقرات هذا الحزب وصولا إلى إحراقها، باعتبار تحولها إلى مراكز للوشاية والتحريض على الشباب المنتفض، إضافة لاعتماده لنفس أساليب التجمع (الحزب الحاكم السابق) من خلال توزيع المساعدات على أنصاره والتدخل في عمليات التشغيل بنفس طرق المحاباة القديمة. وقبل ذلك بأيام قليلة شهدت بلدات السند والقطار من نفس ولاية قفصة مواجهات عارمة واجهتها قوات البوليس بحملة من الاعتقالات والمحاكمات الاستعجالية، مع العلم أن هذه البلدات لم تكن من المناطق المتفجرة ويمثل التحاقها بالحركة الاحتجاجية علامة مميزة على اتساع رقعة هذه الحركة وكسر العزلة النسبية التي كانت تعانيها مناطق الحوض المنجمي، إضافة لكونها تطرح تحديات جديدة أمام السلطة بظهور مطالبات أكثر تعقيدا تتجاوز بكثير قدرة الحكومة على تقديم حلول ولو تسكينية. واللافت في هذه الحركة الاحتجاجية العامة التي تشهدها ولاية قفصة هو بروز مطالبات تتعلق بتوزيع ثروة الفسفاط وطرح قضية التلوث وإيجاد بدائل اقتصادية جديدة لتحسين شروط الحياة البائسة التي تعيشها هذه المناطق. لكن موجة النضالات الشعبية لم تقتصر على مناطق محددة، بل إنها تكاد تشمل كل البلاد من أصغر القرى إلى أكبر المدن بما في ذلك إقليم تونس الكبرى. فبعد الإضراب العام الذي شهدته ولاية قبلي، عرفت ولاية مدنين جملة من التحركات وصلت إلى حدود المواجهات العنيفة والمباشرة، برغم أن هاتين الولايتين مثلتا معقلا من معاقل الحزب الحاكم (النهضة) ولم تشهدا تحركات كبيرة منذ نهاية جانفي 2011. أما ولايات سيدي بوزيد والقصرين والكاف وجندوبة التي مثلت أهم مراكز الانتفاضة ضد نظام بن علي (ديسمبر2010 – جانفي 2011) فان الحركة الاحتجاجية لم تتوقف بها رغم حالة المد والجزر خلال كل الأشهر السابقة. ولم تفلح كل المحاولات التي قامت بها السلطة الجديدة من أجل إطفاء الحريق الانتفاضي بها. فلا حملات القمع المتكررة، ولا محاولات بث النعرات العروشية والقبلية والجهوية، ولا عمليات التخريب المنظمة التي تقوم بها ميليشيات ما يسمى بالسلفيين ومحاولاتهم زرع الفوضى وتشويه الحراك الاجتماعي، ولا الإيهام برصد ميزانيات إضافية للتنمية بهذه الجهات قد استطاعت لجم حركة الشباب الغاضب، بل إن وتيرة النضالات في تصاعد مستمر لعل آخرها المصادمات العنيفة التي شهدتها كل من ساقية سيدي يوسف وغار الدماء حيث تمت مهاجمة مراكز البوليس، وقرية النصر في سيدي بوزيد حيث توحدت عديد المناطق للتصدي لهجمة قوات القمع التي جاءت لفك اعتصام مفتوح نظمه الأهالي هناك، وبعد مصادمات عنيفة اضطرت قوات البوليس إلى الانسحاب. أما عمليات عزل المسئولين الجهويين والمحليين بالقوة، ورفض زيارات أعضاء الحكومة والاعتصامات أمام مقرات الولايات والمعتمديات وصولا إلى اقتحامها، كلها قد أصبحت حوادث يومية. كذلك الإضرابات العامة المحلية في البلدات والقرى، سواء تلك المنظمة من طرف الأهالي بشكل تلقائي أو بتأطير الهياكل النقابية القاعدية والدعوات إلى العصيان المدني، وتطور المطالبات الاجتماعية لتتحول إلى مطالبات عامة تتجاوز الإطار القطاعي الضيق بما يؤشر لانخراط كل الشرائح من جمهور الكادحين والفقراء والمهمشين في حلبة الصراع. ولعل دخول عمال مناطق صناعية كبيرة بشكل جماعي في حركات احتجاجية مثلما حدث في مجمع ليوني وعمال المنطقة الصناعية بالغرابة (صفاقس) والمنطقة الصناعية بقصر السعيد (تونس) يبين بوضوح المدى العميق الذي وصلت إليه الحركة وتخلصها في كثير من الأحيان من عباءة التأطير النقابي البيروقراطي ذو الطابع السكتاري الضيق الأفق.
طبعا، ليس من الممكن تقديم جرد كامل للحركات الاحتجاجية المتعددة، أو التدقيق في طبيعة مطالبها والمستوى الذي وصلت إليه من النضج الثوري، ولا مستويات بروز حالة من الانتظام داخلها، غير أنه من الممكن تقديم مؤشرات عامة تسمح لنا باستشراف مآلاتها المستقبلية، ورصد عناصر قوتها كما نقاط ضعفها.
1) بغض النظر عن مستوى نضج الحركة الاحتجاجية الحالية ومستوى وعيها بنفسها أو بطبيعة العدو الذي تواجهه، وبغض النظر عن درجة القطيعة بين الجمهور المنتفض والسلطة السياسية القائمة، والى أي حد فقدت فيه هذه الأخيرة قدرتها على إضفاء الشرعية على نفسها وعلى الدولة والنظام الاقتصادي والاجتماعي عموما، فان الواضح كون الديكور الديمقراطي الذي أنتجه السيرك الانتخابي الأخير قد فقد بريقه بسرعة قياسية. فالثورة المضادة التي جمعت حولها كل النخبة السياسية الجديدة قد جعلت من مهمتها المركزية (بوعي تام لدى أغلب أطرافها وبغير وعي لدى بعضها الآخر) تحويل مجرى المسار الانتفاضي من طابعه الثوري إلى عملية انتقال "سلمي" للسلطة من يد إلى أخرى، فيما تم تعميده بالانتقال الديمقراطي. وكان السيناريو الذي أعدته هذه الثورة المضادة يقضي بعودة الجمهور المنتفض إلى وضع الخمود ما قبل الثوري، أي إلى وضع ما قبل 17 ديسمبر 2010، وترك المجال للأحزاب والقوى السياسية لترتيب بيتها وتحديد موقع كل منها ونصيبه من كعكة السلطة التي تركها أصحابها القدامى. وكان من المفترض من وجهة نظر القوى التي شاركت في هذا الحقل الليبرالي كون انجاز "انتخابات ديمقراطية شفافة" سيضع نقطة النهاية للوضع المتفجر، أو مثلما روجت له هذه القوى: الانتقال من "الشرعية الثورية" أو "الشرعية التوافقية" إلى "الشرعية الانتخابية"، وإغلاق دائرة الالتفاف النهائي على تقدم الموجة الثورية. غير أن الرياح لم تسر كما تشتهيه سفن الثورة المضادة. فإضافة لنسبة المقاطعة التلقائية المرتفعة للانتخابات والرفض الواضح لقسم كبير من الجماهير لجره كالقطيع نحو صناديق الاقتراع، فان موجة الاحتجاجات ما فتئت أن عادت وبشكل متسارع وصولا إلى وضع يتجاوز بكثير الوضع الانتفاضي للفترة الممتدة من ديسمبر 2010 إلى فيفري 2011.
2) تدل كل المؤشرات العامة كون موجة الاحتجاجات الراهنة ليست بأي حال من الأحوال مجرد تكرار لموجة الاحتجاجات التي سبقت سقوط بن علي أو حتى تلك التي اندلعت مباشرة بعد 14 جانفي 2011. ولعل أبرز مميزات المرحلة الراهنة لتطور الموجة الثورية هو الخفوت النسبي للمطالبات ذات الطابع السياسي، بالمعنى الإصلاحي للكلمة، أي المطالبات التي تختزل الحركة في مجموعة من الإجراءات الهادفة لإعادة ترتيب المشهد السياسي وتغيير النخبة الحاكمة وأساليب إدارتها للنظام الاقتصادي والاجتماعي القديم المتجدد، أو ما تم تعميده زورا ب"أهداف الثورة"، من نوع "إصلاح القضاء"، "إصلاح جهاز البوليس وتحويله إلى أمن جمهوري (!)"، "محاسبة رموز النظام البائد"، "صياغة دستور جديد"....الخ، وفي المقابل يمكن معاينة بروز المطالبات ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي، بل إن هذه المطالبات الاجتماعية قد تجاوزت في كثير من الأحيان طابع المطلبية السكتارية المحدودة الأفق نحو مطالبات أشمل، فالي جانب المطالب القطاعية (الزيادة في الأجور، الترسيم، التشغيل...) فقد ظهرت مطالب جهوية عامة مثل المطالبة بإنشاء مرافق عمومية (مستشفيات، كليات، شبكات تطهير وشبكات التزود بالماء الصالح للشراب، الكهرباء، المساكن...) كذلك المطالبة بالمشاريع الإنتاجية الكبيرة التي يمكنها استيعاب الأعداد المتعاظمة من الشباب المعطلين عن العمل، وتمكين الفلاحين الفقراء من الأراضي وشبكات الري، وإقامة البنية التحتية لفك العزلة عن المناطق النائية. بل إن توزيع الثروة الاجتماعية قد أصبح موضوع نقاش عام، حيث خضعت الميزانية العامة للدولة، ولأول مرة في تاريخ البلاد، إلى نقد شديد تجاوز إطار الخبراء والمختصين، ليتحول إلى احتجاجات واسعة وضعت الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية العامة للدولة موضع السؤال. وبغض النظر عن خضوع كثير من هذه المطالبات للمنطق الاقتصادي البورجوازي نفسه، حيث يبدو مثلا مطلب "التنمية" الشائع الآن لا يتجه نحو طرح السؤال حول طبيعة هذه "التنمية" المراد تحقيقها، ولا لصالح من؟ أو بأي هدف؟، وكأن الزيادة الكمية في عدد مشاريع الإنتاج وفي عدد الشركات، أو ما يسمى بالاستثمار، هو الكفيل بالخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة، رغم أنه من المعلوم أن الاستثمار الرأسمالي وتطوره ونموه هو بالضبط المتسبب الأصلي في هذه الأزمة. وبغض النظر عن كون السؤال حول أسلوب الإنتاج نفسه وطريقة التوزيع العامة للثروة الاجتماعية لا يزال في طور الهواجس المبهمة، ليس لدى الجمهور الواسع فقط، بل حتى في أوساط المناضلين الثوريين أنفسهم، فان المؤكد أننا إزاء حركة ثورية متصاعدة، وأن مطالباتها قد بدأت تتجه، ولو بتعثر ومراوحة، إلى ما وراء النظام الرأسمالي وإمكانياته على الاستجابة الفعلية لهذه المطالبات، وأن الحلول الإصلاحية تفقد شيئا فشيئا قدرتها على إقناع الجمهور المنتفض بالعودة إلى وضع السلم الاجتماعية العزيزة على قلوب البورجوازيين والمستكرشين القدامى منهم والصاعدين الجدد.
3) يؤشر الامتداد الجغرافي الواسع للحركة الاحتجاجية الراهنة من جهة إلى التحاق أقسام جديدة من الجماهير لموجة الاحتجاجات، أي تلك الشرائح الاجتماعية التي وقفت موقف المتردد السلبي خلال الموجة الانتفاضية الأولى (ديسمبر2010 –جانفي، فيفري 2011)، حيث وفر مناخ التمرد العام وكسر حاجز الخوف والروح المعنوية العالية التي اكتسبتها الجماهير بإسقاطها لرمز الديكتاتورية، إضافة لضعف أجهزة الدولة القمعية نتيجة الضربات الموجعة التي سددتها لها الجماهير المنتفضة والتمزق السياسي الداخلي بين مختلف شرائح الطبقة السائدة والتجاذبات الحادة بين مكوناتها حول أحقية كل طرف بدور الطرف القائد، قد وفر المناخ الملائم لتستعيد الجماهير زمام المبادرة والثقة في قدرتها على فرض أمر واقع جديد. وفي المقابل خفتت نسبيا حركة بعض الشرائح البورجوازية والبورجوازية الصغيرة (محامين، قضاة، البيروقراطية العليا للدولة...الخ) لتنحصر في حدود محاولات تحسين شروط التفاوض مع السلطة الجديدة وضمان الحفاظ على امتيازاتها الاجتماعية القائمة. ومن جهة أخرى يمثل الاكتساح العارم للاحتجاجات لأصغر المحليات (معتمديات، قرى، أحياء شعبية..) انتقالا لمركز ثقل الحركة من ساحة القصبة (مقر الحكومة) وشارع الحبيب بورقيبة (الشارع الرئيسي في العاصمة) وتوزعه إلى مراكز شديدة التوزيع وسريعة التحول يصعب ضبطها أو السيطرة عليها، بحيث يمكن القول أن مركز الحركة الاحتجاجية الحالية هو ببساطة البلاد كلها، بدرجات متفاوتة ونسق متغير. وهذا الواقع هو من جهة يضعف قدرة أجهزة القمع الرسمية منها (بوليس، جيش) وغير الرسمية (ميليشيات) على مواجهة هذه الاحتجاجات ويشتت جهودها ويمنعها من تحشيد قواها في مراكز ثابتة ويضعف قدرتها اللوجستية، وهو من جهة أخرى يمنح الفرصة للجماهير المنتفضة لتجنب الخضوع للأحزاب السياسية التي تطمح لتوجيه هذا الحراك الشعبي لحسابها الخاص، وتوظيفه في معاركها الطاحنة على السلطة.
4) ما من شك أن القسم الأعظم من الاحتجاجات يتمثل فيما يسميه السياسيين "إضرابات غير شرعية" و"اعتصامات عشوائية". ومن الواضح تماما أن كل الأحزاب، بما في ذلك اليسارية منها، والنقابات (الاتحاد العام التونسي للشغل خاصة)، قد عبروا بشكل سافر عن معارضتهم لهذه الأشكال الاحتجاجية، وهم لا يفوتون فرصة بدون إعلان تنصلهم من المسؤولية عن هذه التحركات، رغم أنهم يحاولون إخفاء خيانتهم للحراك الاجتماعي بتبنيهم الشكلي لما يسمون "المطالب المشروعة" التي يرفعها المحتجون. وهم في ذلك يحاولون وضع ساق هنا وساق هناك، لكي لا يخسروا نهائيا علاقتهم بالجماهير المنتفضة، والتي لا يرون فيها سوى مشروع رصيد من الأصوات للانتخابات المقبلة، وبدون أن يفقدوا موقعهم في النظام السياسي الرسمي. ورغم الأزمة السياسية العامة، وفقدان المؤسسات الرسمية لشرعيتها في صفوف أوسع الجماهير، فان هذه الأحزاب لم تجد في نفسها الجرأة حتى على الانسحاب من المجلس الصوري المسمى "مجلس تأسيسي"، وحافظوا على مواقعهم كجزء من الديكور الديمقراطي المتعفن. ولعل الفضيحة المدوية التي قامت حول الامتيازات الخيالية لنواب المجلس، قد أبرزت بوضوح أن هؤلاء الساسة يتصارعون على كل شيء، لكنهم يضعون اليد في اليد من أجل تثبيت امتيازاتهم المادية والمعنوية.
5) إن عجز السلطة الجديدة على ضبط النظام، وفشلها في إدارة الأزمة وامتصاص غضب الجماهير، في مقابل ضعف المعارضة الرسمية وعدم قدرتها على تقديم نفسها كبديل احتياطي جدي لإنقاذ النظام في حالة الانفلات الاجتماعي الشامل، وشدة المنازعات السياسية، وعدم "انضباط" كثير من الشرائح البورجوازية نتيجة حالة فقدان الثقة الشامل. كل هذا يبعث بمؤشرات على بداية حالة من التفسخ للنظام السياسي برمته بما يمكن أن يقود إلى انهيار مؤسساته (مجلس تأسيسي، حكومة...). ولعل مبادرة السلطة القائمة بتحديد ما يسمونه بخارطة الطريق السياسية للمرحلة المقبلة، وتحديد موعد الانتهاء من صياغة الدستور الجديد وموعد الانتخابات المقبلة، هي محاولة لطمأنة المنافسين السياسيين وإعادة جو الثقة في دوائر الأعمال تجنبا لأزمة قد تعصف بكل مكونات المشهد السياسي الرسمي سلطة ومعارضة. وهكذا لم يكن غريبا أن يوجه رئيس الحكومة رسالته الواضحة لشركائه ومنافسيه في الحكم: "نحن في نفس القارب، وان غرق فإننا سنغرق جميعا".
بطبيعة الحال، فلا يمكن أن نبحث في واقع الحركة الاحتجاجية الراهنة بدون محاولة إيراد بعض نقاط ضعفها، ليس من باب الوعظ والإرشاد، ولا من باب التوهم كون الحركة ستكون في أي لحظة من لحظات تطورها حركة صافية وفق نموذج مثالي معد سلفا، ولا من باب ما يسميه البعض بضرورة حقن الجماهير "بالوعي الثوري" من طرف "طليعة ثورية" تمتلك "الوعي الأرقى" والقدرة العجائبية على توجيه التاريخ وفق إرادتها أو وفق هذه النظرية "الثورية" أو تلك. بل إن نقاط الضعف هذه إضافة لكونها طبيعية وضرورية في كثير من الأحيان، فإنها تعبر فقط عن النقص في اكتمال العناصر التاريخية الضرورية لوصول الحركة للمنعرج الحاسم بمبادرتها بالقطع الجذري مع النظام الاجتماعي السائد والانطلاق نحو أفق تغيير ثوري لا يقتصر على تغيير الواجهة السياسية أو تحسين شروط الاستعباد والاستغلال، بل ينفذ إلى الأساسات العميقة التي يقوم عليها البناء الرأسمالي، ووقف الآليات الاقتصادية التي تحكمه وتقوده إلى الفوضى والاختلالات والكوارث الاجتماعية المتلاحقة. وإبراز نقاط الضعف التي تظهر مع كل مرحلة من مراحل تطور الحركة الثورية هو ليس سوى مساهمة في النقد الذاتي الضروري الذي لابد للحركة أن تباشره بكل الأشكال "النظرية" والعملية من أجل عدم تكرار الأخطاء والتنبيه من المخاطر المحدقة.
ولعل أهم نقطة ضعف قد لاحقت الحركة الاحتجاجية منذ بداية اندلاعها هي تشتت المطالبات، بل وتصادم بعضها ببعض. ورغم أن الموجة الحالية قد بدأت بشكل تلقائي بالاتجاه نحو رفع نفس المطالبات، وبتنا نسمع نفس الشعارات ونفس الأسئلة ونفس النقد العملي للاختيارات الاقتصادية الراهنة في كل الجهات، فان نزعة الانغلاق المحلي لاتزال تسيطر على الحركة، حيث مازال الجمهور المنتفض يحمل كثيرا من الأوهام حول إمكانية فض مشاكله في الحدود المحلية. بل إن كل جهة أصبحت وكأنها في منافسة مع بقية الجهات حول نصيبها مما يسمى زورا "ميزانية التنمية". وهذا الواقع إضافة لكونه يمثل عائقا أمام وحدة الحركة على المستوى الوطني كشرط ضروري لخلق موازين قوى طبقية جديدة، فانه يبقي الحركة في الطور الدفاعي الصرف، أي في وضع رفع المطالب وانتظار الحلول من الحكومة المركزية، وذلك بدون المرور إلى طور هجومي بالمبادرة بفرض أمر واقع جديد، وبدون التجرؤ على مباشرة تغيير اجتماعي فعلي على الأرض. فنجد الفلاحين الفقراء المحرومين من الأرض، وبدل المبادرة بالاستيلاء الجماعي على الأراضي التي تقبع تحت أرجلهم وتنظيم الإنتاج فيها بشكل تعاوني وفرضهم على الدولة تمتيعهم بالوسائل الضرورية لذلك، فإنهم يكتفون بالاعتصام في الساحات العامة أو قطع الطريق فيما يسمونه "لفت أنظار المسئولين لوضعيتهم". كما نجد مجموعات عمالية تعتصم أمام مصنع هجره مالكه، بدون مجرد التفكير في اقتحامه وإعادة تشغيله، وكأن بقاءهم فريسة للتجويع واستنزاف طاقاتهم تحت الخيام سيجلب لهم "عطف المسئولين". ونجد قرية برمتها تطالب بإنشاء معتمدية، أو الحاقها بولاية جديدة، وكأن المناطق التي تحتوي معتمدية أو حتى ولاية قد فضت مشاكلها من خلال هذه المؤسسات الرجعية، وذلك بدون أن يخطر على البال المبادرة بإنشاء مجلس تسيير محلي وفرضه كتنظيم اجتماعي يستعيضون به عن الأجهزة البيروقراطية للدولة وحشراتها الطفيلية.
لكن لو طرحنا السؤال: لماذا تقف الجماهير المنتفضة عند حدود الاحتجاج ورفع المطالب؟ لماذا لا تبادر إلى افتكاك ما هو في الأصل يعود لها ويمثل ثمرة جهد أجيالها المتعاقبة من عبيد الاستغلال الرأسمالي؟ لماذا لا تبادر بإنشاء مجالس التسيير الذاتي في كل المجالات الاجتماعية وخاصة مجال الإنتاج والاستعاضة بها عن أجهزة التسيير المفروضة من الحكومة المركزية؟ للإجابة عن اللغز كثيرون هم من يعيدون الأمر لغياب ما يسمى "القيادة الثورية" أو "الحزب الطليعي"، ويجزمون أن الجماهير لوحدها عاجزة عن تطوير حركتها إلى ما وراء حالة الاحتجاج ورفع المطالب. ويقول هؤلاء أن ما يسمونه "الحركة العفوية" سوف لن تصل إلى أي شيء، وأنها ستكرر نفسها إلى أن تتلاشى وتخمد. وأن الحل يكمن في ظهور يسوع المخلص الذي يسمونه "الحزب الثوري" متأبطا "نظريته الثورية" التي لا يأتيها الخطأ لا من الخلف ولا من الأمام. طبعا فهؤلاء لا يتجرؤون على السؤال: ولماذا لم يظهر هذا "الحزب الثوري"؟ وأي خلطة سحرية ستجعل من ظهور "الحزب الثوري" ممكنا؟ لا شيء سوى الألغاز، والاستعاضة عن النظر للحياة الواقعية بالوساوس والتخمينات، وإعادة كل شيء تاريخي إلى الإرادة الخالصة للزعماء والقادة. وعندما يقال لهم أن مصير الحركة الاحتجاجية لا يتعلق بالإرادة، وأن تطورها أو تعثرها إنما هو تعبير عن تطور أو تعثر الحركة على المستوى الأممي، وأنه بدون تغيير في موازين القوى الطبقية على المستوى العالمي وانبثاق حركات احتجاجية مماثلة خاصة في المراكز العالمية للرأسمال، بما يقلص من هامش المناورة لدى هذه الأقطاب العالمية وقدرتها على مد يد المساعدة للبورجوازيات المحلية التي تواجه الأزمات، فان موازين القوى المحلية ستبقى مختلة، وهو ما يجد تعبيره في مراوحة الحركة الاحتجاجية في مكانها، وهو ما يهدد طبعا بتلاشيها وخمودها. عندما يقال لهم ذلك، فإنهم يرددون بأن هذه التحاليل تقود إلى الانتظارية والاستقالة من النضال. وعندما يقال لهم بأن نظريتهم في الحزب لا تختلف في شيء عن نظرية المهدي المنتظر، فإنهم يردون بأن هذا فوضوية ورفض مطلق للتنظيم وتقديس للعفوية.
نعم أيها السادة، إن الجماهير الثائرة هي وحدها من يخلق التنظيم وليس الزعماء والقادة. لكن الالتباس الذي يجب رفعه هو عن أي تنظيم نتحدث؟ فإذا كان الأمر يتعلق بحزب يطمح للوصول إلى السلطة، أي تغيير الواجهة السياسية للحكم السياسي للبشر، فبطبيعة الحال فان الجماهير الواسعة لن تخلقه، وأصلا هي ليست معنية بذلك، وحقيقة نضالها التاريخي إنما تكمن في النضال ضد هذا الحكم السياسي بالذات، بغض النظر عن الحزب الذي سيعتلي سدة الحكم. أما إذا كان الأمر يتعلق ببناء أشكال تنظيم ذاتية لتوحيد الحركة وتوحيد أهدافها العامة، وهي نفسها ما سيمثل النواتات الأولى لإعادة التنظيم الاجتماعي والانتقال به من الإدارة السياسية الفوقية إلى إدارة تعاونية جماعية، فان هذا التنظيم إما أن تبادر به الجماهير المنتفضة نفسها وإما فانه لن يوجد أبدا. فمهمة بناء تنظيمات سلطوية هو بالفعل مهمة النخبة والسياسيين الطامحين لكرسي الحكم. أما مهمة بناء التنظيمات اللاسلطوية، التنظيمات التي تدير بها الجماهير حركتها فإنها لا تنبثق إلا من الجماهير نفسها كتعبير عن وصول الحركة الثورية إلى درجة من النضج التاريخي الحاسم. أما مهمة المجموعات الثورية المنظمة بشكل مستقل فهي المساهمة في انبثاق هذه الأشكال التنظيمية، ولا يمكن أن تكون الغاية الأخيرة لهذه المجموعات سوى الانصهار النهائي في الحركة الثورية للجماهير، أي أن النجاح الحقيقي لكل تنظيم خاص للعناصر الثورية هو بالضبط إنهاء وجوده الخاص هذا لصالح التنظيمات الثورية التي تبدعها الجماهير نفسها لتعبر بها عن أهدافها التاريخية وكوسيلة عملية لإنجاز تلك الأهداف. وإذا كانت هناك مهمة خاصة بالمنظمات التي ينشئها الثوريين فهي تنظيم الدفاع عن المجالس الاجتماعية لحظة انبثاقها ضد أجهزة الدولة القمعية. طبعا هذا الكلام لن يكون سوى ألغاز مبهمة لدى السياسيين المفعمين بروح الإعجاب بالذات والنزعة السلطوية والزعامتية، لكن على أي حال فانه ليس كلاما موجها لهم، وهو جزئيا موجه للعناصر الثورية التي مازالت عالقة في شراك هؤلاء الساسة الانتهازيين.
لكن بالعودة إلى الواقع الفعلي للحركة الاحتجاجية الراهنة، فان ما يفسر وقوف الجماهير المنتفضة عند حدود الاحتجاج السلبي، إضافة لضعف التقاليد الثورية وضعف عناصر التنظيم والوعي، إنما هو محافظة الدولة على تماسكها العام برغم ضعف بعض أجهزتها. فالجهاز العسكري قد حافظ على تماسكه، بل قد دعم نفسه بانتداب آلاف الجنود الجدد وإعادة تنظيمه وتموقعه مستفيدا من التجربة السابقة. وهو الذي يلعب دور الحامي الاستراتيجي للدولة والنظام بدون أن يدخل في معركة مفتوحة مع الحركة الاحتجاجية، بما جنبه إلى حد الآن الظهور المفضوح بضفته أداة قمع، بل إن الجماهير مازالت مترددة أمام هذه الآلة العسكرية وتتجنب المواجهة معها، هذا إضافة للتشويش الكبير الذي ساهمت فيه الأحزاب بيمينها ويسارها من خلال بث الوهم حول انحياز الجيش للثورة، وصولا إلى تسمية هذا الجهاز الرجعي ب"الجيش الوطني الشعبي". كذلك الأمر بالنسبة للجهاز البيروقراطي الإداري، الذي يعتز زعماء اليسار قبل اليمين بأنه قد حافظ على تماسكه ولم يتأثر عموما بتطور الأحداث، وهذا الأمر قد أعطى الفرصة للدولة لمواصلة إدارتها المركزية وإيجاد الموارد المالية والوسائل اللوجستية لتسيير الشؤون الضرورية والبقاء في موقع المفاوض الرسمي. لكن الدولة لا تجد في الجيش والبوليس والجهاز الإداري الرسمي وسائلها الوحيدة لبسط سلطتها، فالاتحاد العام العام التونسي للشغل ممثلا في جهازه البيروقراطي قد مثل أحد أهم أجهزة الضبط الاجتماعي، وعنصرا حاسما من عناصر لجم الحركة الاحتجاجية وتوجيهها في حدود الاحتجاج المطلبي، أو تحوله هو نفسه إلى ما يشبه الحزب السياسي المنخرط في لعبة "الانتقال الديمقراطي". وليس غريبا اليوم أن نرى أقساما كبيرة من البورجوازية تنظر بعين الرضا لدور الاتحاد وتحوله إلى جهاز نظامي، ما فوق طبقي، بل إن كثيرا من رجال الأعمال قد أصبحوا يلتجئون للاتحاد لحمايتهم من الانفلات الاجتماعي العارم في ظل ضعف أجهزة القمع الرسمية. وبعد حفلات استعراض القوة التي نظمتها القيادة الجديدة، لإثبات كونها القوة الوحيدة المنافسة للحزب الحاكم (النهضة) في جر الجمهور وراءها، تعالت النداءات المرتعشة للمعارضة الرسمية منها و"الثورية" لإعادة الجماهير المنتفضة إلى أحضان البيروقراطية وتذييلها للحركة وراء قيادة نقابية لم تعرف يوما سوى السمسرة والمناورة واستغلال نضالات الشغيلة لجني المكاسب وتدعيم موقعها ضمن النظام الاجتماعي السائد. وليس جديدا القول بأن مؤسسات مثل المساجد والمدارس ووسائل الإعلام التي أصبحت بمثابة السيرك الذي يتناوب عليه بهلوانات السياسة لاستعراض جعجعتهم الخطابية، كذلك الأحزاب والجمعيات التي انبثقت كالفطر والمنظمات، كلها تمثل الأجهزة المقنعة للدولة والتي تستهدف ضبط حركة الأفراد والجماعات ضمن حدود الخضوع للدولة وتقديس وجودها الطفيلي. لكن الدولة لا تستمد قوتها الظاهرة والخفية من مؤسساتها الخاصة فحسب، بل إن خلف الدولة "الوطنية" تقف الدول البورجوازية الكبرى، حراس النظام الرأسمالي العالمي، بما تمثله هذه الدول من قوة عسكرية واقتصادية موضوعة على الذمة للتدخل المباشر (بما إن التدخل غير المباشر أمر حاصل) في حالة التهديد بالانهيار الشامل، أو ما يسمونه "خطر الانفلات". ومن الطبيعي أن الجماهير، بوعي صريح أو وعي مستبطن، تعرف أن موازين القوى الطبقية، والوضع العالمي، حيث الحركة الثورية تشهد تعثرا واضحا، لا يسمح بالهجوم الكاسح على الدولة. كما تعرف أن الاستيلاء على الملكية البورجوازية وإعادة تنظيم انتاج وتوزيع الثروة الاجتماعية وفق أسلوب جديد مناقض لأسلوب الإنتاج الرأسمالي السائد هو بمثابة إعلان حرب ليس على البورجوازية المحلية، بل على النظام البورجوازي العالمي برمته، وهو ما سيستثير تدخلا عسكريا مباشرا، مثلما حدث في ليبيا وسوريا، وتعرف هذه الجماهير أن إنشاء مجالس تسيير ذاتي تحل محل أجهزة الدولة البيروقراطية سيجد في مواجهته قمعا دمويا، بينما حركة الاحتجاج الراهنة مازالت تعتمد أسلوبا اقرب إلى السلمية، وموازين القوى من ناحية القوة في الظرف الراهن مختلة تماما لصالح الدولة. ومن هذا الواقع نفهم لماذا بقيت الدولة مستبطنة في الذهن الجماعي للجماهير حتى في حالات غيابها كوجود مادي مباشر.
أما نقطة الضعف الأخرى التي ميزت مختلف مراحل تطور الحركة الاحتجاجية منذ بدايتها، فتتمثل في النقص الفادح في الدعاية الثورية، حيث أنه يمكن معاينة غياب الجرائد أو المجلات أو حتى النشريات التي تعنى بمتابعة الحركة وتجميع المعطيات ومركزتها وكسر الحصار الإعلامي أو الرد على حملات توجيه الرأي العام أو تشويه التحركات بتضخيم بعض الأحداث في مقابل الصمت أو التقليل من شان أحداث أخرى، إضافة لغياب منابر جماهيرية للمناقشات العامة حول القضايا العميقة التي تطرحها الحركة. وحتى مجموعات المناضلين التي ظهرت بهذا الشكل أو ذاك فإنها إما قد غرقت في الحركية وملاحقة الحراك الاحتجاجي، وإما أنها لم تتجاوز تكرار بعض الشعارات العامة والتي هي في كثير منها مخترقة بالخطاب السياسي للأحزاب.
إن المفارقة الماثلة بين المستوى العظيم الذي وصلت إليه الحركة الاحتجاجية وبين تخلف الدعاية الثورية وسط الجماهير واقتصارها على مجهودات فردية منعزلة أو مجهودات مجموعات صغيرة ضعيفة التأثير، قد أعطى الفرصة للإعلام الرسمي والحزبي لخلق حالة من التشويش العام وحالة من التسطيح والتتفيه والتمويه على القضايا الحيوية تحت غلاف من منافسات الاستعراض الخطابي فيما يشبه الفرجة الكروية، وحتى الاختراقات التي تحدث من حين لآخر سريعا ما يتم وأدها بحملات هرسلة وضغط رسمي ومليشوي وصولا الى عمليات القمع المباشر لبعض الإعلاميين الذين لا ينضبطون للتوجيه العام للمؤسسة الإعلامية. هذا إضافة لشراء الذمم واختراق المجموعات الشبابية الناشطة في مجال الانترنيت ومواقع التواصل الاجتماعي، بل وتحويل أغلبها إلى أدوات دعاية حزبية سافرة.
أما نقطة الضعف الأخيرة التي وجب إبرازها فتتمثل في عجز قطاعات واسعة من الأجراء (عمال، موظفين صغار..) على التخلص من طابعها المحافظ الذي أسبغته به الهيمنة الطويلة للتأطير النقابي البيروقراطي، وتعفن الكثير من مناضلي هذه القطاعات في النقابوية الضيقة، ورهن حركتهم في حدود هذا الأفق السكتاري الضيق، بل هناك نزعة وسط العديد منهم نحو مساندة القيادة النقابية بمبرر الخوف من الهجمة الرجعية للمجموعات الدينية، وهو في الحقيقة خوف من حركة الجماهير نفسها والانفلات الذي يمكن أن يهدد مواقعهم والاستقرار النسبي الذي يجدونه ملائما داخل المؤسسات النقابية الرسمية. والمؤتمر الأخير للاتحاد العام التونسي للشغل أثبت الطبيعة المحافظة لأغلب الهياكل النقابية بما في ذلك القاعدية منها. بل حتى أن نبرة النقد قد تلاشت لصالح خطابات الوحدة (وحدة مع من؟) وتبرير الخضوع العام للبيروقراطية باسم "أن الاتحاد مستهدف" وأن "الاتحاد قلعة النضال" و"أنه القوة الوحيدة القادرة على الوقوف ضد الإسلاميين"...الخ، إلى درجة أن التنصل الرسمي المعلن لقيادة الاتحاد من الحراك الاجتماعي ودعوته الصريحة لمواجهته "بتطبيق القانون" قد مر بدون أدنى ردة فعل نقدية. وحتى المجموعات والأحزاب التي بنت وجودها تحت شعار "مقاومة البيروقراطية" قد اقتصرت معاركها في حدود النزاع الانتخابي حول المواقع، واستغلال ارتباك البيروقراطية وخوفها من المحاسبة لانتزاع بعض المواقع القيادية في مقابل تقديم الدعم وفرض الحصانة على الرموز الفاسدة.
من البديهي، وبمثل ما أنه من غير الممكن التحديد الشامل والثابت لعناصر قوة الحركة الاحتجاجية الراهنة، فانه من غير الممكن أيضا التحديد النهائي لمكامن ضعفها. ذلك أن هذه الحركة ومنذ انطلاقها لم تسر ضمن خط واحد، أو بوتيرة متماثلة، بل إنها قد عرفت عديد القفزات المفاجئة كما عديد التراجعات وحالات المد والتباطؤ. وهذا ما جعلها تفقد في لحظات بعض نقاط قوتها، لتستعيد بعد ذلك وهجها بأكثر قوة وتتجاوز عوائقها الداخلية لتجابه عوائق من نوع جديد. لكن الثابت في كل هذا كون الجماهير هي بصدد مراكمة تجارب مهمة، وهي في معمعان نضالها ضد أعدائها بصدد إبراز عناصر وعي جديدة وإرساء تقاليد في طرق المواجهة وتنظيم القوى ما كان ممكنا إرساؤها بدون الممارسة العملية والاصطدام الواقعي مع الإشكاليات التي يطرحها النضال اليومي.
ومن البديهي أيضا، وفي الجهة المقابلة، فان البورجوازية بكل ممثليها السياسيين هي بصدد محاولة استيعاب الضربات المتلاحقة والإعداد للالتفاف على النهوض الثوري. إذ أنها من جهة تعمل على إعادة تنظيم قواها وأجهزة قمعها واستعادة الثقة وروح المبادرة، والخروج من حالة التردد تحضيرا لهجمة شاملة تحت الشعار الذي رفعه وزير الداخلية: "تطبيق القانون على الجميع"، وتهديده باستغلال قانون الطوارئ الموروث عن الأيام الأخيرة من عهد بن علي لتشريع كل أساليب القمع وصولا إلى "الرصاص الحي". وفي هذا الباب تجد الحكومة الحالية كل الدعم والمساندة الصريحة والخفية من المعارضة. بل إن دفع مجموعات من قطعان ما يسمى بالسلفيين، خاصة في المناطق الملتهبة، إلى عمليات التخريب، قد مثل الباب الذي وجده السياسيين بكل ألوانهم لتنظيم حملة ولاء للدولة وللدعوة المفضوحة لاستدعاء قوات البوليس والدعوة "لفرض الأمن" والتباكي على إحراق رموز النظام أو اقتحامها من طرف الشباب المنتفض، أو التباكي على قطع الطرقات و"تعطيل مصالح المواطنين"، ومن جهة أخرى، وفي جانب الترتيبات السياسية، فان البورجوازية هي بصدد التحضير للعبتها التقليدية المتمثلة في خلق حالة استقطاب ثنائي بين طرفين رجعيين (النهضة وحلفاؤها من جهة والتجمعيين وكل أصناف الليبراليين من جهة أخرى) وخلق حالة من انسداد الأفق خارج هذا الاستقطاب الرجعي، والتجهيز لإعداد سيرك انتخابي جديد يضفي الشرعية على هذا النظام الاقتصادي والاجتماعي المتهالك، بعد أن فقدت المسرحية الانتخابية الأولى مفعولها التخديري.
هذا ما يجهزه الأعداء لنا: الرصاص الحي بيد والديمقراطية الليبرالية بيد أخرى. لكن المارد الثوري قد خرج من قمقمه، والحركة الجماهيرية لم تقل كلمتها الأخيرة.....النظام في أزمة....ليسقط النظام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق