تمهيد:
إن نقطة انطلاقنا في بحث المستقبل وآفاقه الممكنة ليست النظريات ولا التأمل الفلسفي الخالص بل الوجود الواقعي التاريخي كما هو متحقق والقابل للبحث التجريبي والنقدي واتجاهاته العامة. والحاجة لبحث المستقبل لا تنبع من الإرادة المتخلصة من شروطها التاريخية، بل هي استجابة للمعضلات الفعلية التي يواجهها البشر في واقعهم الراهن كما تطور الحركة الاحتجاجية ضد النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي السائد وتطور مطالباتها إلى ما وراء هذا النظام وما توفره من مادة واقعية لتجاوزه. ومن هذا الباب، ومنه فقط، يتجه بحثنا في موضوع التنظيم الذاتي.
وسنحاول في هذا العرض تقديم بعض الدروس التاريخية لأهم تجربتين في التنظيم الذاتي ونعني بذلك الكمونات والسوفياتات. ثم سنعالج بالنقد تجربة اللجان والمجالس التي ظهرت خلال الموجة الثورية الحالية.
1- من دروس الكمونة:
إن أهم درس تقدمه لنا الكمونة هو قيامها بالذات. فبغض النظر عما قامت به، وعن إجراءاتها التي تبدو لنا الآن محدودة، وعن أخطائها القاتلة، فان نشوءها التاريخي في حد ذاته قد مثل إعلانا صريحا عن بداية نشوب الثورة الاجتماعية. أي أن الكمونة قد أبرزت الجوهر التاريخي للثورة باعتبارها ثورة ضد أسلوب الإنتاج الرأسمالي. فلم تكن الكومونة انقلابا سياسيا يستولي بمقتضاه حزب من الأحزاب على السلطة السياسية. ولم تكن تمريرا لجهاز الدولة من يد إلى أخرى عبر انتخابات برلمانية. بل إن الكومونة لم تواجه هذا الشكل الخاص أو ذاك من الدولة البورجوازية (ديمقراطية، ديكتاتورية، ملكية..الخ)، إنما قد واجهت الحكم السياسي للبشر نفسه. فلم يكن هدفها إرساء ليبرالية ديمقراطية ولا ديكتاتورية سياسية باسم العمال، بل كان هدفها العميق هو التغيير الثوري والجذري للنظام الاقتصادي والاجتماعي الرأسمالي ذاته.
واليوم،وإذا أردنا أن نحيي ذاكرة الكمونة فلن يكون ذلك إلا بإعادة إبراز جوهرها التاريخي، إبراز كونها ليست شيئا آخر غير الثورة الاجتماعية ضد نظام عبودية الأجر. وبخلاف ذلك فان البقاء في حدود تمجيدها الأسطوري والتغني الشاعري والرومانسي بمآثرها وبطولاتها لا يعني سوى تحنيطها وتحويلها إلى أيقونة أثرية خرساء.
إن جوهر الكمونة هو ثورة أغلبية المجتمع بكل فئاته وطبقاته المسحوقة من أجل الاستعاضة عن أسلوب الإنتاج القائم على ملكية طبقة قليلة العدد من البورجوازيين لوسائل الإنتاج المادي والروحي للمجتمع واستثمارها من خلال هذه الملكية الطبقية لجهد المنتجين الحقيقيين، بأسلوب جديد قائم على الإدارة التعاونية والجماعية للإنتاج الاجتماعي من خلال الكومونات الاجتماعية في كل المجالات وكل المستويات. وإن الانتصار للكمونة هو بالضبط مواصلة النضال من أجل تحقيق هذا المشروع التاريخي الذي لم تفعل الكومونة سوى أنها وضعته بكامل الوضوح في جدول أعمال الحركة الثورية المعاصرة.
لكن الكمونة لم تكتف بإبراز الجوهر التاريخي للثورة الاجتماعية، بل إنها قد قدمت المادة الواقعية لإنجازه، أو على الأقل فإنها بادرت بتقديم العناصر الأولية للوسائل العملية الممكنة لتجسيده الفعلي.
فالبناء الكوموني يقف على النقيض من الحكم السياسي. إذ الكمونة تعني امتلاك المنتجين (أي المجتمع) لوسائل إنتاجهم الاجتماعية المادية والروحية، وإدارتهم التعاونية المباشرة للإنتاج وكل شؤونهم العامة. فلا تعود وسائل الإنتاج ملكية غريبة عن مجتمع المنتجين، ولا هي سلطة خارجة عن إرادتهم الجماعية، ولا يعود المندوبين المحليين والجهويين والوطنيين ممثلين سياسيين تحال بالكامل في أيديهم شؤون الإدارة والتسيير بل إن انتخابهم مع الحق الدائم في عزلهم في أي وقت ضمن الدوائر المحلية الأضيق لا يعني سوى تكليفهم المباشر بمهام مباشرة تقف عندها صلوحياتهم الاجتماعية، بما يجعلهم، ليس سلطة سياسية معينة من فوق تقرر بالنيابة عن مجموع السكان لتتحول إلى فئة بيروقراطية تقف فوق المجتمع، بل كخادم للمجموعة ومنفذ لقراراتها الجماعية.
والبناء الكموني يتعارض مع الحكم السياسي، أي الدولة السياسية، من حيث كونه بناء يبدأ من الأسفل، إذ على نقيض الديمقراطية الليبرالية حيث ينتخب "الشعب" فئة قليلة العدد يمثلون السلطة السياسية التي تحال لها كل صلاحيات التشريع والتنفيذ والتعيين، فان البناء الكموني يقوم، بطريقة عكسية، حيث تنتخب المجموعات المحلية مجالسها المحلية التي تملك كل صلاحيات التسيير والإدارة المحلية، أما الإدارة العامة فإنها تتشكل من مندوبي المجالس المحلية والجهوية، بما يجعلها مجرد إدارة إشراف وتنسيق وليس سلطة سياسية منفصلة عن المجتمع.
والكمونة إذ تحول الوظائف السياسية والبيروقراطية المربحة إلى وظائف اجتماعية فإنها تعني القضاء على كل الامتيازات في تلك الوظائف. ولعل من أهم الإجراءات التي قامت بها الكمونة هو تحديد دخل كل المسئولين المنتخبين في حدود متوسط دخل العمال والمراقبة الدائمة لأملاكهم. وهذا الإجراء، رغم محدوديته التاريخية البارزة من حيث أنه يحافظ على نظام التراتبية غير المبرر في الدخل، فانه مثل نقطة انطلاق عظيمة في ضرب المؤسسة البيروقراطية للدولة والقضاء على أساس وجودها المادي، ذلك أن بيروقراطية الدولة إنما تقوم أساسا على نظام الامتيازات المباشرة وغير المباشرة، واستغلال الوظائف الإدارية لجني المكاسب على حساب المجتمع.
كما أن الكمونة نظمت عملية الاستيلاء الجماعي على المصانع وكل مؤسسات الإنتاج التي هجرها أصحابها، وقدمت لعمالها كل الوسائل لإعادة إدارتها وتسييرها من خلال مجالس عمالية منتخبة من العمال أنفسهم. كما أنها قامت بكل ما تيسر لها في ذلك الظرف الوجيز والصعب من توجيه الإنتاج لصالح الاحتياجات العامة لتطور الثورة، أي لصالح المجتمع وليس الربح والمنافسة. وفي هذا الباب، ورغم محدودية هذه العملية والأخطاء والتردد وطابع تقديس الملكية الخاصة الذي ظل يخيم على رأس الكمونة، فان هذه الأخيرة قد قدمت الدرس العملي المهم، والنموذج الواقعي في بناء أسلوب انتاج اجتماعي جديد يقوم على تحويل ملكية وسائل الإنتاج إلى ملكية اجتماعية بالفعل، أي الإدارة التعاونية للإنتاج وتوجيهه لتلبية الحاجات الفعلية لكل أفراد المجتمع.
كما أن الكمونة قامت بحل كل أجهزة القمع وعوضتها بميليشيات شعبية تقوم على التجنيد الاختياري وقضت على كل التراتبية العسكرية، وأقرت مبدأ الانتخاب المباشر مع الحق في العزل للمسئولين العسكريين والأمنيين. وبغض النظر عن الأخطاء والنقائص وعن النزعة الدفاعية التي كلفتها غاليا فيما بعد، فان هذه المبادرة التاريخية في بناء اجتماعي جديد، والتخلص من أهم مرتكزات الدولة السياسية (البوليس والجيش الدائمين)، قد نحتت في الذاكرة الثورية درسا عمليا مهما ستتلقفه كل الأجيال الثورية اللاحقة.
ولقد رفعت الكمونة لواء الأممية بلا أدنى لبس، ليس كشعار أجوف، بل بشكل عملي، حيث أن الآلاف من العمال الأجانب كانوا قد شاركوا في هذه الثورة. بل وأن العديد من المناضلين الأمميين كانوا قد أخذوا مواقع متقدمة في الكمونة. كما أن هذه الأخيرة، وبشكل رمزي قد أحرقت مسلة النصر في ميدان فاندوم رمز التعصب القومي. وبعثت برسائل التآخي مع الجنود البروسيين الذين كانوا يحاصرون باريس وكثفت الدعاية الأممية في أوساطهم، وكان ذلك عاملا حاسما في وقف الحرب البورجوازية طيلة عهد الكمونة الوجيز. وهذا الأمر في حد ذاته، وبكل محدوديته التاريخية، يعطينا فكرة عن الطابع الكموني المعادي لكل النزعات الوطنية البورجوازية، إذ الكمونة هي بالأساس رفض الشغيلة وعموم ضحايا النظام الرأسمالي مواصلة الحرب بين البورجوازيات تحت شعار "الدفاع عن الوطن". وموضوع الكمونة لم يكن أبدا نزاع الوطن ضد القوميات والأمم والشعوب الأخرى بل النزاع حول طبيعة الحياة الاجتماعية ضمن هذا الوطن بالذات، أي أن الكمونة لم تكن لحماية باريس من بروسيا بل لحماية باريس من بورجوازيتها "الوطنية" التي تريد جرها إلى محرقة الحرب الرأسمالية. وليس غريبا أن حركة الكمونة وحركة السوفياتات بعدها هما الوحيدتان اللتان استطاعتا وقف كارثة الحرب البورجوازية. وهذا الدرس التاريخي المهم يبين لنا أن النضال ضد الحرب والنزعة العسكرية لا يكون بتغذية النعرات القومية والوطنية، أو برفع شعارات "حق الشعوب في تقرير مصيرها"، أو بما يسمى النضال الوطني ضد الامبريالية والصهيونية...الخ، بل إن مواجهة الحرب البورجوازية لا يكون إلا بالثورة الاجتماعية، ثورة الكمونة ضد النظام الرأسمالي وضد البورجوازية الوطنية بالتحديد.
