أيوب ايوب
ayoub.ayoub83@yahoo.fr
الحوار المتمدن - العدد: 2688 - 2009 / 6 / 25
وما هي أخطاء الماضي، وكيف السبيل إلى تجاوزها؟
نزعة ضد-الإمبريالية خنجر في خاصرة البروليتاريا:
لقد مثلت انتفاضة البروليتاريا الإيرانية التي انطلقت بشكل حاسم منذ خريف 1978أهم وأعظم الانتفاضات العمالية التي شهدتها المنطقة، فلقد عمت موجة من المظاهرات والمصادمات أهم المدن الإيرانية، كذلك قام العمال بإنشاء تنظيماتهم الطبقية المتمثلة في مجالس الشورى في المصانع، وشل الإضراب العام كامل البلاد في أكتوبر 1978 بما جعل رئيس الحكومة شابور باختيار، وفي محاولة يائسة لإنقاذ النظام، يجبر الشاه على الهروب بشكل مذل، وإعلان استعداده إلى تنظيم انتخابات عامة والقيام بجملة من الإصلاحات على الدستور وقوانين الانتخاب والصحافة والسماح بتشكل الأحزاب. لكن البروليتاريا لم تبلع الطعم الديمقراطي وواصلت احتجاجاتها التي بدأت تأخذ شيئا فشيئا طابعا مسلحا انتفاضيا عنيفا، وبدا أن الحلول التقليدية لامتصاص الغضب الجماهيري المستعر لم تعد تنفع، ولم تقدر أحزاب المعارضة التقليدية بيمينها ويسارها على استيعاب الحركة، فلقد كان الحريق الثوري قد وصل إلى درجة غير قابلة للمصالحة مع نظام اجتماعي أثبت لا إنسانيته ومعاداته للعمال، وهو ما جعل هؤلاء يندفعون نحو السجون التي تم اقتحامها وخلع أبوابها وطرد الحراس الذين انضم جزء كبير منهم إلى صفوف المحتجين وتم تحرير كل السجناء، كذلك هاجمت الجماهير مراكز البوليس السري (السافاك) والثكنات العسكرية وأقامت تآخيا لا مثيل له مع الجنود بما جعل تلك الآلة الأسطورية لخامس جيش في العالم تتهاوى كقصر من الرمل، وقام المنتفضون بالاستيلاء على مخازن الغذاء والملابس وتم توزيعها على الجماهير، والأهم من كل ذلك قيام البروليتاريا بكل فئاتها (عمال، طلبة، بطالين...) بتشكيل ميليشيات مسلحة في أغلب مناطق البلاد، وتم توزيع الأراضي على الفلاحين الفقراء. فلم يكن كل يوم يمر إلا وتسجل فيه الجماهير المسحوقة خطوة جديدة في اتجاه القضاء على النظام الرأسمالي القائم.
هكذا نرى كيف أن الثورة الاجتماعية كانت بالفعل في طريقها لتدمير دولة الشاه، وما كان من الممكن إيقافها بالوسائل التقليدية (قمع، نشر الأوهام الديمقراطية، تغيير بعض وجوه الحكومة...) لكل ذلك فإن الثورة المضادة لم يكن لها أن تشق طريقها بدون أن تلبس لبوس الثورة نفسها وبدون أن تتخفى بشعارات الثورة وتحاول التغلغل في المنظمات التي كانت قد أنتجتها البروليتاريا الثائرة. ولقد عملت هذه الثورة المضادة كل جهدها من أجل زرع الأوهام في صفوف الجماهير المنتفضة محاولة حرف الصراع الطبقي عن أهدافه الحقيقية وتحويله وجهة الصراعات بين الكتل البورجوازية في الداخل وبينها وبين أقطاب رأس المال العالمي التي كانت تتوحد من جهة ضد البروليتاريا وتتصارع من جهة أخرى من أجل ضمان ترجيح كفة أحد حلفائها في الداخل.
