١٤ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨بقلم مازن كم الماز
لقد سئلت فيما إذا كنت لا أملك أية رسالة لعمال العالم الغربي . بالتأكيد هناك الكثير ليقال و لتعلمه من الأحداث الواقعة في روسيا . و حيث أن على هذه الرسالة أن تكون طويلة لتغطي كل شيء ، فإنني سأبين هنا النقاط الرئيسية فقط .
أولا ، إن على عمال العالم المتحضر و أصدقائهم من الطبقات الأخرى أن يتغلبوا على حكوماتهم كي يسقطوا كلية فكرة التدخل المسلح في روسيا إما علنا أو بشكل سري . إن روسيا تجتاز اليوم بثورة على نفس القدر من الأهمية و الاتساع كما جرى في انكلترا بين 1639 و حتى 1648 ، و في فرنسا بين 1789 و 1794 . على كل شعب أن يرفض أن يلعب الدور المخجل الذي لعبته انكلترا و روسيا و بروسيا و النمسا أثناء الثورة الفرنسية .
أبعد من ذلك يجب أن نضع في حسابنا أن الثورة الروسية – التي تحاول أن تبني مجتمعا حيث ستكون كل القوة المنتجة ، القدرة التقنية ، و المعرفة العلمية جماعية كلية – ليست مجرد مصادفة في صراع الأحزاب المتنافسة . لقد جرى التحضير لها عبر ما يقارب القرن من الدعاية الاشتراكية و الشيوعية من أيام روبرت أوين و سان سيمون و فورييه . و رغم أن الجهود لاستحداث نظام اجتماعي جديد من خلال ديكتاتورية الحزب هو محكوم بالفشل على ما يبدو ، فإنه يجب إدراك أن الثورة قد أدخلت إلى حياتنا اليومية أفكارا جديدة عن حقوق العمال ، و موقعهم الصحيح في المجتمع و واجبات كل مواطن – و أن هذه الأفكار ستبقى .
ليس فقط العمال ، بل على كل القوى التقدمية في العالم المتحضر أن تضع حدا للدعم الذي حصل عليه أعداء الثورة حتى الآن . ليس لأنه لا يوجد ما يمكن معارضته في أساليب الحكومة البلشفية . بل أبعد من ذلك ! لأن كل التدخلات الخارجية المسلحة تقوي بالضرورة الميول الديكتاتورية لهذه الحكومة ، و تشل جهود أولئك الروس الجاهزين لمساعدة روسيا ، بشكل مستقل عن الحكومة ، في استعادتها لحياتها .
إن الشرور المتأصلة في ديكتاتورية الحزب قد قويت بظروف الحرب التي يحتفظ من خلالها هذا الحزب بالسلطة . لقد كانت حالة الحرب هذه ذريعة لتشديد الأساليب الديكتاتورية التي مركزت السيطرة على كل تفصيل من حياتنا اليومية في أيدي الحكومة ، و التي بنتيجتها توقف جزء هائل من فعالياتنا اليومية في هذا البلد . إن الشرور الطبيعية لشيوعية الدولة تضاعفت عشرة مرات تحت ذريعة أن كل معاناتها مصدرها التدخل الخارجي .
علي أيضا أن أشير إلى أنه إذا استمر تدخل الحلفاء العسكري ، فإنه من المؤكد أنه سيؤدي إلى شعور من المرارة في روسيا تجاه الشعوب الغربية ، الشعور الذي سيستخدم يوما ما في نزاعات المستقبل . إن هذه المرارة تخلق على الدوام في مثل هذه الظروف .
باختصار ، إنه وقت هام عندما تدخل شعوب أوروبا في علاقات مباشرة مع الشعب الروسي . و من هذه النقطة عليكم – أي الطبقة العاملة و العناصر التقدمية من كل الشعوب – أن تقولوا كلمتكم .
كلمة أكثر عن القضية العامة . إن إعادة إقامة العلاقات بين الشعوب الأوروبية و الأمريكية و روسيا لا تعني سيطرة الشعب الروسي على سائر القوميات التي شكلت الإمبراطورية القيصرية . إن روسيا الإمبريالية قد ماتت و لن تعود إلى الحياة من جديد . إن مستقبل هذه المناطق المختلفة يكمن في اتحاد عظيم . إن المناطق الطبيعية لأجزاء مختلفة من هذا الاتحاد متمايزة بالفعل ، كما يعلم العارفون منا بالتاريخ و الأثنوغرافيا ( علم السلالات ) الروسيين جيدا . إن كل الجهود لإعادة توحيد هذه الأجزاء المنفصلة للإمبراطورية الروسية تحت سلطة مركزية مصيرها الفشل . لذلك من اللازم أن تعترف الشعوب الغربية بحق الاستقلال لأي جزء من الإمبراطورية الروسية القديمة .