لكن الكمونة ما كان لها أن تنتصر، ولو ظرفيا، بدون مبادرة تنظيم جمهور الشغيلة وعموم المسحوقين لنضالاتهم في إطار تنظيم ذاتي كموني مسبق. فالكمونة، كشكل من أشكال التنظيم الذاتي، لم تظهر كنتيجة للثورة الاجتماعية إلا لكونها مثلت أيضا الوسيلة الثورية لتنظيم النضالات وتطويرها. وهكذا فالهدف التاريخي كان قد حدد وسيلته التاريخية. وهذا أمر منطقي وواقعي، إذ لا يمكن الوصول إلى هدف هو الإدارة التعاونية الجماعية المتضامنة للحياة الاجتماعية بوسائل تناقض هذا الهدف. فقوة الكمونة كانت في انصهار كل تياراتها ومجموعاتها وفصائلها الثورية في بوتقة كمونية واحدة. إذ برغم وجود جماعات سياسية مختلفة المشارب والعقائد والإيديولوجيات، فان الكمونة لم تخضع لمحاصصات سياسية، ولم تبن نفسها على أساس تقاسم "سلطة" فوقي بين تلك الأحزاب والمجموعات، بل إن الأساس الذي قامت عليه هو أساس اجتماعي. وهذا الأمر يناقض كل أطروحات الماركسيين الذين يعتبرون أن نقطة ضعف الكمونة هي في غياب الحزب الطليعي. ونحن نعلم اليوم ما قادت إليه نزعتهم السلطوية تلك في ثورة السوفياتات فيما بعد، وتحويلها الثورة الاجتماعية إلى انقلاب سياسي لم ينتج غير ديكتاتورية دموية أسهمت أيما إسهام في إحباط الشغيلة وتشويه الاشتراكية الكمونية.
لم تنهزم الكمونة لغياب حزب طليعي يقودها. فالكمونة انهزمت فقط لعدم اندلاعها الأممي المتضامن. لأن الشغيلة في العالم لم تكن جاهزة للاستجابة لندائها. وهذا ما سمح للبورجوازية العالمية بمحاصرتها وإغراقها في الدم. لكن الكمونة ستكون أطول عمرا من جزاريها، لأنها ستظهر مرات ومرات على امتداد الثورات الاجتماعية التي عرفها القرن العشرين. وحتى إن خمد صوتها لبعض العقود، فان العودة الراهنة للموجة الثورية ضد نظام رأس المال تبعث آمالا قوية في عودة الصوت الكموني من جديد ولو بأسماء وعناوين ويافطات جديدة، وخاصة بتراث ثوري زاخر بالتجارب والمبادرات والدروس يسمح للشغيلة بتخطي العتبات التي عجزت الكمونة على تجاوزها.
2- من دروس السوفياتات:
بمثل ما أن الشروط التاريخية التي أنتجت الثورة الديمقراطية البورجوازية في روسيا سنة 1825 (ما عرف بثورة الديسمبريين) هي ذاتها الشروط التاريخية التي كانت قد أنتجت الثورة الديمقراطية البورجوازية الفرنسية سنة 1789. فان الشروط التاريخية لاندلاع ثورة السوفياتات في روسيا سنة 1905 ثم سنة 1917 هي ذاتها الشروط التاريخية لاندلاع ثورة الكمونة في باريس سنة 1871. فالتطور الصناعي والتجاري في كل من أوروبا وروسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وظهور المراكز الصناعية الكبيرة التي تضم عشرات الآلاف من العمال الصناعيين، وتحول الإنتاج الفردي الخاص والمنعزل إلى انتاج اجتماعي يديره العمال بشكل تعاوني، العمال الذين حررتهم الثورة البورجوازية من أية ملكية خاصة سوى ملكيتهم لقوة عملهم وتجميع كل شروط الإنتاج في يد طبقة بورجوازية تدير سلطتها من خلال الدولة بمختلف أشكالها السياسية (جمهورية، ملكية..الخ)، كذلك بروز النوبات الدورية للازمات والاختلالات ودفع الجمهور الواسع من المنتجين إلى وضع البؤس وجرهم لحروب تقاسم النفوذ بين رؤوس الأموال الوطنية. كل هذا الواقع التاريخي الجديد مثل الأساس المادي لظهور موجات متعاقبة من الانتفاضات والحركات الاحتجاجية العارمة من بريطانيا إلى فرنسا إلى ألمانيا وروسيا. ولقد أشرت تلك الانتفاضات لدخول العالم إلى مرحلة جديدة من الثورات، حيث تركت المطالبات السياسية الديمقراطية الليبرالية البورجوازية مكانها لمطالبات اجتماعية عمالية ذات طابع تاريخي جديد. فإذا كان الأفق التاريخي الذي وضعته الثورات البورجوازية أمام الأقنان والفلاحين يتمثل في تحررهم من شروط إنتاجهم المادية، أي تحولهم إلى قوة عمل متحررة من كل ملكية خاصة في مواجهة شروط الإنتاج التي تحولت إلى رأسمال اجتماعي في يد طبقة خاصة هي البورجوازية، فان الأفق التاريخي الذي أصبحت تضعه الثورات الاجتماعية الجديدة أمام العمال يتمثل في إلغاء كل ملكية خاصة/طبقية لشروط الإنتاج الاجتماعي، بما أن هذا الأخير قد أصبح عمليا يدار بشكل تعاوني جماعي، ولم تعد هناك خطوة ثورية ممكنة سوى مطابقة طابع الملكية الطبقي مع طابع الإنتاج التعاوني، أي تحويل الملكية البورجوازية إلى ملكية اجتماعية. وهو ما يستدعي الانتقال من الإدارة السياسية، أي الإدارة الفوقانية، إلى إدارة ذاتية تعاونية. وهذا بالضبط المعنى التاريخي الذي عبرت عنه الكمونة بكل وضوح. وهو ما ستعود لإعلانه من جديد وبأكثر قوة ثورة السوفياتات.
وعلى عكس الأسطورة الماركسية اللينينية حول روسيا الإقطاعية في ذلك العهد، فان موسكو وبطرسبرغ خاصة قد مثلتا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مركزين صناعيين عالميين، حيث ضمت بعض أقطابها الصناعية عشرات الآلاف من العمال في قطاعات المعادن والصناعات الحربية وصناعة السفن ومد السكك الحديدية...الخ. كما شهدت الصناعات الاستخراجية قفزة عملاقة بتأثير الطلب الخارجي، وهو ما جعل روسيا تدخل بشكل حاسم في السوق العالمية والنزاعات العسكرية مع أقطاب الرأسمالية الأخرى. ولم تكن ثورة 1905 حدثا عرضيا، إذ أن البروليتاريا الروسية قد عبرت عن نشاط ثوري متميز من خلال الإضرابات والانتفاضات المتتالية طيلة سنوات راكمت خلالها التجارب وتمرست على تنظيم نضالاتها ضد سلطة الرأسمال ودولته القيصرية. وفي هذه الثورة بالذات ظهرت السوفياتات أول مرة كإعلان صريح على أن العمال لا يستهدفون بناء "جمهورية ديمقراطية" مثلما كانت تحلم به الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، بل يستهدفون الاستعاضة عن الحكم السياسي نفسه بإدارة ذاتية تعاونية للإنتاج والتوزيع.
ولئن استطاعت دولة القيصر إغراق الثورة في الدماء، لتلتف عليها فيما يعد عبر إنشاء برلمان (الدوما) رجعي شاركت فيه أغلب الأحزاب، فان هذه السوفياتات ما فتئت أن عادت للظهور من جديد في ثورة مارس 1917.
فماذا كانت هذه السوفياتات وما كان مغزاها التاريخي؟
لقد خلفت الحرب التي كانت تخوضها الدولة الروسية وهزيمتها العسكرية وضعا اجتماعيا واقتصاديا كارثيا دفع العمال والفلاحين والبحارة والجنود إلى ثورة عارمة. فبعد موجة اضرابية واسعة ساهمت في شل الاقتصاد البورجوازي، بدأت المواجهات المباشرة بين الجماهير المنتفضة وأجهزة القمع. ولقد مثلت الحادثة الشهيرة في بطرسبرغ، حيث رفضت كتيبة عسكرية إطلاق النار على المتظاهرين ووجهت سلاحها ضد قوات الحرس، مؤشرا على بداية تفكك أجهزة الدولة وانطلاق أعظم الثورات في التاريخ المعاصر.
ولم يتأخر العمال كثيرا في إنشاء مجالس عمالية للإدارة الذاتية للمصانع والشركات التي تركها أصحابها خوفا من الانتقام الشعبي. كما تم إنشاء تعاونيات استهلاكية تقوم بإدارة توزيع المواد الاستهلاكية. وفي الريف بادر الفلاحون والعمال الزراعيين بتنظيم استيلاءات جماعية على أراضي الملاكين العقاريين الكبار لينظموا أنفسهم في إطار تعاونيات فلاحية لإدارة الإنتاج الزراعي. ولقد ساهم وجود آلاف الجنود المسلحين الذين تركوا جبهات القتال في الحدود رافضين مواصلة الحرب البورجوازية والتحاقهم بالمدن خاصة في موسكو وبطرسبرغ، ساهم ذلك في إنشاء ميليشيات شعبية في شكل سوفياتات للجنود. وفي هذا الباب كان لبحارة كرونشتاد الدور الأول بما لهم من تجربة ثورية وامتلاكهم لعدد كبير من قطع السلاح المتطورة. وفي غضون شهور قليلة وصلت حركة الانتظام في السوفياتات إلى أهم المدن والأرياف الروسية لتتحول إلى منظمة اجتماعية رهيبة لم تستطع الحكومات المتعاقبة الصمود أمامها فكانت تسقط الواحدة تلو الأخرى، بينما تطورت حركة السوفياتات نحو انتظام وطني شامل تجسد في سوفياتات العمال والبحارة والجنود. وفيما اتجهت جل الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية (البلاشفة، المناشفة، الاشتراكيين الثوريين..) إلى انتخابات المجلس التأسيسي والنزاع مع الأحزاب البورجوازية الأخرى حول تشكيل الحكومات المتتالية، فان السوفياتات كانت ترفع شعار "كل السلطة للسوفياتات"، هذا الشعار الذي اعتبرته الأحزاب الاشتراكية في البداية شعارا فوضويا، وكانت تتنازع فيما بينها حول شكل الحكومة، وتعتبر أن الثورة هي ذات طبيعة ديمقراطية بورجوازية، وضرورة انجاز ما يسمى بالانتقال الديمقراطي (أي البرلمانية البورجوازية) قبل المرور إلى الاشتراكية.