ولعل أخطر الأسلحة وأمضاها بيد الثورة المضادة كانت إيديولوجيا الأنتي- إمبريالية. فبينما كان يمين الثورة المضادة بقيادة الخميني يرفع شعار "الحرب ضد الاستكبار العالمي"، وكان الخميني نفسه يدعو إلى وحدة المعارضة، وأن "كل دخول في تفاصيل الخلافات من شأنه أن يضعف المعارضة"، فإن يسار الثورة المضادة كان هو أيضا يبث الأوهام حول الجبهة التقدمية ضد الإمبريالية الأمريكية وحليفها نظام الشاه، لا بل أن أحزابا "شيوعية" مثل حزب تودة قد أعلن مساندته لحكومة الخميني والدخول معها في الجبهة ضد التدخل الأمريكي. ولقد شكلت الحادثة الاستعراضية التي قام بها أنصار الخميني باقتحام السفارة الأمريكية واحتجاز بعض الرهائن فيها، حيلة خبيثة من أجل حرف الأنظار وجر العمال وراء مشاريعهم الرجعية المعادية للثورة التي يتكلمون زورا باسمها. أحزاب اليسار كانت تجاهد من أجل إقناع العمال الثائرين بأنه عليهم أن لا يفجروا الصراع ضد الرجعية الدينية طالما لا تزال تقف في صف ضد الإمبريالية. وهذا ما أضفى الشرعية الضرورية لمثل هذه الجبهات البورجوازية المعادية للثورة.
لقد عملت إيديولوجيا الأنتي- إمبريالية دورا حاسما في تدجين البروليتاريا وراء أولائك الذين سوف يقودون مجزرة الثورة المضادة ودفع العمال في محرقة الحرب البورجوازية (الحرب العراقية الإيرانية) التي كان إعلانها بمثابة إعلان عن الهزيمة الأخيرة للثورة، وما كان لهذه الإيديولوجيات أن تتغلغل في صفوف الثورة لولا مساهمة الأحزاب والتيارات اليسارية داخل وخارج إيران وتزكيتها للجبهة ضد الإمبريالية.
هذه الإيديولوجية مازالت إلى يومنا هذا سلاحا فتاكا بيد البورجوازية في مواجهة الانتفاضات العمالية، وان الأحزاب والأطراف الماركسية اللينينية والماوية والتروتسكية التي لا تزال ترفع هذه اليافطة المضللة تثبت تناقضها مع البرنامج التاريخي للبروليتاريا. وتجربة ثورة 1978-1979 في إيران دليل تاريخي على هذا الدور المضاد للثورة الذي ما انفكت تقوم به هذه الأحزاب حتى وإن توشحت بالشيوعية والعمالية.
إن البروليتاريا الإيرانية المنتفضة اليوم لا يمكن لها أن تنتصر بدون الحسم مع إيديولوجيا الأنتي-إمبريالية التي عاش على تغذيتها نظام الملالي نفسه، كذلك بدون الحسم مع كل أنواع الجبهات: الجبهة ضد الديكتاتورية، الجبهة ضد الفاشية، الجبهة ضد الرجعية الدينية، الجبهة من أجل الحد الأدنى الديمقراطي...الخ فالبروليتاريا ليس لها من جبهة سوى وحدتها الطبقية المستقلة عن كل البرامج البورجوازية مهما كانت راديكاليتها. وإن الإيديولوجية الجبهوية لا تعني سوى التخلي عن البرنامج التاريخي المستقل للبروليتاريا.
إن الأسوأ بالنسبة للبروليتاريا في مواجهة قطبين رجعيين هو الاصطفاف وراء أحدهما.
عندما يسلم العمال أسلحتهم:
إن قوة الثورة الإيرانية 1978-1979 لم تقف عند حد المظاهرات والمصادمات وتشكيل المجالس العمالية (مجالس الشورى) بل تجاوزتها نحو خلق ميليشيات ثورية مسلحة تشكلت أساسا من العمال والجنود الذين اصطفوا إلى جانب الثورة ومن الطلبة والبطالين، كذلك من الفلاحين الفقراء الذين بدؤوا بالانضمام بكثافة إلى إخوانهم المنتفضين في المدن. ولقد مثلت عمليات مداهمة مراكز البوليس والثكنات العسكرية وإفتكاك الأسلحة (الخفيفة منها خاصة) وتوزيعها بكثافة على عموم الجماهير الثائرة، إضافة لمحاصرة فلول النظام التي كانت تحاول إعادة التجمع حول عناصرها الأكثر ثقة، ومنع إعادة تنظيم قوات القمع التي تفسخت تحت ضربات الثوار والانسحابات الجماعية المكثفة، فإنها كانت تقطع الطريق أمام الثورة المضادة وكل محاولات التأطير البورجوازي، وتخلق حالة من الانفلات يصعب لجمها والالتفاف عليها بالوسائل التقليدية، وهذا ما أفزع ليس البورجوازية المحلية بكل فصائلها السياسية فقط، بل كل النظام الرأسمالي العالمي، بما دفع دولا مثل فرنسا وبريطانيا (معاقل العلمانية واللائكية) إلى احتضان الخميني (الزعيم الديني المتشدد) والضغط على رئيس الوزراء شابور باختيار من أجل السماح له بالعودة إلى إيران في مشهد استعراضي، صورها كعودة المنقذ وقائد الثورة، وإضفاء حالة من القداسة على موكبه، مستعملة في ذلك أحدث تقنيات الدعاية.
وفور عودته، عين الخميني مهدي باذرخان مؤقتا رئيسا للوزراء بدل شابور باختيار، وكان يسمي الحكومة التي عينها "حكومة الله" وقال "بما أنني عينته، فيجب أن يطاع" و" كل عصيان عليها، هو عصيان الله" وقام بتشكيل ميليشيات مسلحة تحت إسم "الحرس الثوري" قامت بمهاجمة الميليشيات الثورية التي أنشأها العمال، وأعلن الخميني الجهاد على الجنود الذين لم يسلموا أسلحتهم. ومنذ تلك اللحظة بدأت حملة التصفية الدموية للبروليتاريا المسلحة. كل هذا طبعا لم يمنع أحزابا يسارية عديدة في الداخل (مثل حزب تودة) من التحالف مع الحكومة الجديدة، كما لم يمنع عديد الأحزاب والأطراف والشخصيات اليسارية في الخارج من مباركة "الثورة الإسلامية"، وابتداع مقولات من نوع "الإسلام الثوري" أو "الإسلام التقدمي" من أجل حشد مساندة البروليتاريا العالمية، لا مع إخوانهم من البروليتاريا الإيرانية المنتفضة، بل مع جزاريهم. لذلك فإن ما يصطلح على تسميته اليوم، في الأوساط اليسارية، بالثورة الإيرانية 1979 هي في الواقع الثورة المضادة التي قادها الخميني بتزكية يسارية، بينما نتحدث نحن عنه هنا هي الموجة الثورية التي بدأت في الواقع منذ نهاية 1977 ووصلت ذروتها في أواخر 1978 وشهدت هزيمتها بداية من 1979 وانتهت بجر البروليتاريا الإيرانية إلى الحرب العراقية الإيرانية 1980 التي راح خلالها أكثر من مليون من البروليتاريا من الطرفين.
صحيح أن البروليتاريا الإيرانية لم تذعن بسهولة للثورة المضادة إلى حدود 1980 وقاومت كل الذين حاولوا نزع أسلحتها. لكن للأسف فإن قطاعات كبيرة من العمال وتحت تأثير إيديولوجيا الأنتي-إمبريالية والجبهوية، كانت قد سلمت نفسها لمنظمات الحرس الثوري، لتتحول هي نفسها إلى مشاركة في المجزرة العظيمة ضد العمال وتنقاد كالقطيع وراء جزاريها في الحرب البورجوازية القذرة.
إن هذا الدرس التاريخي المهم، والذي دفع العمال من أجله آلافا من الشهداء والمعتقلين والمشردين والمغربين، يلقي بظلاله على الانتفاضة الحالية، حيث بدأت بعض المجموعات البروليتارية المسلحة بالظهور، وبدأ العمال يواجهون إرهاب الدولة بإرهابهم الثوري. الدرس له وجهان، الأول أن البروليتاريا عندما تسلم أسلحتها لأي كان، حتى وإن كان باسم الثورة (الحرس الثوري) إنما هي تقدم بذلك عنقها لسكين الثورة المضادة. والثاني هو أن استعمال الأسلحة في حد ذاته ليس تعبيرا عن ثورية الحركة، وأن السلاح إذا لم يرتبط ببرنامج ثوري فإنه يقود البروليتاريا حتما إلى الحرب ما بين البورجوازيات، وهذا يعني تصفية ثورتها وتصفيتها كطبقة.
على عكس دعاة المسيرات السلمية والمرخص فيها، أولائك الذين يريدون للعمال أن يصطفوا مكتوفي الأيدي أمام آلة إرهاب الدولة، والقبول بدور الضحية، أولائك الذين يساهمون بوعي أو بغير وعي في تجريد البروليتاريا من أسلحتها وتجريم كل من يرفع بندقيته في وجه جلاده، على عكس دعاة الثورات المخملية، أو ما يسمى بالعصيان المدني، أولائك الذي يحاولون إقناع البروليتاريا بإمكانية التخلص من بؤسهم عن طريق التجمعات المليونية ضد هذه الحكومة أو تلك، أو من أجل فرض استقالة هذا السفاح أو ذاك. على عكس كل هؤلاء فإنه على البروليتاريا أن تشهر حقدها الطبقي بكل ما يتاح لها من وسائل العنف. وعليها أن تنوع من أشكال نضالها بحيث تستغل نقاط ضعف عدوها وتتجنب نقاط قوته. فمسيرة من العزل مهما كانت ضخامتها هي عرضة للقمع الوحشي ولسقوط عدد كبير من القتلى والجرحى ويسهل السيطرة عليها من طرف البوليس أو الجيش، بينما المواجهة في مجموعات صغيرة سريعة الحركة يمكن أن يلحق أكثر الأذى بقوات القمع ويقلل من الخسائر في صفوف البروليتاريا المنتفضة. وإن مهاجمة مركز بوليس أو ثكنة عسكرية أو مخزن أغذية وملابس هو أكثر جدوى من التحلق الأبله أمام مبنى البرلمان منتظرين رصاصة طائشة تثقب الرأس. لكن في مقابل ذلك وجب التنبيه إلى أن استعمال أكثر الوسائل عنفية لا يعني الثورة، وان البندقية ليست دليلا على الثورية، فالسؤال الذي يجب أن تطرحه البروليتاريا على نفسها في كل محطة من محطات انتفاضتها: إلى أين نسير؟ ماهو مضمون حركتنا؟ ما هو برنامجنا؟
في غياب البرنامج الثوري، الهزيمة في الأفق:
إن الثورة ليست مسألة أشكال، أو شعارات وخطابات، بل هي موضوع ممارسة فعلية في الواقع. والسؤال الذي يطرح من أجل نجاح الثورة ليس تدبيج البرامج الشكلية "الثورية"، بل هو، هل تتحول الانتفاضة إلى حركة شاملة موحدة ومتضامنة تهدد النظام الاجتماعي القائم؟ هل باشرت البروليتاريا فعليا في الاستيلاء على الملكية الخاصة وتحويلها إلى ملكية جماعية، بإدارة جماعية؟ هل باشرت بالقضاء على العمل المأجور وتعويضه بالنشاط الجماعي الإنساني الحر؟ هل باشرت في تشكيل تنظيماتها الطبقية المستقلة؟ هل باشرت بتنظيم إرهابها الثوري في مواجهة إرهاب الدولة البورجوازية؟ هل باشرت بتلبية حاجاتها الإنسانية في مواجهة قانون القيمة والتبادل والمردودية الاقتصادية؟ هل باشرت بتوجيه الإنتاج وجهة تلبية حاجات تطور الثورة وتوسعها؟ هل دمرت السجون والمعتقلات والمحاكم وكل أجهزة القمع؟ هل دمرت كنائس رأس المال من مصارف وبنوك وبورصات، وهل قامت بإحراق الصنم الاجتماعي الأكبر: النقد؟ فالثورة إذا، هي مجموعة مهام تاريخية واقعية، إما أن تكون البروليتاريا قد خطت خطوة في اتجاه إنجازها، وهذا سيعني أن الثورة تتقدم، وإما أن البروليتاريا تعجز عن أداء ذلك، وهذا سيعني توقف الثورة وفسح المجال للثورة المضادة لتجر العمال وراء برامجها: العفو التشريعي العام (بدل تحطيم السجون)، تنظيم انتخابات ديمقراطية (بدل هدم البرلمان على رؤوس تلك الطفيليات البيروقراطية)، تنقيح الدستور (بدل إلغائه نهائيا والى الأبد)، تغيير الحكومة (بدل تدمير الدولة البورجوازية برمتها)، تأميم الشركات والقطاعات الاقتصادية الكبيرة (بدل إلغاء الملكية الخاصة بما فيها تلك المتنكرة بعباءة الدولة)، الرفع في الأجور (بدل إلغاء العمل المأجور نفسه)، سن قانون ضريبي تصاعدي (بدل إلغاء الضرائب)، إلى غير ذلك من الإصلاحات البورجوازية التي تزداد راديكاليتها براديكالية الثورة التي تواجهها، وقد تقدم البورجوازية على تنازلات انتحارية مؤقتة من أجل إيقاف الثورة لتتراجع عنها بمجرد إحكام القبضة على البروليتاريا وتجميد حركتها الطبقية المستقلة.
إذا، فإن الثورة هي موضوع قدرة البروليتاريا على السير في طريق تحقيق برنامجها التاريخي الثوري، وهذا يستوجب من العمال استخلاص الدروس التاريخية من تجاربهم السابقة وعدم السقوط في المزالق والأخطاء المدمرة التي سقطوا فيها سابقا. فعدم تملك البروليتاريا لبرنامجها التاريخي سوف لن يعني سوى الهزيمة المحققة. والبروليتاريا الإيرانية اليوم، وبالنظر إلى وضعها الذاتي، وبالنظر أيضا لواقع التوازن الطبقي على المستوى العالمي، فإنه يبدو للأسف أنها دخلت المعركة وهي لا تحمل أدنى فكرة عن طبيعة برنامجها، ولا يبدو أنها قادرة مؤقتا على التحرك من خارج الأرض البرنامجية لأعدائها. إضافة لضعف التضامن الأممي بين العمال، بحيث أن معركة تندلع في هذا القطر أو ذاك، في هذه الجهة أو تلك مازالت للأسف لا تجد التجاوب الكافي من بقية القطاعات العمالية، بما يسمح للبورجوازية العالمية بمحاصرتها والتعتيم على حقيقة حركتها وأهدافها، ففي الجرائد كما في القنوات التلفزية دائما هناك صراع وهمي للتسويق: بين الإصلاحيين والمتشددين، بين الجمهوريين والفاشيين، بين الديمقراطيين والإسلاميين، بحيث أننا، إذا ما صدقنا ما تقوله آلة الدعاية البورجوازية، فليس هناك صراع طبقي أبدا، وليس هناك حرب طبقية بين فقراء وأغنياء، بين مستغلين ومستغلين. لكن هل أن عدم جاهزية البروليتاريا للمعركة الفاصلة، وعدم توفر الوضع الموضوعي الملائم للانتصار، يعني أنه على العمال أن لا يدخلوا المعركة، أو أن يصطفوا وراء الإصلاحات البورجوازية؟ طبعا لا، فتملك البروليتاريا لبرنامجها التاريخي ليس موضوع "نقل الوعي" من طرف "الأنتلجنسيا الثورية" إلى العمال، كما أنه ليس مثلما يروج الماركسيون المذهبيون والإيديولوجيون بشتى مشاربهم، أن الثورة لا تنتصر إلا بعد اكتمال الوعي بها من طرف كل أفراد طبقة البروليتاريا. فالبرنامج الثوري ليس موضوعا مدرسيا يمكن لأي كان حفظه أو تلقينه للآخرين، بل هو مراكمة تاريخية لا تمثل الثورات والثورات المضادة المتعاقبة، كذلك المعارك الجزئية، وحتى تلك اليائسة منها، سوى حلقة من حلقاته وسطر من سطوره الدامية.
خاتمة، أو حزب "شيوعي" آخر في ركاب الثورة المضادة:
لا يمكن أن نختم نصنا هذا بدون قول كلمة فيما يدبجه الحزب "الشيوعي" العمالي الإيراني بمناسبة الانتفاضة الحالية، وهو في الواقع تجسيد لما ذكرناه من قدرة الثورة المضادة على التنكر في أكثر الشعارات بريقا.
لننظر لآخر البيانات التي أصدرها هذا الحزب:
قام حميد تقوائي ليدر الحزب الشيوعي العمالي الايراني، اليوم ، بمكاتبة رؤساء الدول والامين العام للامم المتحدة نيابة عن جماهير ايران طالبا من جميع الحكومات "القطع الفوري للعلاقات السياسية مع الجمهورية الاسلامية في ايران، وغلق جميع سفاراتها وقنصلياتها وضمان طردها من الامم المتحدة وبقية المنظمات العالمية".
واستمرت رسالته بالقول:" ان الاحداث الاخيرة في ايران تصرح بكل وضوح بان الحكومة الاسلامية ليس لها مطلقا اية شرعية. انها لا تمثل الجماهير في ايران باي شكل من الاشكال. في هذا المنعطف الحرج من الاوضاع السياسية في ايران، ندعوكم الى التوقف عن منح الشرعية والدعم للنظام. ان نهاية النظام الاسلامي ستساعد على قصم ظهر حركة الاسلام السياسي على صعيد عالمي وانبثاق فجر جديد للجماهير في ايران والعالم".
الحزب الشيوعي العمالي الايراني
هكذا، فإن الزعيم الشيوعي العمالي حميد تقوائي، وبدل أن يتوجه للبروليتاريا العالمية ودعوتها لمؤازرة انتفاضة إخوانهم في إيران، وجد بدل ذلك أنه من الأنفع التوجه بالخطاب لمن؟ لرؤساء الدول والأمين العام للأمم المتحدة. ولماذا؟ ليس من أجل فضح تآمرهم، هم ايضا، على العمال الإيرانيين، كما ليس من أجل تبيان أنهم يقمعون "شعوبهم" بمثل ما تفعل الحكومة "الإسلامية"، بل من أجل دعوتهم "لقطع العلاقات السياسية مع الجمهورية الإسلامية". وما الهدف من ذلك؟ إنه ليس التخلص من النظام الرأسمالي بل من أجل "قصم ظهر حركة الإسلام السياسي" وهذا ما من شأنه أن يساعد على "انبثاق فجر جديد للجماهير في إيران وفي العالم" برعاية بانكيمون وأوباما وبقية "رؤساء الدول" الديمقراطيين.
ونقدم للقارئ المطالب التي يرفعها هذا الحزب بمناسبة هذه الانتفاضة، باعتبارها نموذجا لما تحدثنا عنه من المطالب (أو الإجراءات) الإصلاحية التي من شأنها بالفعل قطع الطريق أمام أي إمكانية لانفلات ثوري حقيقي:
- اطلاق سراح جميع السجناء السياسيين
(بدل النضال من أجل تحطيم السجون وتحرير كل إخواننا بمن فيهم ما يسمون بسجناء الحق العام)
2- تحديد المسؤولين عن قتل الجماهير والمتنفذين ومحاكمتهم بشكل علني
(بدل تحطيم المحاكم البورجوازية)
3- الغاء حكم الأعدام
(بدل إلغاء كل القوانين البورجوازية التي لا تعدو أن تكون سور تعبير حقوقي عن واقع القهر الطبقي الموجه ضد العمال)
4- الغاء الحجاب الأجباري والفصل على اساس الجنس (الجندري)
(بدل النضال من أجل تحرير المرأة ورفيقها الرجل من ربقة العمل المأجور)
5- حرية التعبير غير المشروطة والمقيدة وحرية التنظيم والأضراب والتظاهر
(بدل فرض التعبير والتنظيم والإضراب وكل أشكال النضال البروليتاري بالقوة)
6- تحديد الحد الأدنى للأجرة بمليون تومان
(بدل النضال ضد الملكية الخاصة والعمل المأجور)
إن تقديمنا لهذه العينة من المطالب التي يطرحها حزب يسمي نفسه شيوعيا، ومقابلتها بالبرنامج التاريخي للبروليتاريا يبين بكل وضوح الافتراق البرنامجي بين مثل هذه الأحزاب وبين حركة البروليتاريا، كما يبين أن خطر الثورة المضادة لا يكمن في الخارج، بل إن خطرها مبثوث في صفوف العمال، أو ممن يتكلمون باسمهم. وإذا ما أرادت البروليتاريا الإيرانية الانتصار فعليها أن لا تكتفي بالحسم في أعدائها الظاهرين، بل ايضا في الإصلاحية المتخفية بلباس الشيوعية والثورية.