في رأيي أن هذا التطور سيستمر . إنني أرى قدوم الوقت عندما يصبح كل جزء من هذا الاتحاد في ذاته اتحادا بين كومونات ( تعاونيات ) ريفية و مدن حرة . و إنني أعتقد أن أجزاء معينة من أوروبا الغربية سرعان ما تتبع نفس العملية .
أما بالنسبة لوضعنا السياسي و الاقتصادي الراهن فإن الثورة الروسية من حيث كونها استمرار للثورتين الكبريتيين في انكلترا و فرنسا ، تحاول أن تبلغ النقطة التي توقفت عندها الثورة الفرنسية قبل أن تنجح في تحقيق ما سمته ب"العدالة في الحقيقة" التي هي العدالة الاقتصادية .
من المؤسف أن هذه الجهود تجري في روسيا تحت ديكتاتورية الحزب شديدة المركزية . تجري هذه الجهود بذات طريقة محاولة بابوف* اليعقوبية و شديدة المركزية . إنني أدين لكم بالقول بصراحة أنه ، و طبقا لوجهة نظري ، أن هذه الجهود لبناء جمهورية شيوعية على قاعدة شيوعية الدولة شديدة المركزية تحت القانون الحديدي لديكتاتورية الحزب محتومة أن تفشل في النهاية . إننا نتعلم أن نعرف في روسيا كيف لا نستحدث الشيوعية ، حتى مع الناس المتعبين من النظام القديم و الذين لا يبدون أية مقاومة فعالة لتجارب الحكام الجدد .
إن فكرة السوفييتات ، أي كما يمكن القول ، مجالس العمال و الفلاحين ، التي أبدعت أول مرة في وقت المحاولة الثورية الأولى عام 1905 ، و التي تحققت فورا مع ثورة شباط فبراير 1917 ، حالما تمت الإطاحة بالقيصرية – فكرة أن تقوم مجالس كهذه بإدارة الحياة السياسية و الاقتصادية للبلد هي فكرة عظيمة . لذلك فإن كل ذلك يفترض بالضرورة أن تتألف هذه المجالس من كل من يساهم حقيقة في إنتاج الثورة الوطنية بجهودهم الخاصة .
لكن طالما بقي البلد يحكم بديكتاتورية الحزب فإن مجالس العمال و الفلاحين تفقد بالدليل كل أهميتها . إنها تختزل إلى دور سلبي كان يمارسه في الماضي "جنرالات الدولة" عندما كانوا يعينون من الملك و عليهم أن يواجهوا مجلسا ملكيا كلي السلطة .
يتوقف مجلس العمال عن أن يكون حرا و ذا أي فائدة عندما تتوقف حرية الصحافة عن الوجود ، و نحن في هذه الحالة منذ سنتين – تحت ذريعة أننا في حالة حرب . لكن هناك ما هو أكثر . إن مجالس العمال و الفلاحين تفقد أهميتها عندما لا تسبق الانتخابات حملة انتخابية حرة ، و عندما تجري الانتخابات تحت ضغط ديكتاتورية الحزب . من الطبيعي أن العذر المعتاد هو أن الديكتاتورية حتمية للتغلب على مقاومة النظام القديم . لكن حالة كهذه هي بوضوح خطوة إلى الوراء ، باعتبار أن الثورة ملتزمة ببناء مجتمع جديد على أساس اقتصادي جديد . إن هذا يعني نعي النظام الجديد .
إن أساليب إسقاط حكومة واهنة بالفعل معروفة جيدا في التاريخ القديم و المعاصر . و لكن عندما يكون من الضروري خلق أنماط جديدة من الحياة ، خاصة أنماط جديدة من الإنتاج و التوزيع ، بدون وجود أمثلة يمكن تقليدها ، عندما يجب إقامة كل شيء من جديد ، عندما تقوم حكومة بتزويد كل مواطن بمصباح و حتى بعود الثقاب اللازم لإضاءته ، و عندما لا تستطيع فعل ذلك حتى مع وجود عدد غير محدود من الموظفين – تصبح هذه الحكومة مصدر إزعاج فقط . إنها تشكل بيروقراطية جبارة ، بحيث أن البيروقراطية الفرنسية التي تحتاج إلى مساعدة أربعين موظفا لبيع شجرة تكسرت بفعل الريح على الطريق العام هي مجرد شيء تافه بالمقارنة بها . هذا ما نتعلمه اليوم في روسيا . و هذا ما يجب عليكم أنتم العمال في الغرب أن تتجنبوه و بكل وسيلة ، حيث أنكم تمتلكون في القلب الرغبة بنجاح عملية إعادة بناء اجتماعية فعلية . أرسلوا مندوبيكم هنا لتروا كيف أن ثورة اجتماعية تعمل في الحياة الواقعية .
إن العمل الإنشائي الهائل المطلوب من ثورة اجتماعية لا يمكن إنجازه من قبل حكومة مركزية ، حتى لو كان عليها قيادة شيء أكثر أهمية من مجرد عدة كراسات اشتراكية و أناركية . هناك حاجة للمعرفة ، للأدمغة و لتعاون طوعي بين مجموعة من القوى المحلية و المتخصصة التي يمكنها وحدها أن تواجه تنوع المشاكل الاقتصادية في جوانبها المحلية . أن يتم رفض هذا التعاون و أن يرجع في كل شيء إلى عبقرية ديكتاتوريي الحزب يعني تدمير المركز المستقل لحياتنا ، النقابات و المنظمات التعاونية المحلية ، بتحويلها إلى أدوات بيروقراطية تابعة للحزب ، كما هو الحال في وقتنا . هذا هو الطريق كيلا نتمكن من إنجاز الثورة ، أن نجعل تحققها مستحيلا . و لهذا أعتبر أن من واجبي أن أنبهكم من استعارة أي من هذه الأساليب …
لقد أسفرت الحرب الأخيرة عن ظروف جديدة للحياة في كل العالم المتحضر . سوف تحقق الاشتراكية بالتأكيد تقدما كبيرا ، و سوف توجد أشكال جديدة من حياة أكثر استقلالية مستندة إلى التسيير الذاتي المحلي و المبادرة الحرة . سوف توجد إما سلميا أو بالطرق الثورية .
لكن نجاح إعادة البناء هذه سيعتمد في جزئه الأكبر على احتمال التعاون المباشر بين شعوب مختلفة . و لتحقيق ذلك من الضروري أن تتوحد الطبقات العاملة من كل الشعوب مباشرة و أن تسترجع فكرة الأممية العظيمة لكل عمال العالم ، لكن ليس بصيغة اتحاد يوجهه حزب سياسي واحد كما في الأمميتين الثانية و الثالثة . اتحادات كهذه لديها الكثير من الأسباب لتوجد ، لكن خارجها ، و كي توحدها جميعا يجب أن يوجد اتحاد لكل منظمات العمال في العالم ، متحدة لتحرر الإنتاج العالمي من خضوعها الحالي للرأسمالية .
ما يجب عمله ؟
إن الثورة التي نمر بها هي المحصلة الكلية ، ليس لجهود أفراد منفصلين ، بل ظاهرة طبيعية ، مستقلة عن الإرادة الإنسانية ، ظاهرة طبيعية شبيهة بالإعصار كالذي يتشكل فجأة عند شواطئ آسيا الشرقية . لآلاف الأسباب بقي بسببها عمل الأفراد المنفصلين و حتى فعل الأحزاب مجرد حفنة من الرمل ، واحدة من هذه الزوابع المحلية القصيرة أدت إلى تشكيل ظاهرة طبيعية عظيمة ، البلاء الأكبر الذي إما أن يجدد البناء ، أو أن يدمر ، أو ربما أن يجدد و يدمر في نفس الآن .
لقد ساهمنا جميعا في التحضير لهذا التغيير الحتمي العظيم . لكن جرى أيضا الإعداد له من قبل كل الثورات السابقة لأعوام 1793 ، 1848 – 1871 ، من قبل كل كتابات اليعاقبة و الاشتراكيين ، من كل منجزات العلم و الصناعة و الفن و ما إلى ذلك . بكلمة ، ساهمت ملايين الأسباب الطبيعية فيها تماما بنفس الطريقة التي تساهم بها ملايين من حركات جزيئات الهواء أو الماء لتتسبب بعاصفة مفاجئة يمكنها إغراق مئات السفن أو تدمير آلاف المنازل – كما أن ارتجاف الأرض أثناء الزلزال تسببه آلاف الاهتزازات الصغيرة و عبر الحركات التحضيرية للجزئيات المنفصلة .
عموما لا يرى الناس الأحداث بصورة متماسكة ، بكليتها . إنهم يفكرون أكثر بالكلمات من الصور المتخيلة بوضوح ، و ليس لديهم قطعا أية فكرة عما هي الثورة – من بين تلك الملايين من الأسباب التي عملت على إعطائها شكلها الحالي – و لذلك فهم يميلون إلى المبالغة بأهمية شخوصهم في تطور الثورة و ذلك السلوك الذي يتخذونه هم أو أصدقائهم أو المفكرون المشابهون لهم خلال هذه الثورة العملاقة . و بالطبع فهم عاجزون تماما عن فهم كيف أن كل فرد ضعيف مهما كان ذكاءه أو خبرته ، في هذه الدوامة ، هو واحد من مئات آلاف القوى التي تم تحفيزها في هذه الثورة .
إنهم لا يفهمون أنه ما أن تبدأ ظاهرة طبيعية كبرى كهذه ، مثلها مثل الزلزال ، أو بالأحرى مثلها مثل الإعصار ، فإن الأفراد المنفصلين هم عاجزون عن ممارسة أي تأثير في مجرى الأحداث . يمكن لحزب ما أن يقوم بشيء ما – أقل بكثير مما يعتقد – و على سطح الأمواج القادمة ، فإن تأثيره ربما يكون من الصعب ملاحظته . لكن المجموعات الصغيرة المنفصلة التي لا تشكل جمهورا كبيرا بما فيه الكفاية هي عاجزة بلا شك – إن قوتها تساوي الصفر بالتأكيد .
أنا أجد نفسي ، كأناركي ، في هذا الموقف . لكن حتى الأحزاب التي تتألف من أعداد أكبر بكثير في روسيا هي في نفس الموقف تماما . حتى أني سأذهب أبعد من ذلك ، إن الحزب الحاكم نفسه في نفس الموقف . إنه لا يحكم فعلا ، بل يجري حمله من قبل التيار الذي ساعد بخلقه لكنه الأقوى اليوم ألف مرة من الحزب نفسه….
ما الذي يجب عمله ؟
إننا نشاهد ثورة لا تسير وفق الاتجاهات التي أعددناها لها ، لكننا لا نملك الوقت للتحضير لها كما يجب .
أن نمنع الثورة ؟ هذا سخيف !
هذا متأخر جدا . سوف تتقدم الثورة على طريقها الخاص ، في الاتجاه الأقل مقاومة ، بدون أن تعير أي اهتمام لجهودنا .
في اللحظة الراهنة فإن الثورة الروسية في الوضع الحالي . إنها ترتكب الفظائع . إنها تدمر كامل البلد . في ضراوتها المجنونة تبيد الحيوات الإنسانية . لذلك فهي ثورة و ليست تطورا مسالما ، لأنها تدمر دون أي اعتبار لما تدمره و إلى أين يذهب .
و نحن عاجزون اليوم عن توجيهها في اتجاه آخر ، و حتى ذلك الوقت فإنها ستصاب بالإرهاق . عليها أن تهلك نفسها .
و عندئذ ؟ عندها – سيحدث تراجع لا محالة . هكذا هو قانون التاريخ ، و من السهولة فهم لماذا لا يمكنه أن يكون غير ذلك . يتصور الناس أنه يمكننا تغيير طريقة تطور ثورة . هذا وهم صبياني . إن الثورة هي قوة لا يمكن تغيير تصاعدها . و إن التراجع حتمي على نحو جازم ، تماما كما أن الفجوة في الماء حتمية بعد كل موجة ، كما أن الضعف حتمي في الكائن البشري بعد فترة من النشاط المحموم .
لذلك فالشيء الوحيد الذي يمكننا فعله هو أن نخفف من شدة و قوة التراجع القادم . لكن من أية أشياء يمكن أن تتشكل جهودنا ؟ أن نعدل المشاعر – على هذا الطرف أو ذاك ؟ من الذي يحتمل أنه سيصغي إلينا ؟ حتى لو وجد دبلوماسيين كهؤلاء يمكنهم فعل أي شيء في هذا الدور ، فإن وقت ظهورهم على المسرح لم يحن بعد ، و لا هذا الطرف أو ذاك مستعد للإصغاء إليهم . أنا أرى شيئا واحدا ، يجب علينا أن نلم شمل الشعب الذي سيكون قادرا على القيام بعمل إيجابي لم شمل أولئك الذين في كل حزب بعد أن تهلك الثورة نفسها .
* بابوف : ثوري فرنسي شارك في الثورة الفرنسية و نادى بالعدالة بين كل الفرنسيين و حضر لمؤامرة تم اكتشافها و محاكمة المشاركين فيها .
ترجمة : مازن كم الماز
لقد سئلت فيما إذا كنت لا أملك أية رسالة لعمال العالم الغربي . بالتأكيد هناك الكثير ليقال و لتعلمه من الأحداث الواقعة في روسيا . و حيث أن على هذه الرسالة أن تكون طويلة لتغطي كل شيء ، فإنني سأبين هنا النقاط الرئيسية فقط .
أولا ، إن على عمال العالم المتحضر و أصدقائهم من الطبقات الأخرى أن يتغلبوا على حكوماتهم كي يسقطوا كلية فكرة التدخل المسلح في روسيا إما علنا أو بشكل سري . إن روسيا تجتاز اليوم بثورة على نفس القدر من الأهمية و الاتساع كما جرى في انكلترا بين 1639 و حتى 1648 ، و في فرنسا بين 1789 و 1794 . على كل شعب أن يرفض أن يلعب الدور المخجل الذي لعبته انكلترا و روسيا و بروسيا و النمسا أثناء الثورة الفرنسية .
أبعد من ذلك يجب أن نضع في حسابنا أن الثورة الروسية – التي تحاول أن تبني مجتمعا حيث ستكون كل القوة المنتجة ، القدرة التقنية ، و المعرفة العلمية جماعية كلية – ليست مجرد مصادفة في صراع الأحزاب المتنافسة . لقد جرى التحضير لها عبر ما يقارب القرن من الدعاية الاشتراكية و الشيوعية من أيام روبرت أوين و سان سيمون و فورييه . و رغم أن الجهود لاستحداث نظام اجتماعي جديد من خلال ديكتاتورية الحزب هو محكوم بالفشل على ما يبدو ، فإنه يجب إدراك أن الثورة قد أدخلت إلى حياتنا اليومية أفكارا جديدة عن حقوق العمال ، و موقعهم الصحيح في المجتمع و واجبات كل مواطن – و أن هذه الأفكار ستبقى .
ليس فقط العمال ، بل على كل القوى التقدمية في العالم المتحضر أن تضع حدا للدعم الذي حصل عليه أعداء الثورة حتى الآن . ليس لأنه لا يوجد ما يمكن معارضته في أساليب الحكومة البلشفية . بل أبعد من ذلك ! لأن كل التدخلات الخارجية المسلحة تقوي بالضرورة الميول الديكتاتورية لهذه الحكومة ، و تشل جهود أولئك الروس الجاهزين لمساعدة روسيا ، بشكل مستقل عن الحكومة ، في استعادتها لحياتها .
إن الشرور المتأصلة في ديكتاتورية الحزب قد قويت بظروف الحرب التي يحتفظ من خلالها هذا الحزب بالسلطة . لقد كانت حالة الحرب هذه ذريعة لتشديد الأساليب الديكتاتورية التي مركزت السيطرة على كل تفصيل من حياتنا اليومية في أيدي الحكومة ، و التي بنتيجتها توقف جزء هائل من فعالياتنا اليومية في هذا البلد . إن الشرور الطبيعية لشيوعية الدولة تضاعفت عشرة مرات تحت ذريعة أن كل معاناتها مصدرها التدخل الخارجي .
علي أيضا أن أشير إلى أنه إذا استمر تدخل الحلفاء العسكري ، فإنه من المؤكد أنه سيؤدي إلى شعور من المرارة في روسيا تجاه الشعوب الغربية ، الشعور الذي سيستخدم يوما ما في نزاعات المستقبل . إن هذه المرارة تخلق على الدوام في مثل هذه الظروف .
باختصار ، إنه وقت هام عندما تدخل شعوب أوروبا في علاقات مباشرة مع الشعب الروسي . و من هذه النقطة عليكم – أي الطبقة العاملة و العناصر التقدمية من كل الشعوب – أن تقولوا كلمتكم .
كلمة أكثر عن القضية العامة . إن إعادة إقامة العلاقات بين الشعوب الأوروبية و الأمريكية و روسيا لا تعني سيطرة الشعب الروسي على سائر القوميات التي شكلت الإمبراطورية القيصرية . إن روسيا الإمبريالية قد ماتت و لن تعود إلى الحياة من جديد . إن مستقبل هذه المناطق المختلفة يكمن في اتحاد عظيم . إن المناطق الطبيعية لأجزاء مختلفة من هذا الاتحاد متمايزة بالفعل ، كما يعلم العارفون منا بالتاريخ و الأثنوغرافيا ( علم السلالات ) الروسيين جيدا . إن كل الجهود لإعادة توحيد هذه الأجزاء المنفصلة للإمبراطورية الروسية تحت سلطة مركزية مصيرها الفشل . لذلك من اللازم أن تعترف الشعوب الغربية بحق الاستقلال لأي جزء من الإمبراطورية الروسية القديمة .
في رأيي أن هذا التطور سيستمر . إنني أرى قدوم الوقت عندما يصبح كل جزء من هذا الاتحاد في ذاته اتحادا بين كومونات ( تعاونيات ) ريفية و مدن حرة . و إنني أعتقد أن أجزاء معينة من أوروبا الغربية سرعان ما تتبع نفس العملية .
أما بالنسبة لوضعنا السياسي و الاقتصادي الراهن فإن الثورة الروسية من حيث كونها استمرار للثورتين الكبريتيين في انكلترا و فرنسا ، تحاول أن تبلغ النقطة التي توقفت عندها الثورة الفرنسية قبل أن تنجح في تحقيق ما سمته ب"العدالة في الحقيقة" التي هي العدالة الاقتصادية .
من المؤسف أن هذه الجهود تجري في روسيا تحت ديكتاتورية الحزب شديدة المركزية . تجري هذه الجهود بذات طريقة محاولة بابوف* اليعقوبية و شديدة المركزية . إنني أدين لكم بالقول بصراحة أنه ، و طبقا لوجهة نظري ، أن هذه الجهود لبناء جمهورية شيوعية على قاعدة شيوعية الدولة شديدة المركزية تحت القانون الحديدي لديكتاتورية الحزب محتومة أن تفشل في النهاية . إننا نتعلم أن نعرف في روسيا كيف لا نستحدث الشيوعية ، حتى مع الناس المتعبين من النظام القديم و الذين لا يبدون أية مقاومة فعالة لتجارب الحكام الجدد .
إن فكرة السوفييتات ، أي كما يمكن القول ، مجالس العمال و الفلاحين ، التي أبدعت أول مرة في وقت المحاولة الثورية الأولى عام 1905 ، و التي تحققت فورا مع ثورة شباط فبراير 1917 ، حالما تمت الإطاحة بالقيصرية – فكرة أن تقوم مجالس كهذه بإدارة الحياة السياسية و الاقتصادية للبلد هي فكرة عظيمة . لذلك فإن كل ذلك يفترض بالضرورة أن تتألف هذه المجالس من كل من يساهم حقيقة في إنتاج الثورة الوطنية بجهودهم الخاصة .
لكن طالما بقي البلد يحكم بديكتاتورية الحزب فإن مجالس العمال و الفلاحين تفقد بالدليل كل أهميتها . إنها تختزل إلى دور سلبي كان يمارسه في الماضي "جنرالات الدولة" عندما كانوا يعينون من الملك و عليهم أن يواجهوا مجلسا ملكيا كلي السلطة .
يتوقف مجلس العمال عن أن يكون حرا و ذا أي فائدة عندما تتوقف حرية الصحافة عن الوجود ، و نحن في هذه الحالة منذ سنتين – تحت ذريعة أننا في حالة حرب . لكن هناك ما هو أكثر . إن مجالس العمال و الفلاحين تفقد أهميتها عندما لا تسبق الانتخابات حملة انتخابية حرة ، و عندما تجري الانتخابات تحت ضغط ديكتاتورية الحزب . من الطبيعي أن العذر المعتاد هو أن الديكتاتورية حتمية للتغلب على مقاومة النظام القديم . لكن حالة كهذه هي بوضوح خطوة إلى الوراء ، باعتبار أن الثورة ملتزمة ببناء مجتمع جديد على أساس اقتصادي جديد . إن هذا يعني نعي النظام الجديد .
إن أساليب إسقاط حكومة واهنة بالفعل معروفة جيدا في التاريخ القديم و المعاصر . و لكن عندما يكون من الضروري خلق أنماط جديدة من الحياة ، خاصة أنماط جديدة من الإنتاج و التوزيع ، بدون وجود أمثلة يمكن تقليدها ، عندما يجب إقامة كل شيء من جديد ، عندما تقوم حكومة بتزويد كل مواطن بمصباح و حتى بعود الثقاب اللازم لإضاءته ، و عندما لا تستطيع فعل ذلك حتى مع وجود عدد غير محدود من الموظفين – تصبح هذه الحكومة مصدر إزعاج فقط . إنها تشكل بيروقراطية جبارة ، بحيث أن البيروقراطية الفرنسية التي تحتاج إلى مساعدة أربعين موظفا لبيع شجرة تكسرت بفعل الريح على الطريق العام هي مجرد شيء تافه بالمقارنة بها . هذا ما نتعلمه اليوم في روسيا . و هذا ما يجب عليكم أنتم العمال في الغرب أن تتجنبوه و بكل وسيلة ، حيث أنكم تمتلكون في القلب الرغبة بنجاح عملية إعادة بناء اجتماعية فعلية . أرسلوا مندوبيكم هنا لتروا كيف أن ثورة اجتماعية تعمل في الحياة الواقعية .