وهكذا اتضح الفارق في الأهداف التاريخية بين حركة السوفياتات التي لم تكن تستهدف غير إعادة تنظيم الإنتاج الاجتماعي والاستهلاك من خلال الإدارة الذاتية التعاونية لكل أفراد المجتمع، وبين الأحزاب التي كانت تهدف لإعادة بناء الدولة المنهارة تحت ضربات الثورة الاجتماعية، سواء باسم الجمهورية الديمقراطية (المناشفة) أو باسم الجمهورية الاشتراكية (البلاشفة). ففيما كانت الحركة السوفيتية تتطور باتجاه الاستعاضة عن الحكم السياسي للبشر، أي عن الإدارة الدولتية البيروقراطية، بإدارة كومونية تعاونية يباشر فيها كل أفراد المجتمع مساهمتهم في الإدارة الاجتماعية، فان الأحزاب، التي لم تبادر بالثورة ولا بإنشاء السوفياتات، لم يكن لها من هدف سوى الوصول إلى السلطة، أي تعويض السادة القدامى بسادة جدد، واستبدال حزب بآخر ووجوه سلطوية بأخرى من أجل الحفاظ في الأخير على الأساسات العامة للنظام الاقتصادي والاجتماعي الرأسمالي.
لكن ما يهمنا إبرازه هو كون حركة السوفياتات لم تكن بأي شكل من الأشكال تستهدف إقامة ديكتاتورية سياسية حزبية باسم العمال. فمفاهيم مثل "ديكتاتورية البروليتاريا" أو "ديكتاتورية العمال والفلاحين" أو "الحكومة الثورية" أو "الدولة السوفياتية"...الخ كانت مفاهيم غريبة عن السوفياتات وطابعها التاريخي. فلا الجمهورية الديمقراطية (النظام السياسي البورجوازي) ولا ديكتاتورية الحزب "الشيوعي" باسم العمال تعبر عن الجوهر التاريخي للسوفياتات. فهذه الأخيرة لم تكن تعبر إلا عما عبرت عنه كمونة باريس، أي الإدارة الذاتية ضد الحكم السياسي، التملك الجماعي لوسائل الإنتاج الاجتماعي وإدارته التعاونية بين كل أفراد المجتمع ضد التملك الفردي/ الطبقي لهذه الوسائل من طرف البورجوازية، توجيه الإنتاج الاجتماعي لتلبية الحاجات الفعلية والمتوازنة لكل أفراد المجتمع ضد توجيه الإنتاج لصالح الربح والمنافسة والمردودية الاقتصادية. فإدارة كمونية تعاونية لا يمكن لها أن تكون ديكتاتورية سياسية لحزب أو مجموعة أحزاب. وتملك جماعي لوسائل الإنتاج لا يمكن له أن يكون ملكية الدولة (القطاع العام). والإدارة الذاتية للإنتاج والتوزيع لا يمكن لها أن تطابق رأسمالية الدولة التي لم تمثل سوى شكل تاريخي من أشكال مراكمة الرأسمال نفسه. فمثلما أسلفنا فالوسيلة التاريخية لا يمكن أن تناقض الهدف التاريخي. فلا يمكن الوصول إلى بناء أسلوب إنتاج اشتراكي كموني من خلال وسائل سلطوية تعيد الروح في جثة الدولة السياسية وأسلوبها الفوقاني في الإدارة. ولا يمكن الوصول إلى إدارة ذاتية بوضع حزب في سدة الحكم بدل حزب آخر. ولا يمكن وضع هدف هو إلغاء حكم البشر لبعضهم البعض، والذي يعبر عن أقصى درجات الاستلاب الاجتماعي، ووضع هذا الحكم السياسي نفسه كوسيلة لبلوغ هذا الهدف. كما لا يمكن رهن مصير الثورة بيد الزعماء والقادة السياسيين ومدى وفائهم للتعاليم المقدسة للماركسية أو أي فلسفة أخرى. فالثورة الاجتماعية هي مبادرة المجتمع نفسه (مجتمع المنتجين الحقيقيين للثروة) بأخذ مصيره بنفسه من خلال الإدارة الذاتية لكل شؤونه الاجتماعية. وبدون ذلك فان الأمر لن يكون سوى إعادة انتاج النظام الاجتماعي القديم بوجوه جديدة وأساليب مستحدثة. أما نقطة الضعف القاتلة بالنسبة لحركة السوفياتات فتمثلت في هيمنة الطابع الحزبي والنزاعات الحزبية والسياسية والإيديولوجية والعقائدية داخلها على حساب طابعها الاجتماعي. إذ على عكس كمونة باريس التي استطاعت أن توحد كل المجموعات والتيارات العمالية في هدف اجتماعي واحد وتصهر جهودها في بوتقة موحدة، فان الأحزاب التي التحقت بالسوفياتات في روسيا قد حملت معها كل أمراضها، وبدل أن تضع كل طاقاتها في سبيل تطوير هذه الحركة فإنها أغرقتها في المنازعات ومحاولات توظيفها السياسي لصالح هذا الطرف الحزبي أو ذاك. واستعمالها كورقة ضغط لتحسين مواقعها في الحكومات أو في الانتخابات للمجلس التأسيسي، أي في إطار المشروع الديمقراطي الليبرالي البورجوازي. هذا الواقع هو الذي ساهم مساهمة كبيرة في تحويل السوفياتات من منظمة اجتماعية تتطور باتجاه بناء كموني للإدارة الذاتية إلى منظمات تابعة للأحزاب وذيلا لها في صراعاتها من أجل السلطة السياسية. وليس غريبا بعد ذلك أن هذه السوفياتات قد تحولت إلى أجهزة تابعة للدولة وذراعا من أذرع الحزب الحاكم، لتتلاشى وتضمحل نهائيا تاركة مكانها لأعظم الديكتاتوريات الرأسمالية التي قامت باسم العمال والسوفياتات نفسها.
3- ملاحظات حول لجان الأحياء ومجالس حماية الثورة في تونس:
منذ البداية وجب التمييز بين لجان الأحياء ومجالس حماية الثورة التي ظهرت بصفة تلقائية وفي درجة محددة من تطور الموجة الثورية في تونس، وبين ما سمي بالمجلس الوطني لحماية الثورة. فإذا كانت الأولى قد ظهرت بصفتها مبادرة ذاتية لجمهور المنتفضين، فان الثاني لم يمثل سوى جبهة سياسية بين الأحزاب تحت إشراف وتنسيق القيادة النقابية.
وفي الواقع فلجان الأحياء لم تظهر كحالة هجومية، أي كإطار للتنظيم الذاتي لتطوير الانتفاضة، بقدر ما كانت تعبيرا عن حالة دفاعية محضة في مواجهة موجة الترعيب والتخويف التي كانت فبركة تلفزيونية وإعلامية أكثر منها حالة واقعية. ففي الفترة التي شهدت أعظم تفكك للدولة وأجهزتها القمعية، حيث شلت الآلة البوليسية بشكل كبير نتيجة انسحاب الآلاف من الأعوان ورفضهم العودة للعمل، وفي المقابل لم يكن للجيش القوة الكافية لتغطية كل المدن والبلدات والقرى نتيجة ضعفه الهيكلي وعدم تعوده على مجابهة مثل هذه الأوضاع، لم يبق للنظام الذي ارتعدت فرائصه من هذه الهبة الجماهيرية العارمة سوى خلق حالة من الفوضى المتعمدة وتضخيمها عبر أجهزة الدعاية الإعلامية. وذلك من أجل دفع المنتفضين إلى الانطواء على أحيائهم الشعبية وبلداتهم وقراهم الصغيرة وقطع كل إمكانيات التواصل بينهم. وإذا أضفنا لكل هذا التهديد العام بقطع المواد الغذائية سواء نتيجة الاحتكار أو كأسلوب متعمد من الدولة لخلق حالة فزع بين السكان لتركيعهم وبث الإحباط واليأس في صفوفهم. يتضح لنا كيف أن لجان الأحياء لم تأت في سياق تطور للموجة الثورية وتحولها من حالة الفوضى إلى حالة من الانتظام الذاتي، بقدر ما كانت ردة فعل يغلب عليها الطابع السلبي الدفاعي. وهذا ما جعل من جهة هذه اللجان لا تأخذ طابعا اجتماعيا شاملا، حيث اكتفت بمجرد "الحفاظ على الأمن"، وفي أغلب الأحيان فإنها وضعت نفسها في موضع أجهزة البوليس، بل وحتى أنها تماهت مع تلك الأجهزة القمعية وقامت بمحاصرة نفسها بنفسها وغلب عليها الطابع المحلي الضيق، ومن جهة أخرى فان هذه اللجان لم تثبت نفسها كمجالس محلية حقيقية، فلا هي نشأت من خلال تجمعات شعبية، ولا هي بادرت بأخذ طابع جماعي منظم ودائم ولم تفتح لنفسها الفضاءات العامة لتطوير النقاش الجماعي حول أمور التسيير والإدارة والأهداف والخطوات العملية التي يجب القيام بها. وهكذا حكمت هذه اللجان على نفسها منذ البداية بالعجز والشلل والمحدودية التي ستكون لا حقا سببا في تلاشيها وتركها المكان لأجهزة الدولة التي بدأت تستعيد عافيتها شيئا فشيئا، بل أكثر من ذلك فهذه اللجان، نتيجة هذه الطبيعة الدفاعية والسلبية، قد وقفت جنبا إلى جنب مع أجهزة الجيش في مواجهة كل انفلات ثوري حقيقي، إذ وبدل أن تقوم بتنظيم وتأطير عمليات الاستيلاء على المغازات العامة ومخازن الأغذية وتنظيم توزيع المواد الأساسية على السكان ومنع الاحتكار والتهديد بالمجاعة، فإنها إما قد تركت هذه العملية تقع بشكل فوضوي هو أقرب للعمليات الإجرامية منه إلى عملية هجوم منظم، وإما قد أخذت دور حماية الملكية الخاصة للبورجوازيين. وبدل المبادرة بتنظيم الاستلاءات على المنازل الشاغرة خاصة في الأحياء الشعبية الفقيرة وتوزيعها بشكل منظم على العائلات التي كانت في أمس الحاجة إليها، فإنها ساعدت الجيش في طرد المنتفضين الذين بادروا بالاستيلاء على تلك المساكن. كذلك الأمر في المصانع والشركات، حيث قامت لجان لحماية المؤسسات، وتمثل دورها، ليس في المبادرة بإعادة تشغيل تلك المصانع وتشكيل مجالس عمالية لتسييرها، بل في "حمايتها" ومن ثم تسليمها بعد ذلك لأصحابها، بدون حتى أن يفرضوا عليهم إعادة النظر في الوضع البائس لعمالها أو فرض إدماج العاطلين فيها، في أعظم مشهد مأساوي للتقديس الأعمى للملكية الخاصة.
أما المجالس المحلية لحماية الثورة فإنها في الغالب كانت قد ظهرت كتعبير عن عجز لجان الأحياء على تطوير نفسها كشكل من التنظيم الاجتماعي، لكن ليس كتجاوز لمحدودية تلك اللجان وغياب أي نشاط ثوري ضمنها، بل كمحاولات من العناصر الحزبية المختلفة لاكتساح الحركة الجماهيرية وخلق شرعية شعبية للمجلس الوطني لحماية الثورة بما يسمح له بالتفاوض مع الحكومة والرئيس المؤقتين في شروط أفضل تتيح له أن يأخذ مكانا بصفته جزء من السلطة السياسية، وهذا ما تحقق فعلا من خلال إنشاء الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة التي أخذت مكان مجلس النواب ومجلس المستشارين المنحلين. وهذا عموما هو ما جعل تلك المجالس مسرحا للنزاعات الحزبية والمحاصصات والتفاهمات التي تقع أغلبها من وراء الجمهور، بل وان العديد من عناصر الحزب الحاكم المنحل وأصحاب النفوذ ومختلف أشكال الانتهازيين والمتسلقين قد استطاعت اختراق هذه المجالس وحولتها إلى منظمات سلطوية لقضاء المصالح الخاصة وجني الامتيازات والمكاسب الشخصية الأكثر حقارة وأنانية، وفي مرحلة لاحقة أصبح البعض منها مجرد ميليشيات يحركها الحزب الحاكم الجديد وحلفاؤه السياسيين. وبطبيعة الحال، ونتيجة هذا النشوء المشوه لهذه المجالس فانه لم يكن لها إلا أن تتلاشى بمفعول التطاحنات الحزبية والفئوية وحتى الشخصية، وما كان لها أن تتطور باتجاه تنظيم ذاتي ثوري، بل إنها قد تحولت في الغالب إلى أحد مرتكزات الثورة المضادة وتخريب الوعي وتشتيت جهود الجماهير التي انفضت عنها شيئا فشيئا بعد أن تبين عقمها وافتقادها لأي مضمون ثوري فعلي.
هذا الواقع يعطينا فكرة كون إنشاء اللجان والمجالس لا يعبر بالضرورة عن حالة ثورية متقدمة. فالأمر يتعلق دائما بمضمون النشاط الاجتماعي لهذه التنظيمات. لكن نشوء اللجان والمجالس بتلك الطريقة التلقائية المتزامنة في حد ذاته يعطينا أيضا فكرة عن القدرة الخلاقة للجماهير على ابتداع أشكال تنظيمية غير متوقعة، بل إن هذه الأشكال تظهر عادة في غفلة من الأحزاب ومتجاوزة لها.
وإذا كانت عناصر القوة في ظهور اللجان والمجالس تكمن في تلقائيتها وجماهيريتها وتجاوزها لكل أشكال التنظيم السكتارية، بما يجعلها تجتاح المجتمع بسرعة وبطريقة مفاجئة، فان المحدد في تطورها هو قدرتها على المبادرة بالتغيير الاجتماعي وتثبيت نفسها كأشكال قارة للنضال الثوري. فبدون التقدم خطوات نحو أخذ زمام الإدارة والتسيير في كل المجالات الاجتماعية وخاصة منها مجال الإنتاج والتوزيع، وبدون تحول اللجان إلى مجالس شعبية اجتماعية منتخبة وقابلة للعزل والمشاركة الواسعة للجماهير المسحوقة في هذا النشاط الثوري، فان العملية برمتها تكون دائما قابلة للانتكاس، بل وان تلك اللجان نفسها قد تتحول إلى أدوات بيد الثورة المضادة، أو أجهزة دولتية سلطوية جديدة.
أما الشرط الواقعي الحاسم في تطور النشاط الثوري لكل أشكال التنظيم الذاتي التي تبدعها الجماهير فهو درجة نضج الاستقطاب الطبقي داخل هذه التنظيمات ثم انتشارها على المستوى الوطني في مرحلة أولى وعلى المستوى الأممي في مرحلة ثانية. ففرز القوى الاجتماعية المتصارعة، وتعرف الشغيلة وعموم الكادحين على أنفسهم كطبقة موحدة ذات أهداف تاريخية موحدة وبروز تلك الأهداف في مشروع تغيير اجتماعي شامل هو الأساس المادي الذي يمكن من خلاله للجان والمجالس أن تعبر عن حالة ثورية قابلة للتطور.
4- التنظيم الذاتي ومهمات الثوريين:
كما هو واضح من التجارب التاريخية فان التنظيم الذاتي ليس ابتداعا حزبيا ولا هو متعلق بإرادة الأفراد أو المجموعات، وظهوره أو غيابه، كما نجاحه أو فشله، لا يتعلق بوجود أو غياب "طليعة ثورية" أو "حزب قائد" ولا بحقن الجمهور "بنظرية ثورية" أو برنامج معد سلفا يجب على الحركة أن تسير وفقه. فالأمر كله متعلق بتكامل الشروط التاريخية ومن ضمنها تطور ونضج التجربة الثورية للطبقات المسحوقة.
والتنظيم الذاتي هو مشروع تاريخي للتحويل الاجتماعي الشامل، أي أنه يقف في التعارض مع النظام الاقتصادي والاجتماعي السائد، وبالتالي في التصادم المطلق مع الحكم السياسي للبشر، أي في التصادم مع الدولة السياسية وكل أجهزتها القمعية والبيروقراطية. فالتنظيم الذاتي، أي مباشرة المجتمع لإدارة شؤونه بنفسه، يتناقض بالكامل مع الأسلوب السياسي في الإدارة الذي لا يعني سوى احتكار الإدارة الاجتماعية من طرف فئة قليلة العدد من محترفي السياسة وما يسمى بالخبراء والتكنوقراطيين. ولذلك فان مشروع إعادة تنظيم المجتمع على أساس الإدارة الذاتية لا يمكن له أن ينجح إلا في إطار ثورة اجتماعية جذرية ولا يمكن له أن يتعايش سلميا مع الدولة وجنبا إلى جنب مع أجهزتها. لذلك فالوهم ببناء جزر معزولة باسم التسيير الذاتي في ظل شروط ما قبل ثورية، مثلما يطرحه بعض المثقفين، سيكون مصيره الفشل الحتمي، وهذا من جهة لأن الدولة ستواجهه بكل قوة ومن جهة أخرى لأن الآليات الاقتصادية الرأسمالية لا يمكن إيقافها إلا على سطح اجتماعي واسع وشامل ومتضامن.
ومثلما أن الثوريين لا يصنعون الثورة، فإنهم لا يصنعون بأي حال من الأحوال التنظيم الذاتي. فالثورة كما التنظيم الذاتي لا يقبعان في الإرادة أو الأفكار والنظريات بل في الشروط الواقعية للمجتمع. وكل محاولة للقفز على هذه الشروط، هي في الغالب نتيجة اليأس من الحركة الثورية للجماهير، لن يفعل سوى بث التشويش وتحول هؤلاء الثوريين إلى سلطويين وثلة من المغامرين لا أكثر.
أما المساهمة الضرورية للثوريين في الثورة كما في التنظيم الذاتي فإنها تتمثل خاصة في إبراز الأهداف التاريخية العامة للحركة، وفي استخلاص دروس التجارب التاريخية ووصلها بعضها ببعض، والتنبيه من ألأخطاء السابقة وكسر التعتيم الإعلامي وتشويهه للنضالات الجماهيرية وذلك بالتعريف بحقيقة تلك النضالات وإبراز عناصرها التاريخية المشتركة وبث روح التضامن الأممي بين مختلف أقسام الشغيلة والمسحوقين في مواجهة عدوهم المشترك، وهذا يمثل الشرط الحاسم في تحقيق تقدم ملموس لحركتهم.
لكن انجاز كل هذه المهمات يشترط إضافة لتنظيم الثوريين لأنفسهم، ليس كحزب طليعي أو قيادة ثورية مثلما يحلو للسلطويين تعريف أنفسهم، ولا كطائفة منغلقة ذات أهداف خاصة منفصلة عن الأهداف العامة للحركة الثورية الأممية، بل كجزء من الحركة نفسها ومن ضمنها، فانه يشترط خاصة التخلي عن الأوهام التي تخلفها فترات السلم الاجتماعية مثل الليبرالية الديمقراطية والنزعات القومية والوطنية البورجوازية والبرلمانية والمشاركة السياسية...الخ كذلك التخلي عن التقاليد القديمة التي أثبتت عقمها مثل العقائدية والدوغمائية وروح التقديس الأعمى للزعماء والنصوص والتعاليم، واستعادة الروح النقدية وتغذية روح العمل الجماعي والتضامن.
إن نقطة انطلاقنا في بحث المستقبل وآفاقه الممكنة ليست النظريات ولا التأمل الفلسفي الخالص بل الوجود الواقعي التاريخي كما هو متحقق والقابل للبحث التجريبي والنقدي واتجاهاته العامة. والحاجة لبحث المستقبل لا تنبع من الإرادة المتخلصة من شروطها التاريخية، بل هي استجابة للمعضلات الفعلية التي يواجهها البشر في واقعهم الراهن كما تطور الحركة الاحتجاجية ضد النظام الاقتصادي والاجتماعي والسياسي السائد وتطور مطالباتها إلى ما وراء هذا النظام وما توفره من مادة واقعية لتجاوزه. ومن هذا الباب، ومنه فقط، يتجه بحثنا في موضوع التنظيم الذاتي.
وسنحاول في هذا العرض تقديم بعض الدروس التاريخية لأهم تجربتين في التنظيم الذاتي ونعني بذلك الكمونات والسوفياتات. ثم سنعالج بالنقد تجربة اللجان والمجالس التي ظهرت خلال الموجة الثورية الحالية.
1- من دروس الكمونة:
إن أهم درس تقدمه لنا الكمونة هو قيامها بالذات. فبغض النظر عما قامت به، وعن إجراءاتها التي تبدو لنا الآن محدودة، وعن أخطائها القاتلة، فان نشوءها التاريخي في حد ذاته قد مثل إعلانا صريحا عن بداية نشوب الثورة الاجتماعية. أي أن الكمونة قد أبرزت الجوهر التاريخي للثورة باعتبارها ثورة ضد أسلوب الإنتاج الرأسمالي. فلم تكن الكومونة انقلابا سياسيا يستولي بمقتضاه حزب من الأحزاب على السلطة السياسية. ولم تكن تمريرا لجهاز الدولة من يد إلى أخرى عبر انتخابات برلمانية. بل إن الكومونة لم تواجه هذا الشكل الخاص أو ذاك من الدولة البورجوازية (ديمقراطية، ديكتاتورية، ملكية..الخ)، إنما قد واجهت الحكم السياسي للبشر نفسه. فلم يكن هدفها إرساء ليبرالية ديمقراطية ولا ديكتاتورية سياسية باسم العمال، بل كان هدفها العميق هو التغيير الثوري والجذري للنظام الاقتصادي والاجتماعي الرأسمالي ذاته.
واليوم،وإذا أردنا أن نحيي ذاكرة الكمونة فلن يكون ذلك إلا بإعادة إبراز جوهرها التاريخي، إبراز كونها ليست شيئا آخر غير الثورة الاجتماعية ضد نظام عبودية الأجر. وبخلاف ذلك فان البقاء في حدود تمجيدها الأسطوري والتغني الشاعري والرومانسي بمآثرها وبطولاتها لا يعني سوى تحنيطها وتحويلها إلى أيقونة أثرية خرساء.
إن جوهر الكمونة هو ثورة أغلبية المجتمع بكل فئاته وطبقاته المسحوقة من أجل الاستعاضة عن أسلوب الإنتاج القائم على ملكية طبقة قليلة العدد من البورجوازيين لوسائل الإنتاج المادي والروحي للمجتمع واستثمارها من خلال هذه الملكية الطبقية لجهد المنتجين الحقيقيين، بأسلوب جديد قائم على الإدارة التعاونية والجماعية للإنتاج الاجتماعي من خلال الكومونات الاجتماعية في كل المجالات وكل المستويات. وإن الانتصار للكمونة هو بالضبط مواصلة النضال من أجل تحقيق هذا المشروع التاريخي الذي لم تفعل الكومونة سوى أنها وضعته بكامل الوضوح في جدول أعمال الحركة الثورية المعاصرة.
لكن الكمونة لم تكتف بإبراز الجوهر التاريخي للثورة الاجتماعية، بل إنها قد قدمت المادة الواقعية لإنجازه، أو على الأقل فإنها بادرت بتقديم العناصر الأولية للوسائل العملية الممكنة لتجسيده الفعلي.
فالبناء الكوموني يقف على النقيض من الحكم السياسي. إذ الكمونة تعني امتلاك المنتجين (أي المجتمع) لوسائل إنتاجهم الاجتماعية المادية والروحية، وإدارتهم التعاونية المباشرة للإنتاج وكل شؤونهم العامة. فلا تعود وسائل الإنتاج ملكية غريبة عن مجتمع المنتجين، ولا هي سلطة خارجة عن إرادتهم الجماعية، ولا يعود المندوبين المحليين والجهويين والوطنيين ممثلين سياسيين تحال بالكامل في أيديهم شؤون الإدارة والتسيير بل إن انتخابهم مع الحق الدائم في عزلهم في أي وقت ضمن الدوائر المحلية الأضيق لا يعني سوى تكليفهم المباشر بمهام مباشرة تقف عندها صلوحياتهم الاجتماعية، بما يجعلهم، ليس سلطة سياسية معينة من فوق تقرر بالنيابة عن مجموع السكان لتتحول إلى فئة بيروقراطية تقف فوق المجتمع، بل كخادم للمجموعة ومنفذ لقراراتها الجماعية.
والبناء الكموني يتعارض مع الحكم السياسي، أي الدولة السياسية، من حيث كونه بناء يبدأ من الأسفل، إذ على نقيض الديمقراطية الليبرالية حيث ينتخب "الشعب" فئة قليلة العدد يمثلون السلطة السياسية التي تحال لها كل صلاحيات التشريع والتنفيذ والتعيين، فان البناء الكموني يقوم، بطريقة عكسية، حيث تنتخب المجموعات المحلية مجالسها المحلية التي تملك كل صلاحيات التسيير والإدارة المحلية، أما الإدارة العامة فإنها تتشكل من مندوبي المجالس المحلية والجهوية، بما يجعلها مجرد إدارة إشراف وتنسيق وليس سلطة سياسية منفصلة عن المجتمع.
والكمونة إذ تحول الوظائف السياسية والبيروقراطية المربحة إلى وظائف اجتماعية فإنها تعني القضاء على كل الامتيازات في تلك الوظائف. ولعل من أهم الإجراءات التي قامت بها الكمونة هو تحديد دخل كل المسئولين المنتخبين في حدود متوسط دخل العمال والمراقبة الدائمة لأملاكهم. وهذا الإجراء، رغم محدوديته التاريخية البارزة من حيث أنه يحافظ على نظام التراتبية غير المبرر في الدخل، فانه مثل نقطة انطلاق عظيمة في ضرب المؤسسة البيروقراطية للدولة والقضاء على أساس وجودها المادي، ذلك أن بيروقراطية الدولة إنما تقوم أساسا على نظام الامتيازات المباشرة وغير المباشرة، واستغلال الوظائف الإدارية لجني المكاسب على حساب المجتمع.
كما أن الكمونة نظمت عملية الاستيلاء الجماعي على المصانع وكل مؤسسات الإنتاج التي هجرها أصحابها، وقدمت لعمالها كل الوسائل لإعادة إدارتها وتسييرها من خلال مجالس عمالية منتخبة من العمال أنفسهم. كما أنها قامت بكل ما تيسر لها في ذلك الظرف الوجيز والصعب من توجيه الإنتاج لصالح الاحتياجات العامة لتطور الثورة، أي لصالح المجتمع وليس الربح والمنافسة. وفي هذا الباب، ورغم محدودية هذه العملية والأخطاء والتردد وطابع تقديس الملكية الخاصة الذي ظل يخيم على رأس الكمونة، فان هذه الأخيرة قد قدمت الدرس العملي المهم، والنموذج الواقعي في بناء أسلوب انتاج اجتماعي جديد يقوم على تحويل ملكية وسائل الإنتاج إلى ملكية اجتماعية بالفعل، أي الإدارة التعاونية للإنتاج وتوجيهه لتلبية الحاجات الفعلية لكل أفراد المجتمع.
كما أن الكمونة قامت بحل كل أجهزة القمع وعوضتها بميليشيات شعبية تقوم على التجنيد الاختياري وقضت على كل التراتبية العسكرية، وأقرت مبدأ الانتخاب المباشر مع الحق في العزل للمسئولين العسكريين والأمنيين. وبغض النظر عن الأخطاء والنقائص وعن النزعة الدفاعية التي كلفتها غاليا فيما بعد، فان هذه المبادرة التاريخية في بناء اجتماعي جديد، والتخلص من أهم مرتكزات الدولة السياسية (البوليس والجيش الدائمين)، قد نحتت في الذاكرة الثورية درسا عمليا مهما ستتلقفه كل الأجيال الثورية اللاحقة.
ولقد رفعت الكمونة لواء الأممية بلا أدنى لبس، ليس كشعار أجوف، بل بشكل عملي، حيث أن الآلاف من العمال الأجانب كانوا قد شاركوا في هذه الثورة. بل وأن العديد من المناضلين الأمميين كانوا قد أخذوا مواقع متقدمة في الكمونة. كما أن هذه الأخيرة، وبشكل رمزي قد أحرقت مسلة النصر في ميدان فاندوم رمز التعصب القومي. وبعثت برسائل التآخي مع الجنود البروسيين الذين كانوا يحاصرون باريس وكثفت الدعاية الأممية في أوساطهم، وكان ذلك عاملا حاسما في وقف الحرب البورجوازية طيلة عهد الكمونة الوجيز. وهذا الأمر في حد ذاته، وبكل محدوديته التاريخية، يعطينا فكرة عن الطابع الكموني المعادي لكل النزعات الوطنية البورجوازية، إذ الكمونة هي بالأساس رفض الشغيلة وعموم ضحايا النظام الرأسمالي مواصلة الحرب بين البورجوازيات تحت شعار "الدفاع عن الوطن". وموضوع الكمونة لم يكن أبدا نزاع الوطن ضد القوميات والأمم والشعوب الأخرى بل النزاع حول طبيعة الحياة الاجتماعية ضمن هذا الوطن بالذات، أي أن الكمونة لم تكن لحماية باريس من بروسيا بل لحماية باريس من بورجوازيتها "الوطنية" التي تريد جرها إلى محرقة الحرب الرأسمالية. وليس غريبا أن حركة الكمونة وحركة السوفياتات بعدها هما الوحيدتان اللتان استطاعتا وقف كارثة الحرب البورجوازية. وهذا الدرس التاريخي المهم يبين لنا أن النضال ضد الحرب والنزعة العسكرية لا يكون بتغذية النعرات القومية والوطنية، أو برفع شعارات "حق الشعوب في تقرير مصيرها"، أو بما يسمى النضال الوطني ضد الامبريالية والصهيونية...الخ، بل إن مواجهة الحرب البورجوازية لا يكون إلا بالثورة الاجتماعية، ثورة الكمونة ضد النظام الرأسمالي وضد البورجوازية الوطنية بالتحديد.
لكن الكمونة ما كان لها أن تنتصر، ولو ظرفيا، بدون مبادرة تنظيم جمهور الشغيلة وعموم المسحوقين لنضالاتهم في إطار تنظيم ذاتي كموني مسبق. فالكمونة، كشكل من أشكال التنظيم الذاتي، لم تظهر كنتيجة للثورة الاجتماعية إلا لكونها مثلت أيضا الوسيلة الثورية لتنظيم النضالات وتطويرها. وهكذا فالهدف التاريخي كان قد حدد وسيلته التاريخية. وهذا أمر منطقي وواقعي، إذ لا يمكن الوصول إلى هدف هو الإدارة التعاونية الجماعية المتضامنة للحياة الاجتماعية بوسائل تناقض هذا الهدف. فقوة الكمونة كانت في انصهار كل تياراتها ومجموعاتها وفصائلها الثورية في بوتقة كمونية واحدة. إذ برغم وجود جماعات سياسية مختلفة المشارب والعقائد والإيديولوجيات، فان الكمونة لم تخضع لمحاصصات سياسية، ولم تبن نفسها على أساس تقاسم "سلطة" فوقي بين تلك الأحزاب والمجموعات، بل إن الأساس الذي قامت عليه هو أساس اجتماعي. وهذا الأمر يناقض كل أطروحات الماركسيين الذين يعتبرون أن نقطة ضعف الكمونة هي في غياب الحزب الطليعي. ونحن نعلم اليوم ما قادت إليه نزعتهم السلطوية تلك في ثورة السوفياتات فيما بعد، وتحويلها الثورة الاجتماعية إلى انقلاب سياسي لم ينتج غير ديكتاتورية دموية أسهمت أيما إسهام في إحباط الشغيلة وتشويه الاشتراكية الكمونية.
لم تنهزم الكمونة لغياب حزب طليعي يقودها. فالكمونة انهزمت فقط لعدم اندلاعها الأممي المتضامن. لأن الشغيلة في العالم لم تكن جاهزة للاستجابة لندائها. وهذا ما سمح للبورجوازية العالمية بمحاصرتها وإغراقها في الدم. لكن الكمونة ستكون أطول عمرا من جزاريها، لأنها ستظهر مرات ومرات على امتداد الثورات الاجتماعية التي عرفها القرن العشرين. وحتى إن خمد صوتها لبعض العقود، فان العودة الراهنة للموجة الثورية ضد نظام رأس المال تبعث آمالا قوية في عودة الصوت الكموني من جديد ولو بأسماء وعناوين ويافطات جديدة، وخاصة بتراث ثوري زاخر بالتجارب والمبادرات والدروس يسمح للشغيلة بتخطي العتبات التي عجزت الكمونة على تجاوزها.
2- من دروس السوفياتات:
بمثل ما أن الشروط التاريخية التي أنتجت الثورة الديمقراطية البورجوازية في روسيا سنة 1825 (ما عرف بثورة الديسمبريين) هي ذاتها الشروط التاريخية التي كانت قد أنتجت الثورة الديمقراطية البورجوازية الفرنسية سنة 1789. فان الشروط التاريخية لاندلاع ثورة السوفياتات في روسيا سنة 1905 ثم سنة 1917 هي ذاتها الشروط التاريخية لاندلاع ثورة الكمونة في باريس سنة 1871. فالتطور الصناعي والتجاري في كل من أوروبا وروسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وظهور المراكز الصناعية الكبيرة التي تضم عشرات الآلاف من العمال الصناعيين، وتحول الإنتاج الفردي الخاص والمنعزل إلى انتاج اجتماعي يديره العمال بشكل تعاوني، العمال الذين حررتهم الثورة البورجوازية من أية ملكية خاصة سوى ملكيتهم لقوة عملهم وتجميع كل شروط الإنتاج في يد طبقة بورجوازية تدير سلطتها من خلال الدولة بمختلف أشكالها السياسية (جمهورية، ملكية..الخ)، كذلك بروز النوبات الدورية للازمات والاختلالات ودفع الجمهور الواسع من المنتجين إلى وضع البؤس وجرهم لحروب تقاسم النفوذ بين رؤوس الأموال الوطنية. كل هذا الواقع التاريخي الجديد مثل الأساس المادي لظهور موجات متعاقبة من الانتفاضات والحركات الاحتجاجية العارمة من بريطانيا إلى فرنسا إلى ألمانيا وروسيا. ولقد أشرت تلك الانتفاضات لدخول العالم إلى مرحلة جديدة من الثورات، حيث تركت المطالبات السياسية الديمقراطية الليبرالية البورجوازية مكانها لمطالبات اجتماعية عمالية ذات طابع تاريخي جديد. فإذا كان الأفق التاريخي الذي وضعته الثورات البورجوازية أمام الأقنان والفلاحين يتمثل في تحررهم من شروط إنتاجهم المادية، أي تحولهم إلى قوة عمل متحررة من كل ملكية خاصة في مواجهة شروط الإنتاج التي تحولت إلى رأسمال اجتماعي في يد طبقة خاصة هي البورجوازية، فان الأفق التاريخي الذي أصبحت تضعه الثورات الاجتماعية الجديدة أمام العمال يتمثل في إلغاء كل ملكية خاصة/طبقية لشروط الإنتاج الاجتماعي، بما أن هذا الأخير قد أصبح عمليا يدار بشكل تعاوني جماعي، ولم تعد هناك خطوة ثورية ممكنة سوى مطابقة طابع الملكية الطبقي مع طابع الإنتاج التعاوني، أي تحويل الملكية البورجوازية إلى ملكية اجتماعية. وهو ما يستدعي الانتقال من الإدارة السياسية، أي الإدارة الفوقانية، إلى إدارة ذاتية تعاونية. وهذا بالضبط المعنى التاريخي الذي عبرت عنه الكمونة بكل وضوح. وهو ما ستعود لإعلانه من جديد وبأكثر قوة ثورة السوفياتات.
وعلى عكس الأسطورة الماركسية اللينينية حول روسيا الإقطاعية في ذلك العهد، فان موسكو وبطرسبرغ خاصة قد مثلتا في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مركزين صناعيين عالميين، حيث ضمت بعض أقطابها الصناعية عشرات الآلاف من العمال في قطاعات المعادن والصناعات الحربية وصناعة السفن ومد السكك الحديدية...الخ. كما شهدت الصناعات الاستخراجية قفزة عملاقة بتأثير الطلب الخارجي، وهو ما جعل روسيا تدخل بشكل حاسم في السوق العالمية والنزاعات العسكرية مع أقطاب الرأسمالية الأخرى. ولم تكن ثورة 1905 حدثا عرضيا، إذ أن البروليتاريا الروسية قد عبرت عن نشاط ثوري متميز من خلال الإضرابات والانتفاضات المتتالية طيلة سنوات راكمت خلالها التجارب وتمرست على تنظيم نضالاتها ضد سلطة الرأسمال ودولته القيصرية. وفي هذه الثورة بالذات ظهرت السوفياتات أول مرة كإعلان صريح على أن العمال لا يستهدفون بناء "جمهورية ديمقراطية" مثلما كانت تحلم به الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية، بل يستهدفون الاستعاضة عن الحكم السياسي نفسه بإدارة ذاتية تعاونية للإنتاج والتوزيع.
ولئن استطاعت دولة القيصر إغراق الثورة في الدماء، لتلتف عليها فيما يعد عبر إنشاء برلمان (الدوما) رجعي شاركت فيه أغلب الأحزاب، فان هذه السوفياتات ما فتئت أن عادت للظهور من جديد في ثورة مارس 1917.
فماذا كانت هذه السوفياتات وما كان مغزاها التاريخي؟
لقد خلفت الحرب التي كانت تخوضها الدولة الروسية وهزيمتها العسكرية وضعا اجتماعيا واقتصاديا كارثيا دفع العمال والفلاحين والبحارة والجنود إلى ثورة عارمة. فبعد موجة اضرابية واسعة ساهمت في شل الاقتصاد البورجوازي، بدأت المواجهات المباشرة بين الجماهير المنتفضة وأجهزة القمع. ولقد مثلت الحادثة الشهيرة في بطرسبرغ، حيث رفضت كتيبة عسكرية إطلاق النار على المتظاهرين ووجهت سلاحها ضد قوات الحرس، مؤشرا على بداية تفكك أجهزة الدولة وانطلاق أعظم الثورات في التاريخ المعاصر.
ولم يتأخر العمال كثيرا في إنشاء مجالس عمالية للإدارة الذاتية للمصانع والشركات التي تركها أصحابها خوفا من الانتقام الشعبي. كما تم إنشاء تعاونيات استهلاكية تقوم بإدارة توزيع المواد الاستهلاكية. وفي الريف بادر الفلاحون والعمال الزراعيين بتنظيم استيلاءات جماعية على أراضي الملاكين العقاريين الكبار لينظموا أنفسهم في إطار تعاونيات فلاحية لإدارة الإنتاج الزراعي. ولقد ساهم وجود آلاف الجنود المسلحين الذين تركوا جبهات القتال في الحدود رافضين مواصلة الحرب البورجوازية والتحاقهم بالمدن خاصة في موسكو وبطرسبرغ، ساهم ذلك في إنشاء ميليشيات شعبية في شكل سوفياتات للجنود. وفي هذا الباب كان لبحارة كرونشتاد الدور الأول بما لهم من تجربة ثورية وامتلاكهم لعدد كبير من قطع السلاح المتطورة. وفي غضون شهور قليلة وصلت حركة الانتظام في السوفياتات إلى أهم المدن والأرياف الروسية لتتحول إلى منظمة اجتماعية رهيبة لم تستطع الحكومات المتعاقبة الصمود أمامها فكانت تسقط الواحدة تلو الأخرى، بينما تطورت حركة السوفياتات نحو انتظام وطني شامل تجسد في سوفياتات العمال والبحارة والجنود. وفيما اتجهت جل الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية (البلاشفة، المناشفة، الاشتراكيين الثوريين..) إلى انتخابات المجلس التأسيسي والنزاع مع الأحزاب البورجوازية الأخرى حول تشكيل الحكومات المتتالية، فان السوفياتات كانت ترفع شعار "كل السلطة للسوفياتات"، هذا الشعار الذي اعتبرته الأحزاب الاشتراكية في البداية شعارا فوضويا، وكانت تتنازع فيما بينها حول شكل الحكومة، وتعتبر أن الثورة هي ذات طبيعة ديمقراطية بورجوازية، وضرورة انجاز ما يسمى بالانتقال الديمقراطي (أي البرلمانية البورجوازية) قبل المرور إلى الاشتراكية.
وهكذا اتضح الفارق في الأهداف التاريخية بين حركة السوفياتات التي لم تكن تستهدف غير إعادة تنظيم الإنتاج الاجتماعي والاستهلاك من خلال الإدارة الذاتية التعاونية لكل أفراد المجتمع، وبين الأحزاب التي كانت تهدف لإعادة بناء الدولة المنهارة تحت ضربات الثورة الاجتماعية، سواء باسم الجمهورية الديمقراطية (المناشفة) أو باسم الجمهورية الاشتراكية (البلاشفة). ففيما كانت الحركة السوفيتية تتطور باتجاه الاستعاضة عن الحكم السياسي للبشر، أي عن الإدارة الدولتية البيروقراطية، بإدارة كومونية تعاونية يباشر فيها كل أفراد المجتمع مساهمتهم في الإدارة الاجتماعية، فان الأحزاب، التي لم تبادر بالثورة ولا بإنشاء السوفياتات، لم يكن لها من هدف سوى الوصول إلى السلطة، أي تعويض السادة القدامى بسادة جدد، واستبدال حزب بآخر ووجوه سلطوية بأخرى من أجل الحفاظ في الأخير على الأساسات العامة للنظام الاقتصادي والاجتماعي الرأسمالي.
لكن ما يهمنا إبرازه هو كون حركة السوفياتات لم تكن بأي شكل من الأشكال تستهدف إقامة ديكتاتورية سياسية حزبية باسم العمال. فمفاهيم مثل "ديكتاتورية البروليتاريا" أو "ديكتاتورية العمال والفلاحين" أو "الحكومة الثورية" أو "الدولة السوفياتية"...الخ كانت مفاهيم غريبة عن السوفياتات وطابعها التاريخي. فلا الجمهورية الديمقراطية (النظام السياسي البورجوازي) ولا ديكتاتورية الحزب "الشيوعي" باسم العمال تعبر عن الجوهر التاريخي للسوفياتات. فهذه الأخيرة لم تكن تعبر إلا عما عبرت عنه كمونة باريس، أي الإدارة الذاتية ضد الحكم السياسي، التملك الجماعي لوسائل الإنتاج الاجتماعي وإدارته التعاونية بين كل أفراد المجتمع ضد التملك الفردي/ الطبقي لهذه الوسائل من طرف البورجوازية، توجيه الإنتاج الاجتماعي لتلبية الحاجات الفعلية والمتوازنة لكل أفراد المجتمع ضد توجيه الإنتاج لصالح الربح والمنافسة والمردودية الاقتصادية. فإدارة كمونية تعاونية لا يمكن لها أن تكون ديكتاتورية سياسية لحزب أو مجموعة أحزاب. وتملك جماعي لوسائل الإنتاج لا يمكن له أن يكون ملكية الدولة (القطاع العام). والإدارة الذاتية للإنتاج والتوزيع لا يمكن لها أن تطابق رأسمالية الدولة التي لم تمثل سوى شكل تاريخي من أشكال مراكمة الرأسمال نفسه. فمثلما أسلفنا فالوسيلة التاريخية لا يمكن أن تناقض الهدف التاريخي. فلا يمكن الوصول إلى بناء أسلوب إنتاج اشتراكي كموني من خلال وسائل سلطوية تعيد الروح في جثة الدولة السياسية وأسلوبها الفوقاني في الإدارة. ولا يمكن الوصول إلى إدارة ذاتية بوضع حزب في سدة الحكم بدل حزب آخر. ولا يمكن وضع هدف هو إلغاء حكم البشر لبعضهم البعض، والذي يعبر عن أقصى درجات الاستلاب الاجتماعي، ووضع هذا الحكم السياسي نفسه كوسيلة لبلوغ هذا الهدف. كما لا يمكن رهن مصير الثورة بيد الزعماء والقادة السياسيين ومدى وفائهم للتعاليم المقدسة للماركسية أو أي فلسفة أخرى. فالثورة الاجتماعية هي مبادرة المجتمع نفسه (مجتمع المنتجين الحقيقيين للثروة) بأخذ مصيره بنفسه من خلال الإدارة الذاتية لكل شؤونه الاجتماعية. وبدون ذلك فان الأمر لن يكون سوى إعادة انتاج النظام الاجتماعي القديم بوجوه جديدة وأساليب مستحدثة. أما نقطة الضعف القاتلة بالنسبة لحركة السوفياتات فتمثلت في هيمنة الطابع الحزبي والنزاعات الحزبية والسياسية والإيديولوجية والعقائدية داخلها على حساب طابعها الاجتماعي. إذ على عكس كمونة باريس التي استطاعت أن توحد كل المجموعات والتيارات العمالية في هدف اجتماعي واحد وتصهر جهودها في بوتقة موحدة، فان الأحزاب التي التحقت بالسوفياتات في روسيا قد حملت معها كل أمراضها، وبدل أن تضع كل طاقاتها في سبيل تطوير هذه الحركة فإنها أغرقتها في المنازعات ومحاولات توظيفها السياسي لصالح هذا الطرف الحزبي أو ذاك. واستعمالها كورقة ضغط لتحسين مواقعها في الحكومات أو في الانتخابات للمجلس التأسيسي، أي في إطار المشروع الديمقراطي الليبرالي البورجوازي. هذا الواقع هو الذي ساهم مساهمة كبيرة في تحويل السوفياتات من منظمة اجتماعية تتطور باتجاه بناء كموني للإدارة الذاتية إلى منظمات تابعة للأحزاب وذيلا لها في صراعاتها من أجل السلطة السياسية. وليس غريبا بعد ذلك أن هذه السوفياتات قد تحولت إلى أجهزة تابعة للدولة وذراعا من أذرع الحزب الحاكم، لتتلاشى وتضمحل نهائيا تاركة مكانها لأعظم الديكتاتوريات الرأسمالية التي قامت باسم العمال والسوفياتات نفسها.
3- ملاحظات حول لجان الأحياء ومجالس حماية الثورة في تونس:
منذ البداية وجب التمييز بين لجان الأحياء ومجالس حماية الثورة التي ظهرت بصفة تلقائية وفي درجة محددة من تطور الموجة الثورية في تونس، وبين ما سمي بالمجلس الوطني لحماية الثورة. فإذا كانت الأولى قد ظهرت بصفتها مبادرة ذاتية لجمهور المنتفضين، فان الثاني لم يمثل سوى جبهة سياسية بين الأحزاب تحت إشراف وتنسيق القيادة النقابية.
وفي الواقع فلجان الأحياء لم تظهر كحالة هجومية، أي كإطار للتنظيم الذاتي لتطوير الانتفاضة، بقدر ما كانت تعبيرا عن حالة دفاعية محضة في مواجهة موجة الترعيب والتخويف التي كانت فبركة تلفزيونية وإعلامية أكثر منها حالة واقعية. ففي الفترة التي شهدت أعظم تفكك للدولة وأجهزتها القمعية، حيث شلت الآلة البوليسية بشكل كبير نتيجة انسحاب الآلاف من الأعوان ورفضهم العودة للعمل، وفي المقابل لم يكن للجيش القوة الكافية لتغطية كل المدن والبلدات والقرى نتيجة ضعفه الهيكلي وعدم تعوده على مجابهة مثل هذه الأوضاع، لم يبق للنظام الذي ارتعدت فرائصه من هذه الهبة الجماهيرية العارمة سوى خلق حالة من الفوضى المتعمدة وتضخيمها عبر أجهزة الدعاية الإعلامية. وذلك من أجل دفع المنتفضين إلى الانطواء على أحيائهم الشعبية وبلداتهم وقراهم الصغيرة وقطع كل إمكانيات التواصل بينهم. وإذا أضفنا لكل هذا التهديد العام بقطع المواد الغذائية سواء نتيجة الاحتكار أو كأسلوب متعمد من الدولة لخلق حالة فزع بين السكان لتركيعهم وبث الإحباط واليأس في صفوفهم. يتضح لنا كيف أن لجان الأحياء لم تأت في سياق تطور للموجة الثورية وتحولها من حالة الفوضى إلى حالة من الانتظام الذاتي، بقدر ما كانت ردة فعل يغلب عليها الطابع السلبي الدفاعي. وهذا ما جعل من جهة هذه اللجان لا تأخذ طابعا اجتماعيا شاملا، حيث اكتفت بمجرد "الحفاظ على الأمن"، وفي أغلب الأحيان فإنها وضعت نفسها في موضع أجهزة البوليس، بل وحتى أنها تماهت مع تلك الأجهزة القمعية وقامت بمحاصرة نفسها بنفسها وغلب عليها الطابع المحلي الضيق، ومن جهة أخرى فان هذه اللجان لم تثبت نفسها كمجالس محلية حقيقية، فلا هي نشأت من خلال تجمعات شعبية، ولا هي بادرت بأخذ طابع جماعي منظم ودائم ولم تفتح لنفسها الفضاءات العامة لتطوير النقاش الجماعي حول أمور التسيير والإدارة والأهداف والخطوات العملية التي يجب القيام بها. وهكذا حكمت هذه اللجان على نفسها منذ البداية بالعجز والشلل والمحدودية التي ستكون لا حقا سببا في تلاشيها وتركها المكان لأجهزة الدولة التي بدأت تستعيد عافيتها شيئا فشيئا، بل أكثر من ذلك فهذه اللجان، نتيجة هذه الطبيعة الدفاعية والسلبية، قد وقفت جنبا إلى جنب مع أجهزة الجيش في مواجهة كل انفلات ثوري حقيقي، إذ وبدل أن تقوم بتنظيم وتأطير عمليات الاستيلاء على المغازات العامة ومخازن الأغذية وتنظيم توزيع المواد الأساسية على السكان ومنع الاحتكار والتهديد بالمجاعة، فإنها إما قد تركت هذه العملية تقع بشكل فوضوي هو أقرب للعمليات الإجرامية منه إلى عملية هجوم منظم، وإما قد أخذت دور حماية الملكية الخاصة للبورجوازيين. وبدل المبادرة بتنظيم الاستلاءات على المنازل الشاغرة خاصة في الأحياء الشعبية الفقيرة وتوزيعها بشكل منظم على العائلات التي كانت في أمس الحاجة إليها، فإنها ساعدت الجيش في طرد المنتفضين الذين بادروا بالاستيلاء على تلك المساكن. كذلك الأمر في المصانع والشركات، حيث قامت لجان لحماية المؤسسات، وتمثل دورها، ليس في المبادرة بإعادة تشغيل تلك المصانع وتشكيل مجالس عمالية لتسييرها، بل في "حمايتها" ومن ثم تسليمها بعد ذلك لأصحابها، بدون حتى أن يفرضوا عليهم إعادة النظر في الوضع البائس لعمالها أو فرض إدماج العاطلين فيها، في أعظم مشهد مأساوي للتقديس الأعمى للملكية الخاصة.
أما المجالس المحلية لحماية الثورة فإنها في الغالب كانت قد ظهرت كتعبير عن عجز لجان الأحياء على تطوير نفسها كشكل من التنظيم الاجتماعي، لكن ليس كتجاوز لمحدودية تلك اللجان وغياب أي نشاط ثوري ضمنها، بل كمحاولات من العناصر الحزبية المختلفة لاكتساح الحركة الجماهيرية وخلق شرعية شعبية للمجلس الوطني لحماية الثورة بما يسمح له بالتفاوض مع الحكومة والرئيس المؤقتين في شروط أفضل تتيح له أن يأخذ مكانا بصفته جزء من السلطة السياسية، وهذا ما تحقق فعلا من خلال إنشاء الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة التي أخذت مكان مجلس النواب ومجلس المستشارين المنحلين. وهذا عموما هو ما جعل تلك المجالس مسرحا للنزاعات الحزبية والمحاصصات والتفاهمات التي تقع أغلبها من وراء الجمهور، بل وان العديد من عناصر الحزب الحاكم المنحل وأصحاب النفوذ ومختلف أشكال الانتهازيين والمتسلقين قد استطاعت اختراق هذه المجالس وحولتها إلى منظمات سلطوية لقضاء المصالح الخاصة وجني الامتيازات والمكاسب الشخصية الأكثر حقارة وأنانية، وفي مرحلة لاحقة أصبح البعض منها مجرد ميليشيات يحركها الحزب الحاكم الجديد وحلفاؤه السياسيين. وبطبيعة الحال، ونتيجة هذا النشوء المشوه لهذه المجالس فانه لم يكن لها إلا أن تتلاشى بمفعول التطاحنات الحزبية والفئوية وحتى الشخصية، وما كان لها أن تتطور باتجاه تنظيم ذاتي ثوري، بل إنها قد تحولت في الغالب إلى أحد مرتكزات الثورة المضادة وتخريب الوعي وتشتيت جهود الجماهير التي انفضت عنها شيئا فشيئا بعد أن تبين عقمها وافتقادها لأي مضمون ثوري فعلي.
هذا الواقع يعطينا فكرة كون إنشاء اللجان والمجالس لا يعبر بالضرورة عن حالة ثورية متقدمة. فالأمر يتعلق دائما بمضمون النشاط الاجتماعي لهذه التنظيمات. لكن نشوء اللجان والمجالس بتلك الطريقة التلقائية المتزامنة في حد ذاته يعطينا أيضا فكرة عن القدرة الخلاقة للجماهير على ابتداع أشكال تنظيمية غير متوقعة، بل إن هذه الأشكال تظهر عادة في غفلة من الأحزاب ومتجاوزة لها.
وإذا كانت عناصر القوة في ظهور اللجان والمجالس تكمن في تلقائيتها وجماهيريتها وتجاوزها لكل أشكال التنظيم السكتارية، بما يجعلها تجتاح المجتمع بسرعة وبطريقة مفاجئة، فان المحدد في تطورها هو قدرتها على المبادرة بالتغيير الاجتماعي وتثبيت نفسها كأشكال قارة للنضال الثوري. فبدون التقدم خطوات نحو أخذ زمام الإدارة والتسيير في كل المجالات الاجتماعية وخاصة منها مجال الإنتاج والتوزيع، وبدون تحول اللجان إلى مجالس شعبية اجتماعية منتخبة وقابلة للعزل والمشاركة الواسعة للجماهير المسحوقة في هذا النشاط الثوري، فان العملية برمتها تكون دائما قابلة للانتكاس، بل وان تلك اللجان نفسها قد تتحول إلى أدوات بيد الثورة المضادة، أو أجهزة دولتية سلطوية جديدة.
أما الشرط الواقعي الحاسم في تطور النشاط الثوري لكل أشكال التنظيم الذاتي التي تبدعها الجماهير فهو درجة نضج الاستقطاب الطبقي داخل هذه التنظيمات ثم انتشارها على المستوى الوطني في مرحلة أولى وعلى المستوى الأممي في مرحلة ثانية. ففرز القوى الاجتماعية المتصارعة، وتعرف الشغيلة وعموم الكادحين على أنفسهم كطبقة موحدة ذات أهداف تاريخية موحدة وبروز تلك الأهداف في مشروع تغيير اجتماعي شامل هو الأساس المادي الذي يمكن من خلاله للجان والمجالس أن تعبر عن حالة ثورية قابلة للتطور.
4- التنظيم الذاتي ومهمات الثوريين:
كما هو واضح من التجارب التاريخية فان التنظيم الذاتي ليس ابتداعا حزبيا ولا هو متعلق بإرادة الأفراد أو المجموعات، وظهوره أو غيابه، كما نجاحه أو فشله، لا يتعلق بوجود أو غياب "طليعة ثورية" أو "حزب قائد" ولا بحقن الجمهور "بنظرية ثورية" أو برنامج معد سلفا يجب على الحركة أن تسير وفقه. فالأمر كله متعلق بتكامل الشروط التاريخية ومن ضمنها تطور ونضج التجربة الثورية للطبقات المسحوقة.
والتنظيم الذاتي هو مشروع تاريخي للتحويل الاجتماعي الشامل، أي أنه يقف في التعارض مع النظام الاقتصادي والاجتماعي السائد، وبالتالي في التصادم المطلق مع الحكم السياسي للبشر، أي في التصادم مع الدولة السياسية وكل أجهزتها القمعية والبيروقراطية. فالتنظيم الذاتي، أي مباشرة المجتمع لإدارة شؤونه بنفسه، يتناقض بالكامل مع الأسلوب السياسي في الإدارة الذي لا يعني سوى احتكار الإدارة الاجتماعية من طرف فئة قليلة العدد من محترفي السياسة وما يسمى بالخبراء والتكنوقراطيين. ولذلك فان مشروع إعادة تنظيم المجتمع على أساس الإدارة الذاتية لا يمكن له أن ينجح إلا في إطار ثورة اجتماعية جذرية ولا يمكن له أن يتعايش سلميا مع الدولة وجنبا إلى جنب مع أجهزتها. لذلك فالوهم ببناء جزر معزولة باسم التسيير الذاتي في ظل شروط ما قبل ثورية، مثلما يطرحه بعض المثقفين، سيكون مصيره الفشل الحتمي، وهذا من جهة لأن الدولة ستواجهه بكل قوة ومن جهة أخرى لأن الآليات الاقتصادية الرأسمالية لا يمكن إيقافها إلا على سطح اجتماعي واسع وشامل ومتضامن.
ومثلما أن الثوريين لا يصنعون الثورة، فإنهم لا يصنعون بأي حال من الأحوال التنظيم الذاتي. فالثورة كما التنظيم الذاتي لا يقبعان في الإرادة أو الأفكار والنظريات بل في الشروط الواقعية للمجتمع. وكل محاولة للقفز على هذه الشروط، هي في الغالب نتيجة اليأس من الحركة الثورية للجماهير، لن يفعل سوى بث التشويش وتحول هؤلاء الثوريين إلى سلطويين وثلة من المغامرين لا أكثر.
أما المساهمة الضرورية للثوريين في الثورة كما في التنظيم الذاتي فإنها تتمثل خاصة في إبراز الأهداف التاريخية العامة للحركة، وفي استخلاص دروس التجارب التاريخية ووصلها بعضها ببعض، والتنبيه من ألأخطاء السابقة وكسر التعتيم الإعلامي وتشويهه للنضالات الجماهيرية وذلك بالتعريف بحقيقة تلك النضالات وإبراز عناصرها التاريخية المشتركة وبث روح التضامن الأممي بين مختلف أقسام الشغيلة والمسحوقين في مواجهة عدوهم المشترك، وهذا يمثل الشرط الحاسم في تحقيق تقدم ملموس لحركتهم.
لكن انجاز كل هذه المهمات يشترط إضافة لتنظيم الثوريين لأنفسهم، ليس كحزب طليعي أو قيادة ثورية مثلما يحلو للسلطويين تعريف أنفسهم، ولا كطائفة منغلقة ذات أهداف خاصة منفصلة عن الأهداف العامة للحركة الثورية الأممية، بل كجزء من الحركة نفسها ومن ضمنها، فانه يشترط خاصة التخلي عن الأوهام التي تخلفها فترات السلم الاجتماعية مثل الليبرالية الديمقراطية والنزعات القومية والوطنية البورجوازية والبرلمانية والمشاركة السياسية...الخ كذلك التخلي عن التقاليد القديمة التي أثبتت عقمها مثل العقائدية والدوغمائية وروح التقديس الأعمى للزعماء والنصوص والتعاليم، واستعادة الروح النقدية وتغذية روح العمل الجماعي والتضامن.