إن العمل الإنشائي الهائل المطلوب من ثورة اجتماعية لا يمكن إنجازه من قبل حكومة مركزية ، حتى لو كان عليها قيادة شيء أكثر أهمية من مجرد عدة كراسات اشتراكية و أناركية . هناك حاجة للمعرفة ، للأدمغة و لتعاون طوعي بين مجموعة من القوى المحلية و المتخصصة التي يمكنها وحدها أن تواجه تنوع المشاكل الاقتصادية في جوانبها المحلية . أن يتم رفض هذا التعاون و أن يرجع في كل شيء إلى عبقرية ديكتاتوريي الحزب يعني تدمير المركز المستقل لحياتنا ، النقابات و المنظمات التعاونية المحلية ، بتحويلها إلى أدوات بيروقراطية تابعة للحزب ، كما هو الحال في وقتنا . هذا هو الطريق كيلا نتمكن من إنجاز الثورة ، أن نجعل تحققها مستحيلا . و لهذا أعتبر أن من واجبي أن أنبهكم من استعارة أي من هذه الأساليب …
لقد أسفرت الحرب الأخيرة عن ظروف جديدة للحياة في كل العالم المتحضر . سوف تحقق الاشتراكية بالتأكيد تقدما كبيرا ، و سوف توجد أشكال جديدة من حياة أكثر استقلالية مستندة إلى التسيير الذاتي المحلي و المبادرة الحرة . سوف توجد إما سلميا أو بالطرق الثورية .
لكن نجاح إعادة البناء هذه سيعتمد في جزئه الأكبر على احتمال التعاون المباشر بين شعوب مختلفة . و لتحقيق ذلك من الضروري أن تتوحد الطبقات العاملة من كل الشعوب مباشرة و أن تسترجع فكرة الأممية العظيمة لكل عمال العالم ، لكن ليس بصيغة اتحاد يوجهه حزب سياسي واحد كما في الأمميتين الثانية و الثالثة . اتحادات كهذه لديها الكثير من الأسباب لتوجد ، لكن خارجها ، و كي توحدها جميعا يجب أن يوجد اتحاد لكل منظمات العمال في العالم ، متحدة لتحرر الإنتاج العالمي من خضوعها الحالي للرأسمالية .
ما يجب عمله ؟
إن الثورة التي نمر بها هي المحصلة الكلية ، ليس لجهود أفراد منفصلين ، بل ظاهرة طبيعية ، مستقلة عن الإرادة الإنسانية ، ظاهرة طبيعية شبيهة بالإعصار كالذي يتشكل فجأة عند شواطئ آسيا الشرقية . لآلاف الأسباب بقي بسببها عمل الأفراد المنفصلين و حتى فعل الأحزاب مجرد حفنة من الرمل ، واحدة من هذه الزوابع المحلية القصيرة أدت إلى تشكيل ظاهرة طبيعية عظيمة ، البلاء الأكبر الذي إما أن يجدد البناء ، أو أن يدمر ، أو ربما أن يجدد و يدمر في نفس الآن .
لقد ساهمنا جميعا في التحضير لهذا التغيير الحتمي العظيم . لكن جرى أيضا الإعداد له من قبل كل الثورات السابقة لأعوام 1793 ، 1848 – 1871 ، من قبل كل كتابات اليعاقبة و الاشتراكيين ، من كل منجزات العلم و الصناعة و الفن و ما إلى ذلك . بكلمة ، ساهمت ملايين الأسباب الطبيعية فيها تماما بنفس الطريقة التي تساهم بها ملايين من حركات جزيئات الهواء أو الماء لتتسبب بعاصفة مفاجئة يمكنها إغراق مئات السفن أو تدمير آلاف المنازل – كما أن ارتجاف الأرض أثناء الزلزال تسببه آلاف الاهتزازات الصغيرة و عبر الحركات التحضيرية للجزئيات المنفصلة .
عموما لا يرى الناس الأحداث بصورة متماسكة ، بكليتها . إنهم يفكرون أكثر بالكلمات من الصور المتخيلة بوضوح ، و ليس لديهم قطعا أية فكرة عما هي الثورة – من بين تلك الملايين من الأسباب التي عملت على إعطائها شكلها الحالي – و لذلك فهم يميلون إلى المبالغة بأهمية شخوصهم في تطور الثورة و ذلك السلوك الذي يتخذونه هم أو أصدقائهم أو المفكرون المشابهون لهم خلال هذه الثورة العملاقة . و بالطبع فهم عاجزون تماما عن فهم كيف أن كل فرد ضعيف مهما كان ذكاءه أو خبرته ، في هذه الدوامة ، هو واحد من مئات آلاف القوى التي تم تحفيزها في هذه الثورة .
إنهم لا يفهمون أنه ما أن تبدأ ظاهرة طبيعية كبرى كهذه ، مثلها مثل الزلزال ، أو بالأحرى مثلها مثل الإعصار ، فإن الأفراد المنفصلين هم عاجزون عن ممارسة أي تأثير في مجرى الأحداث . يمكن لحزب ما أن يقوم بشيء ما – أقل بكثير مما يعتقد – و على سطح الأمواج القادمة ، فإن تأثيره ربما يكون من الصعب ملاحظته . لكن المجموعات الصغيرة المنفصلة التي لا تشكل جمهورا كبيرا بما فيه الكفاية هي عاجزة بلا شك – إن قوتها تساوي الصفر بالتأكيد .
أنا أجد نفسي ، كأناركي ، في هذا الموقف . لكن حتى الأحزاب التي تتألف من أعداد أكبر بكثير في روسيا هي في نفس الموقف تماما . حتى أني سأذهب أبعد من ذلك ، إن الحزب الحاكم نفسه في نفس الموقف . إنه لا يحكم فعلا ، بل يجري حمله من قبل التيار الذي ساعد بخلقه لكنه الأقوى اليوم ألف مرة من الحزب نفسه….
ما الذي يجب عمله ؟
إننا نشاهد ثورة لا تسير وفق الاتجاهات التي أعددناها لها ، لكننا لا نملك الوقت للتحضير لها كما يجب .
أن نمنع الثورة ؟ هذا سخيف !
هذا متأخر جدا . سوف تتقدم الثورة على طريقها الخاص ، في الاتجاه الأقل مقاومة ، بدون أن تعير أي اهتمام لجهودنا .
في اللحظة الراهنة فإن الثورة الروسية في الوضع الحالي . إنها ترتكب الفظائع . إنها تدمر كامل البلد . في ضراوتها المجنونة تبيد الحيوات الإنسانية . لذلك فهي ثورة و ليست تطورا مسالما ، لأنها تدمر دون أي اعتبار لما تدمره و إلى أين يذهب .
و نحن عاجزون اليوم عن توجيهها في اتجاه آخر ، و حتى ذلك الوقت فإنها ستصاب بالإرهاق . عليها أن تهلك نفسها .
و عندئذ ؟ عندها – سيحدث تراجع لا محالة . هكذا هو قانون التاريخ ، و من السهولة فهم لماذا لا يمكنه أن يكون غير ذلك . يتصور الناس أنه يمكننا تغيير طريقة تطور ثورة . هذا وهم صبياني . إن الثورة هي قوة لا يمكن تغيير تصاعدها . و إن التراجع حتمي على نحو جازم ، تماما كما أن الفجوة في الماء حتمية بعد كل موجة ، كما أن الضعف حتمي في الكائن البشري بعد فترة من النشاط المحموم .
لذلك فالشيء الوحيد الذي يمكننا فعله هو أن نخفف من شدة و قوة التراجع القادم . لكن من أية أشياء يمكن أن تتشكل جهودنا ؟ أن نعدل المشاعر – على هذا الطرف أو ذاك ؟ من الذي يحتمل أنه سيصغي إلينا ؟ حتى لو وجد دبلوماسيين كهؤلاء يمكنهم فعل أي شيء في هذا الدور ، فإن وقت ظهورهم على المسرح لم يحن بعد ، و لا هذا الطرف أو ذاك مستعد للإصغاء إليهم . أنا أرى شيئا واحدا ، يجب علينا أن نلم شمل الشعب الذي سيكون قادرا على القيام بعمل إيجابي لم شمل أولئك الذين في كل حزب بعد أن تهلك الثورة نفسها .
* بابوف : ثوري فرنسي شارك في الثورة الفرنسية و نادى بالعدالة بين كل الفرنسيين و حضر لمؤامرة تم اكتشافها و محاكمة المشاركين فيها .
ترجمة : مازن كم الماز
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق