بقلم:
فيما يتعلق بألمانيا، لقد انتهى، من حيث الأساس، نقد الدين، ونقد الدين هو
الشرط الممهد لكل نقد.
ان الوجود الدنيوي للخطأ غدا مشكوكا فيه، منذ ان أصبح دفاعه السماوي عن
ذاته مفندا. فالإنسان الذي لم يجد في واقع السماء الوهمي، حيث كان يبحث عن الإنسان
الأعلى ( السوبر مان )، الا انعكاسا او صورة لذاته، لن يكتفي بعد ذلك بأن لا يجد
سوى مظهر ذاته وحسب، سوى اللانسان، وإنما يبحث هنا، وعليه ان يبحث بالضرورة،عن
حقيقته الواقعة.
ان أساس النقد غير الديني هو : ان الإنسان يصنع الدين، وليس الدين هو الذي
يصنع الإنسان. يقينا ان الدين هو وعي الذات والشعور بالذات لدى الإنسان الذي لم
يجد بعد ذاته, او الذي فقدها. لكن الإنسان ليس كائنا مجردا جاثما في مكان ما خارج
العالم. الإنسان هو عالم الإنسان، الدولة، المجتمع. وهذه الدولة وهذا المجتمع
ينتجان الدين، الوعي المقلوب للعالم، لأنهما بالذات عالم مقلوب. الدين هو النظرية
العامة لهذا العالم، خلاصته الموسوعية، منطقه في صيغته الشعبية، موضع اعتزازه
الروحي، حماسته، تكريسه الأخلاقي، تكملته الاحتفالية، عزاؤه وتبريره الشاملان. انه
التحقيق الوهمي للكائن الإنساني، لان الكائن الإنساني لا يملك واقعا حقيقيا. إذن
فالصراع ضد الدين هو بصورة غير مباشرة صراع ضد العالم الذي يؤلف الدين نكهته
الروحية.
ان التعاسة الدينية هي، في شطر منها، تعبير عن التعاسة الواقعية، وهي من
جهة أخرى احتجاج على التعاسة الواقعية. الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا
قلب له، كما انه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح. انه أفيون الشعب.
ان إلغاء الدين، من حيث هو سعادة وهمية للشعب، هو ما يتطلبه صنع سعادته
الفعلية. ان تطلب تخلي الشعب عن الوهم حول وضعه هو تطلب التخلي عن وضع بحاجة الى
وهم. فنقد الدين هو بداية نقد وادي الدموع الذي يؤلف الدين هالته العليا.
لقد نزع النقدُ عن السلاسل الزهور الوهمية التي كانت تغطيها، لا لكي يحمّل
الإنسان قيودا غير مزخرفة، موئسة، بل ليقذف بالسلاسل بعيدا ويقطف الزهور الحية. ان
نقد الدين يدمر أوهام الإنسان،لكي يفكر، يفعل، يكيف واقعه بصفته إنسانا تخلص من
الأوهام وبلغ سن الرشد، لكي يدور حول نفسه، أي حول شمسه الواقعية. فالدين شمس
وهمية تدور حول الإنسان مادام الإنسان لا يدور حول نفسه.
ان مهمة التاريخ إذن، بعد زوال عالم ما وراء الحقيقة، هي ان يقيم حقيقة هذا
العالم. تلك هي بالدرجة الأولى مهمة الفلسفة، التي تخدم التاريخ وذلك بعد ان يجري
نضح الشكل المقدس للاستلاب الذاتي للإنسان وينزع القناع عن الاستلاب الذاتي في
إشكاله غير المقدسة. وبذلك يتحول نقد السماء الى نقد الأرض، نقد الدين الى نقد
الحقوق ونقد اللاهوت الى نقد السياسة.
ان ما نبسطه الآن، وهو إسهام في هذا العمل، يستهدف بادئ بدء بالنقد لا
الأصلي بل نسخة ما، هي الفلسفة الألمانية في الدولة والحقوق، وذلك بسبب وحيد، وهو
انه يتعلق بألمانيا.
لو أردنا الانطلاق من واقع الأمر القائم، الراهن الألماني ذاته، بل لو
فعلنا ذلك بالطريقة الوحيدة الملائمة، أي برفض ذلك الواقع، فالنتيجة تظل مفارقة
تاريخية دوما. حتى إنكار ورفض وضعنا السياسي الحالي يصبح مندرجا في غرفة مهملات
الشعوب العصرية، بشكل واقعة قديمة مهجورة. فأن أنا أنكرت الشعور المستعارة المطلية
بالمساحيق، تظل أمامنا الشعور المستعارة غير المطلية. فأن أنكرت وضع ألمانيا عام
1843، وجدت نفسي، حسب التقويم الفرنسي، في سنة 1789 بالكاد، بل أجد نفسي ابعد من
ذلك عن مركز او قلب الراهنية.
نعم، ان التاريخ الألماني يتبجح بتطور لم يحتذِ تطور أي شعب في ميدان
التاريخ، ولن يحتذيه أي شعب آخر. لقد تقاسمنا فعلا أوضاع عودة بعض العهود الرجعية
الى السلطة شهدتها الشعوب العصرية، ولكن دون ان نشاطرها ثوراتها. لقد عرفنا تلك
العهود أولا لان شعوبا أخرى تجرأت على القيام بثورة، وثانيا لان شعوبا أخرى عانت
ردات مضادة للثورة. عرفنا ذلك في في المرة الأولى لان سادتنا تملكهم الخوف، والمرة
الثانية لان سادتنا لم يحسوا الخوف. ونحن – ورعاتنا فوق رؤوسنا – لم نرافق الحرية
إلا في مناسبة واحدة، في يوم دفنها.
توجد مدرسة تسوّغ حقارات اليوم استنادا الى حقارات الأمس، مدرسة تصم
بالتمرد كل صرخات القن ضد السوط منذ ان كان السوط سوطا، مثقلا بالسنين، وراثيا
وتاريخيا، مدرسة لها التاريخ إلا أفكاره اللاحقة، شأن اله إسرائيل حيال خادمه
موسى، إنها المدرسة التاريخية للحقوق. لقد اخترعت اذن التاريخ الألماني ان لم نقل
انها هي ذاتها اختراع هذا التاريخ. إنها شايلوك، لكن شايلوك الخادم، الذي يعتنق
هذا الإيمان، ويقسم على مظاهره، وعلى مظهره التاريخي، ومظهره الجرماني – المسيحي،
لدى كل قطعة من اللحم ينتزعها هذا الشايلوك من قلب الشعب.
وثمة، على عكس ذلك، متحمسون سذج، محبون لأصولهم التيوتونية بالوراثة،
متحررون وليبراليون بالتفكير، يذهبون للبحث عن تاريخ حريتنا فيما وراء تاريخنا، في
الغابات التيوتونية البكر. لكن ما الشيء الذي يميز تاريخ حريتنا من حرية الخنزير
البري اذا كنا لا نجدها الا في الغابات ؟ وفضلا عن ذلك، فمن المعروف جيدا ان الصدى
يردد الصيحات التي تتعالى في الغابة. إذن دعوا في سلام الغابات التيوتونية البكر !
فلنعلن حربا على الأوضاع الألمانية ! فهي دون مستوى التاريخ، دون مستوى أي
نقد، ولكنها تبقى موضوع نقد، كالمجرم الذي هو دون مستوى الإنسانية، ولكنه مع ذلك
يبقى موضوع اهتمام الجلاد، في الصراع ضد هذا الوضع ليس النقد هوى مصدره الرأس، بل
هو رأس الهوى. ليس مبضعا للتشريح، بل سلاح، وهدفه هو عدوه، وهو لا يبتغي دحض هذا
العدو بل إبادته. اذ ان فكر هذا الوضع قد سبق دحضه. وهو في حد ذاته لم يبق موضوعا
يجدر التفكير فيه، انما هو وجود جدير بالاحتقار بمقدار ما هو محتقر فعلا. فالنقد،
في ذاته، لا يحتاج الى ان يكون منسجما انسجاما عميقا مع هذا الموضوع، لان علاقته
معه قد جرى إيضاحها وصفي حسابها. فهو لم يبق غاية في ذاته، بل غدا وسيلة فقط،
والشعور الأساسي الذي يحركه هو النقمة والسخط، ومهمته الأساسية هي الفضح.
فالمطلوب وصف ضغط شديد متبادل بين كل القطاعات الاجتماعية، استياء عام
سلبي، ضيق في الفكر مدع وبلا صحو في آن معا، كل ذلك يقع في إطار نظام حكم هو
الحقارة وقد أصبحت حكما، لأنه يعيش من المحافظة على كل الحقارات.
يا له من مشهد ! ان التقسيم اللامتناهي للمجتمع الى كثرة من العناصر التي
يعارض بعضها بعضا بكراهيتها السخيفة، بوجدانها السيئ، بتفاهتها الفظة، والتي
يعاملها أسيادها، بسبب الموقف الملتبس والمتشكك لكل عنصر إزاء الأخر، على إنها
موجودات موهوبة، معاملة واحدة بلا تمييز، ولو إنهم يلبسون هذه المعاملة أشكالا
مختلفة. حتى واقع كون تلك العناصر مسودة، محكومة، مملوكة، فإنها مجبرة على اعتباره
وإعلانه هبة من السماء ! وفي الجهة الأخرى، نجد هؤلاء الأمراء أنفسهم، الذين
تتناسب عظمتهم عكسا مع عددهم !
ان النقد الذي يستهدف مثل هذه الظروف هو نقد في خضم المعمعة. وليس المطلوب،
في هذه الحال، معرفة ما اذا كان الخصم نبيلا، او اذا كان ندا لك من حيث النسب، او
كان ذا أهمية، وإنما المطلوب هو إصابته او إسقاطه. المطلوب الا يمنح الألمان لحظة
واحدة من الوهم والخضوع والاستسلام وإنما يجب جعل الاضطهاد الواقع اشد وطأة، بأن
نضيف اليه وعي الاضطهاد. يجب ان نجعل العار اشد شيئا وقبحا بنشره على الملأ. يجب
ان نصور كل قطاع من المجتمع الألماني على انه (( الجزء المخزي )) من هذا المجتمع،
يجب إرغام هذه الظروف المتحجرة على الرقص، بأ ن نغني لها لحنها ذاته ! يجب ان نعلم
الشعب الذعر من نفسه كي نعطيه الشجاعة. ذلك سيكون إرواء حاجة ضرورية ملحة بالنسبة
للشعب الألماني، وحاجات الشعوب هي في حد ذاتها علة إروائها الأخيرة.
والكفاح ضد المحتوى المحدود وقصر النظر للوضع الألماني القائم لا يمكن ان
يكون عديم الفائدة بالنسبة للشعوب العصرية، لأن الوضع الألماني القائم هو التحقيق
المعلن للنظام القديم، والنظام القديم هو النقيصة المخفية للدولة العصرية.
ان الكفاح ضد الوضع السياسي الحاضر في ألمانيا، هو الصراع ضد ماضي الشعوب
العصرية، علما بأن ذكريات ذاك الماضي تنغصها على الدوام. ومن العبر المفيدة لهذه
الشعوب ان ترى ذلك النظام القديم، التي عرفت مأساته، يظهر ثانية في ألمانيا، ويقوم
بمهزلته فيها. لقد كان تاريخه تراجيديا طالما كان هو سلطة هذا العالم الموجود
أصلا، في حين ان الحرية كانت فكرة شخصية، وباختصار : طالما كان ذلك النظام مؤمنا
بوجوده، ومضطرا الى الإيمان بمشروعيته. طالما كان النظام القديم، بصفته نظام
العالم الموجود، يكافح ضد عالم لم يكن الا في صيرورة، فانه كان يمثل خطأ تاريخيا
كونيا وليس خطأ شخصيا. لذا فأن سقوطه كان تراجيديا.
وبالمقابل، فالنظام الألماني الحالي، الذي فات أوانه، المتناقض تناقضا
صارخا مع كل البديهيات المعترف بها عالميا، الذي يعرض معدومية النظام القديم على
مرأى من العالم، يتصور فحسب انه يؤمن بنفسه، ويتطلب من العالم ان يقاسمه هذا
الوهم. لو انه يؤمن بكيانه او وجوده الخاص، أكان يحاول اختفاءه وراء مظهر كائن
غريب،أكان يبحث عن خلاصه في الرياء والسفسطة ؟ ان النظام القديم المعاصر لم يعد
إلا الممثل الهزلي لنظام سياسي مات أبطاله الحقيقيون. ان التاريخ يصنع الأشياء إلى
النهاية،فهو يمر بمراحل عديدة عندما يحمل للدفن شكلا باليا. ان المرحلة القصوى
لشكل تخطاه التاريخ العالمي هي مهزلته أو مسخرته. ان آلهة اليونان الذين أصيبوا
بجراح مميتة بصورة مأساوية في مسرحية اسخيليوس (( برومثيوس المكبل ))، عادوا هذه
المرة فماتوا موتا هزليا في محاورات (( لوقيانوس )). لماذا كان سياق التاريخ هكذا
؟ لكي تفصل الإنسانية نفسها بمرح عن ماضيها. ان وظيفة المرح التاريخية هذه هي التي
تطالب بها قوى ألمانيا السياسية.
ولكن ما ان توضع الحقيقة الواقعة السياسية – الاجتماعية العصرية موضع
النقد، وعموما ما ان يرتفع النقد الى معضلات إنسانية حقا، حتما يجد نفسه خارج
الوضع الألماني القائم، وإلا سيكون عليه البحث عن موضوعه تحت او دون موضوعه
بالذات. مثلا : ان العلاقات بين الصناعة، وبصورة عامة عالم الثروة، وبين السياسة،
هي معضلة أساسية من معضلات العصر الحديث. فبأي شكل أخذت هذه المعضلة تشغل بال
الألمان ؟ بشكل الاتجاه الى الحماية الجمركية و (( نظام المنع ))، والاقتصاد
القومي. ان النزعة (( التيوتونية الجرمانية )) أهملت الإنسان لتعنى بالمادة، وهكذا
استفاق أصحابنا الألمان فرسان القطن وأبطال الحديد ذات صباح وقد تحولوا الى
وطنيين. اذن لقد بدأ، في ألمانيا، الاعتراف بسيادة الاحتكار في الداخل، بعد ان تم
له الاعتراف بذلك في الخارج. وها نحن أولاء في ألمانيا في طريقنا لأن نبدأ من هنا،
من النقطة التي شرعت فرنسا وانكلترا تتجاوزها. ان الظروف الشائخة، النخِرة، التي
يتمرد عليها على الصعيد النظري هذان البلدان، ولم يعودا يتحملانها إلا كما يتحمل
الشخص قيودا – تلك الظروف هي التي رُحِّب بها في ألمانيا بوصفها الفجر الوضاء
لمستقبل جميل يتجاسر بالكاد على الانتقال من النظرية الشاطرة * الى الممارسة الأشد
عنادا. وفي حين ان البديل المطروح في فرنسا وبريطانيا هو : اقتصاد سياسي أم سيطرة
المجتمع على الثروة، نجده في ألمانيا : اقتصاد قومي أم هيمنة الملكية الخاصة على
القومية. إذن فهم في فرنسا وانكلترا إزاء إلغاء الاحتكار الذي وصل الى نهاية
محصلاته القصوى. أما في ألمانيا فالمسألة هي الذهاب الى محصلات الاحتكار القصوى.
هناك هم بإزاء إيجاد الحل، هنا إزاء استثارة التصادم بادئ بدء. وهكذا هو مثال كاف
على الصيغة الألمانية للمشاكل المعاصرة ؛ ويبين هذا المثال كيف ان تاريخنا، الشبيه
بمجند جديد أخرق، لم تكن مهمته سوى تكرار القيام بعد الآخرين بتمارين تاريخية أخرى
مطروقة.
إذن، اذا كان التطور الألماني في جُماعه لا يتجاوز مستوى تطور ألمانيا
السياسي، فليس في وسع الألمان ان يتدخل على الأكثر في المسائل الراهنة إلا كما
يتدخل روسي. لكن لم يكن الفرد مرتبطا بحدود الأمة في جُماعها هي أيضا أقل تحررا
بكثير لأن فردا ما قد تحرر. ليس لأن اليونان تضم سيتيا من بين فلاسفتها سار
السيتيون خطوة إلى الأمام نحو الثقافة اليونانية.
لحسن الحظ، لسنا،نحن الألمان، سيتيين.
وكما ان الشعوب القديمة عاشت ما قبل تاريخها في تخيلات في المثيولوجيا،
كذلك نحن الألمان قد عشنا تاريخنا المقبل في الفكر، في الفلسفة. فنحن، على الصعيد
الفلسفي، معاصرون للراهن، من دون للراهن، من دون ان نكون معاصريه تاريخيا. ان
الفلسفة الألمانية هي الامتداد الفكراني للتاريخ الألماني. اذن فلو عمدنا الى نقد
المؤلفات البعيدة لتاريخنا الفكراني، أي للفلسفة، أي للفلسفة، بدلا من نقد
المؤلفات الناقصة لتاريخنا الواقعي، لأصاب هذا النقد مركز المعضلات التي يعتبرها
الراهن المسألة الحقة. ان ما يكون عند الشعوب المتقدمة تعبيرا عن صراع عملي مع
الوضع السياسي العصري، وهو وضع لم يتوفر بعد في ألمانيا، ليس في البلد سوى نزاع
انتقادي مع الانعكاس الفلسفي لوضع كهذا.
ان الفلسفة الألمانية للحقوق والدولة هي التاريخ الألماني الوحيد الذي يمكن
اعتباره في مستوى الراهنية المعاصرة الرسمية. وهكذا فالشعب الألماني مقود الى ربط
هذا التاريخ الخيالي بالوضع الذي يعانيه اليوم، والى تسليط النقد لا ضد هذا الوضع
القائم فحسب، بل ضد امتداده التجريدي أيضا. ان مستقبله لا يمكن ان يقتصر على النفي
المباشر للشروط السياسية والقانونية التي يعيشها حقا، ولا على التحقيق المباشر
لتلك الشروط التي يفكر بها، فأنه يتخطى منذ الآن تقريبا تحقيق شرطه الفكراني في
تأمل الشعوب المجاورة. لذا فأن الحزب السياسي العملي في ألمانيا على حق عندما
يتطلب نفي الفلسفة. ان خطأه لا يكمن في هذا المطلب، بل يكمن في التمسك بمطلب لا
يحققه ولا يستطيع ان يحققه جديا. وهو يتصور انه يحقق هذا النفي حين يشيح بوجهه عن
الفلسفة، ملقيا نحوها بازدراء ببعض العبارات الغاضبة، المبتذلة. ان ضيق الأفق
التاريخي لهذا الحزب هو الذي يفسر لنا لماذا لا يعتبر ان الفلسفة تشكل جزءا من
الواقع الألماني. ولذلك أيضا يضع الحزب العملي الألماني المذكور الفلسفة تحت او
دون الممارسة الألمانية والنظريات التي تستعملها. إنكم تريدون الانطلاق من بذور
واقعية وحية، ولكنكم تنسون ان بذرة الحياة الواقعية عند الشعب الألماني لم تفرّخ
حتى الآن إلا في دماغه. باختصار: إنكم لا تستطيعون أن تلغوا الفلسفة ما لم
تحققوها.
الخطأ نفسه، ولكن مع عوامل معكوسة هذه المرة، ارتكبه الحزب السياسي النظري،
التي كانت الفلسفة نقطة انطلاقه.
في الصراع الحاضر، لم ير هذا الحزب سوى صراع الفلسفة ضد العالم الألماني.
ولم يحترس من كون الفلسفة، التي عرفناها حتى الآن، تنتمي هي أيضا إلى هذا العالم،
وإنها، ولو بشكل أيديولوجي، تكملة له. لقد التزم هذا الحزب موقفا نقديا ازاء خصمه،
ولكنه لم يلتزم ذلك الموقف أزاء نفسه انطلاقا من نفس الفرضيات الفلسفية، تمسكا
بالنتائج التي اكتسبتها الفلسفة او مقدما متطلبات ونتائج استقاها من مكان آخر على
إنها نتائج الفلسفة ومطالبها المباشرة. في حين لا يمكن الحصول على هذه، حتى إذا
سلمنا بأنها تستند الى أسس صحيحة، الا ينفي الفلسفة كما كانت حتى الآن، أي الفلسفة
كفلسفة. ونحن نحتفظ بحقنا في ان نقدم وصفا أكثر دقة لهذا الحزب. ويمكن تلخيص خطأه
الأساسي على النحو التالي : لقد ظن انه يستطيع تحقيق الفلسفة دون ان يلغيها.
ان نقد الفلسفة الألمانية حول الدولة والحقوق، الذي قدم هيغل أشده تماسكا
ومنطقية وسمواً وغنى، هو في نفس الوقت التحليل النقدي للدولة العصرية وللواقع
المرتبط بها، النفي الحازم لكل نمط سابق من الوعي السياسي والحقوقي الألماني،
الوعي الذي تؤلف فلسفة الحقوق التأملية أرفع وأشمل تعبير عنه، تعبير بلغ مستوى العلم.
ففي ألمانيا فقط كان ممكنا ان تولد فلسفة الحق التأملية، هذا الأسلوب المجرد
والمتعالي في التفكير حول الدولة العصرية التي يظل واقعها ما ورائيا ( حتى وان كان
ذاك الماوراء يقع فقط ما وراء نهر الرين ). وبعكس ذلك فأن الايدولوجيا الألمانية
للدولة العصرية، التي تغفل الإنسان الواقعي، لم تكن ممكنة إلا بقدر ما تغفل الدولة
العصرية بالذات إنسان الواقع، او لا ترضي الإنسان الكلي إلا بصورة وهمية. في
السياسة، فكر الألمان ما فعلته الشعوب الأخرى. لقد كانت ألمانيا وعيهم المعنوي
النظري. إن التجريد وتعالي الفكر المئناف قد سارا دائما جنبا الى جنب مع ضيق أفق
الواقع الألماني وابتذاله. وإذا كان الوضع القائم لنظام الدولة الألماني يعبر جيدا
عن النظام القديم في اكتماله – وهو الشوكة المغروسة في أعمق أعماق جسم الدولة
العصرية – فأن الوضع القائم لعلم الدولة الألماني يعبر عن الدولة العصرية في عدم
اكتمالها : يعبر عن تعفن الجسم ذاته.
ان نقد الفلسفة التأملية للحقوق، ولو بمجرد كونها من حيث طبيعتها خصما
لدودا لنمط الوعي السياسي الألماني السالف، لا يبحث في ذاته عن غرضه هو ذاته، بل
انه يفضي الى مهمات لا حل لها الا وسيلة واحدة : الممارسة.
حينئذ ينطرح هذا السؤال : هل تستطيع ألمانيا التوصل الى ممارسة على ارتفاع
المبادئ، أي الى ثورة لا ترتفع ألمانيا الى المستوى الرسمي للشعوب العصرية وحسب،
بل أيضا الى المستوى الإنساني العالي، الذي سيكون مستقبل هذه الشعوب العصرية وحسب،
بل أيضا الى المستوى الإنساني العالي، الذي سيكون مستقبل هذه الشعوب المباشر ؟ على
الأرجح، ان سلاح النقد لا يمكن ان يحل محل نقد السلاح، القوة المادية لا يمكن
القضاء عليها الا بالقوة المادية، لكن النظرية تغدو هي أيضا قوة مادية حين تستحوذ
على الجماهير. تكون النظرية قادرة على الاستحواذ على الجماهير عندما تقيم براهينها
على مثال الإنسان
ad hominem، وهي تقوم بعمليات برهنة على مثال الإنسان حالما تصير جذرية، والجذري هو
إمساك الأشياء من جذورها، لكن الجذر بالنسبة للإنسان هو الإنسان ذاته. ان البرهان
الجلي على جذرية النظرية الألمانية، وبالتالي على حيويتها العملية، هو إنها تتخذ
كنقطة انطلاق الإلغاء الحازم والايجابي للدين، ان نقد الدين يؤول الى هذا التعليم
: ان الإنسان هو الكائن الأسمى بالنسبة للإنسان، أي إلى الأمر القطعي، أمر الإطاحة
بجميع العلاقات الاجتماعية التي تجعل من الإنسان كائنا مهانا، مستعبدا، مخذولا،
محتقرا، علاقات لا يمكن وسمها بأفضل من هتاف فرنسي بمناسبة مشروع فرض رسم على
الكلاب : (( يا للكلاب المسكينة ! إنهم يريدون معاملتكم كما يعامل البشر ! ))
حتى تاريخيا، فان للانعتاق النظري بالنسبة لألمانيا مدلولا عمليا بنوع خاص.
ان ماضي ألمانيا الثوري هو في الواقع نظري، انه الإصلاح الديني ( البروتستانتي ) Ia Reforme. وكما بدأت الثورة في الماضي في دماغ الراهب، تبدأ الان في دماغ الفيلسوف.
ان لوثر قد انتصر، على الأرجح، على العبودية عن تقى بتعويضها بعبودية عن
اقتناع. لقد حطم الإيمان بالسلطة بترميمه سلطة الإيمان.
لقد حول رجال الاكليروس الى علمانيين بتحويله العلمانيين الى رجال اكليروس.
حرر الإنسان من الورع الديني الخارجي جاعلا من الورع الديني وعيا للإنسان. حرر
الجسد من أغلاله محملا القلب أعباءها :
لكن اذا لم تكن البروتستانتية الحل الصحيح، إلا إنها كانت الطريقة الصحيحة
لطرح القضية. منذ ذلك الحين لم نعد أزاء كفاح العلماني ضد الكاهن، الخارجي عنه، بل
الكفاح ضد كاهنه ألصميمي هو ذاته،ضد طبيعته الاكليركية هو نفسه. وكما ان استحالة
تحول العلمانيين الألمان الى رجال دين – وهو ما فعلته البروتستانتية – قد حرر
أولئك البابوات العلمانيين، الأمراء، مع كل اكليروسهم المؤلف من أصحاب امتياز
وجهولين، كذلك فان استحالة الألمان المكهنّين clericalises، بواسطة الفلسفة، الى بشر سوف يحرر الشعب. لكن كما ان الانعتاق لم يقتصر على
الأمراء، فان دَنيَوة الأموال والممتلكات لن يتوقف عند نهب الكنيسة، الذي مارسته
بروسيا المنافقة بالدرجة الأولى. في ذلك العهد، أخفقت حرب الفلاحين، الواقع الأكثر
جذرية في تاريخ المانيا، أمام عقبة اللاهوت. واليوم بعد ان اخفق اللاهوت بالذات،
فان الواقع الأقل حرية في تاريخنا الالماني، وهو وضعنا القائم، سوف يتحطم على (
صخرة ) الفلسفة. عشية الإصلاح الديني، كانت المانيا الرسمية أطوع خادم لروما.
وعشية ثورتها أصبحت الخادم الأكثر خضوعا لمن هم أقل بكثير من روما، انها خادم
لبروسيا والنمسا، خادم الإقطاعيين والجهولين. مع ذلك، يبدو ان ثمة صعوبة أساسية
تقطع الطريق على ثورة ألمانية جذرية. الواقع ان الثورات تحتاج الى عنصر سلبي، الى
قاعدة مادية. ان النظرية لا تتحقق ابدا في شعب ما الا بقدر ما تكون التحقيق العملي
لحاجاته. هذه الهوة الهائلة، التي تفصل ما بين متطلبات الفكر الألماني والإجابات
التي يقدمها له الواقع الألماني، هل تؤدي الى طلاق المجتمع المدني من الدولة ومن
ذاته ؟ الحاجات النظرية المباشرة هل ستكون حاجات عملية ؟ لا يكفي ان ينزع الفكر
الى التحقيق، بل يجب أيضا ان ينزع الواقع الى ان يغدو فكرا.
والحال ان المانيا لم تصعد مع الشعوب العصرية درجات الرقي الوسيطة للتحرر
السياسي. بل ان الدرجات التي أرتقتها نظريا لم تصل اليها بعد من ناحية التطبيق
العملي. فكيف يمكنها ان تتجاوز بقفزة واحدة خطرة لا حواجزها الخاصة فقط، بل أيضا
تلك الحواجز التي تعيق الشعوب العصرية، الحواجز التي يتحتم ان تبدو لها في الواقع
كتحرر من الحواجز الفعلية، والذي ينبغي لها ان تجهد لكسبه. ان ثورة جذرية لا يمكن
ان تكون الا ثورة حاجات جذرية ينقصها كما هو واضح الشروط الممهدة والأرضية
المؤاتية.
لكن اذا كانت ألمانيا قد اقتصرت على مرافقة تطور الشعوب العصرية بالنشاط
التجريدي لفكرها دون الإسهام الفعلي في المعارك الواقعية التي وسمت ذلك التطور، الا
انها شاطرتها آلامه دون ان تشاطرها بهجته. ان النشاط التجريدي في جهة يناظر الألم
المجرد في الجهة الأخرى. لذلك سوف تجد ألمانيا نفسها يوما في دائرة الانحطاط
الأوربي، قبل ان تكون قد بلغت مستوى التحرر الأوربي. ويمكن تشبيهها بوثني تنخره
أمراض المسيحية.
اذا تأملنا بادئ بدء الحكومات الالمانية، وجدنا ان ظروف المانيا ووضعها
وحالة الثقافة الالمانية وأخيرا قطرة حسنة الطالع قد دفعت تلك الحكومات الى مزج
النقائص المتمدنة لأنماط الدولة العصرية، التي لا نتمتع بمزاياها وحسناتها،
بالنقائص البربرية للنظام القديم، الذي نتمتع به تمتعا تاما ؛ بحيث لا بد لالمانيا
من ان تشارك أكثر فأكثر، ان لم يكن في عقل، فعلى الاقل في لا عقل الأشكال الدولوية
التي يتخطى وضعها الخاص. هل يوجد مثلا بلد آخر في العالم،سوى المانيا المسماة
بالدستورية، يشاطر بهذا القدر من السذاجة أوهام النظام الدستوري كلها دون ان يشاطر
حقائقه الواقعة ؟ أو بالأحرى، أليس من المؤكد انه لقية لحكومة ألمانية هذا الجمع
بين تنكيل الرقابة وتنكيل قوانين أيلول الفرنسية، التي تفترض الوجود المسبق لحرية
الصحافة ؟ فكما نجد في (( البانتيون )) الروماني آلهة جميع الأمم، كذلك نجد في
الإمبراطورية الجرمانية نقائص سائر أشكال الحكم. وهذه الانتقائية سوف تبلغ مستوى
لم يخطر بعد ببال : إنها الشراهة السياسية – الجمالية لملك ألماني هو ذاته الضامن
لها ؛ فهذا الملك يحلم بأن يمثل كل أدوار الملكية، أقطاعية أو بيروقراطية، مطلقة
أو دستورية، ان لم يكن بواسطة الشعب، فعلى الأقل بواسطة ذاته الملكية. ان ألمانيا
– اي عورات الحقيقة الواقعة السياسية الحاضرة المتحولة الى عالم – لن تستطيع ان
تتخلص من الحواجز الالمانية المميزة، دون ان تقضي على الحاجز العام للحقيقة
الواقعة السياسية الراهنة.
ليست الثورة الجذرية التي هي حلم طوبوي بالنسبة لالمانيا، ليس التحرر
الإنساني الشامل، بل على العكس انها الثورة الجزئية، الثورة السياسية فحسب، الثورة
التي تترك ركائز البناء قائمة. ما قاعدة ثورة جزئية، سياسية فحسب ؟ انها التالية :
جزء من المجتمع المدني يتحرر ويتوصل الى الهيمنة على جُماع المجتمع ؛ طبقة معينة
تشرع، انطلاقا من وضعها الخاص، في تحرير المجتمع تحريرا عاما. هذه الطبقة تحرر
المجتمع كله، لكن فقط عندما يكون المجتمع بأكمله في وضع تلك الطبقة ويملك بالتالي
المال والثقافة، أو يستطيع الحصول عليها حسب مشيئته.
لا تستطيع أية طبقة في المجتمع المدني ان تلعب هذا الدور، دون ان تثير في
داخله وفي الجمهور لحظة حماسة، لحظة تتآخى فيها مع المجتمع عموما وتذوب فيه ؛
حينئذ تمتزج بالمجتمع، فيشعر ويعترف بأنها ممثله الكلي، ان مطالبها وحقوقها هي
فعلا حقوق المجتمع نفسه ومطالبه، إنها رأس المجتمع وقلبه بالفعل. باسم الحقوق
العامة للمجتمع فقط يمكن لطبقة مفردة ان تطالب بالهيمنة العامة. لاقتحام هذا
الموقع المحرر عنوة، وبالتالي من اجل التوصل الى ان تستثمر سياسيا كل دوائر
المجتمع لصالحها الخاص، لا تكفي الطاقة الثورية والشعور بقيمتها الفكرية. لكي
تتوافق ثورة شعب مع تحرر طبقة مفردة من المجتمع المدني، لكي تعتبر إحدى الفئات
الاجتماعية بمثابة فئة المجتمع بأكمله، يجب، على العكس من ذلك، ان تتركز كل نقائص
المجتمع في طبقة أخرى، يجب ان تصبح فئة معينة موضع خزي شامل، تجسيدا لعقبة شاملة،
ينبغي ان تشخص دائرة اجتماعية معينة الجريمة المفضوحة لكل المجتمع، بحيث يبدو
التحرر من هذه الدائرة كأنه تحرره الذاتي من كل قيد. لكي تكون إحدى فئات المجتمع
الفئة المحرِّرة الممتازة ينبغي، على العكس، ان تكون فئة أخرى، بكل وضوح،فئة
مستعبِدة. ان السمة السلبية العامة للنبالة الفرنسية وللاكليروس الفرنسي كانت شرط
السمة الايجابية العامة للطبقة التي كانت الأقرب إليها والمتعارضة معها :
البورجوازية.
لكن تفتقر كل كبقة مفردة في ألمانيا لا إلى الحصانة، الضراوة، الشجاعة،
الوقاحة فحسب التي يمكن ان تجعل منها الممثلة السلبية للمجتمع. لكن ينقص كل واحدة
منها أيضا هذه الرحابة في الفكر التي تتيح لها ان تتمثل وتماثل، وأن مؤقتا، روح
الشعب، هذه الجنيِّة التي تلهب القوة المادية وتحولها الى سلطة سياسية، هذه
الجسارة الثورية التي ترشق الخصم بهذا التحدي : أنا لست شيئا وينبغي ان أصبح كل
شيء. ان العنصر الرئيسي في الخلق والشرف الألمانيين، لا عند الأفراد فقط بل عند
الطبقات أيضا، هو، بالعكس، تلك الأنانية المتواضعة التي تتباهى بضيقها وتتركها
تستعمل ضدها. إذن فالعلاقات بين مختلف دوائر المجتمع الألماني ليست من طبيعة
درامية، بل ملحمية. ان كل دائرة منها تبدأ تعي ذاتها وتستقر الى جانب الأخريات
بمطامحها الخاصة، لا عندما تعاني ضغطا، بل عندما تخلق الظروف، ودون ان يكون لها أي
تأثير في ذلك، طبقة اجتماعية أدنى منها، تستطيع ان تمارس الضغط عليها. حتى ثقة
الطبقة الوسطى الألمانية بنفسها، على الصعيد الأخلاقي، لا تستند فقط الى انها تعي
انها الممثل الشامل للسطحية الجهولة لجميع الطبقات الأخرى. ليس الملوك الألمان
وحدهم هم الذين يرتقون العرش في ظرف غير ملائم، إنما هي كل دوائر المجتمع المدني
التي تشهد الهزيمة قبل ان تحتفل بانتصارها، ترفع حواجزها الخاصة قبل تجاوز الحاجز
الذي يوقفها، يظهر كيانها في ضيق أفقه قبل تمكنه من الظهور بعظمته، بحيث انها تفوت
على نفسها حتى فرصة تمثيل دورها الطبقي قبل ان توجد هذه الفرصة، وبحيث انها تجد
نفسها في صراع مع الطبقة الأدنى منها حين تباشر الصراع مع الطبقة الأعلى منها. إذن
فالأمراء يجدون أنفسهم في صراع مع الملكية، البيروقراطية مع النبالة، البورجوازية
معهم جميعا، في حين ان البروليتاري لا يلبث ان يبدأ الصراع ضد البورجوازي. ما تكاد
الطبقة الوسطى تأخذ بفكرة الانعتاق حتى يكون تطور الشروط الاجتماعية وتقدم النظرية
السياسية قد كشفا ان فكرة الانعتاق المزعومة قد انقضى عهدها، أو انها غدت موضع شك على
الأقل.
في فرنسا، يكفي ان يكون المرء شيئا ما لكي يريد ان يكون كل شيء. في
المانيا، يجب ألا يكون شيئا لكي لا يكون عليه ان يتخلى عن كل شيء. في فرنسا، يكون
الانعتاق الجزئي قاعدة الانعتاق الشامل، أما في المانيا فالتحرر الشامل شرط لازم
للانعتاق الجزئي. في فرنسا، نجد واقع التحرر على مراحل، أما في المانيا فمن
استحالة تولد الحرية الكلية. في فرنسا، كل طبقة من طبقات الشعب هي خيالية سياسية،
فلا تعي بادئ بدء ذاتها كطبقة خاصة مفردة، بل كممثلة للحاجات الاجتماعية عموما.
لذا يعود دور المحرر، في حركة درامية، الى مختلف طبقات الشعب الفرنسي، على
التوالي، ليصل في النهاية الى الطبقة التي تحقق الحرية الاجتماعية لا بافتراض شروط
خارجة عن الإنسان، وهي في الواقع من صنع المجتمع الإنساني، بل على العكس من ذلك
بتنظيم كل شروط الوجود الإنساني ابتداء من الحرية الاجتماعية. بالمقابل، ففي المانيا،
حيث الحياة العلمية مجردة من الفكر والحياة الفكرية مجردة من الممارسة سواء بسواء،
لا توجد طبقة في المجتمع المدني تشعر بالحاجة أو تملك القدرة على إطلاق حركة
الانعتاق الشامل، ما دام وضعها المباشر، الضرورة المادية، وقيودها هي ذاتها لا
ترغمها على ذلك. أين توجد إذن الإمكانية الأكيدة للانعتاق الألماني ؟
جواب : في تكوّن طبقة ذات قيود جذرية و طبقة من المجتمع المدني ليست طبقة
المجتمع المدني، فئة تشكل ذوب كل الفئات، دائرة تملك سمة شمولية بشمولية آلامها
ولا تطالب بحق خاص بها، لأنهم أوقعوا بها مظالم خاصة بل المظالم في حد ذاتها، ليس
في وسعها التبجح بصفة تاريخية ما، لكن فقط بصفة إنسانية، ليست في تناقض حصري مع
النتائج فحسب، بل في تناقض منهجي مع الشروط المسبقة للنظام السياسي الألماني،
لدائرة لا تستطيع في النهاية ان تتحرر دون ان تحرر نفسها من كل الدوائر الأخرى
للمجتمع ودون ان تحرر بالتالي بسبب هذا الواقع كل الدوائر الأخرى في المجتمع، الذي
هو، بكلمة مختصرة، الضياع الكلي للإنسان ولا يستطيع بالتالي ان يستعيد نفسه دون
الاستعادة الكلية للإنسان.
هذا الذوب للمجتمع المتحقق في طبقة مفردة هو البروليتاريا.
ان البروليتاريا ما زالت في بداية تكونها في المانيا، بفضل بدايات التطور
الصناعي، فالفقر المصنوع صنعا لا الفقر الناجم عن القوانين الطبيعية، الكتلة
البشرية المتأتية من التذويب العنيف للمجتمع ومن تذويب الطبقات الوسطى بالدرجة
الأولى لا سحق الشرائح الاجتماعية الناجم آليا عن ثقل المجتمع، هو الذي يكوّن
البروليتاريا، ولو ان الفقراء الذين هم فقراء بصورة اعتيادية وأقنان المجتمع
الالماني – المسيحي ينضمون كذلك الى صفوفها شيئا فشيئا.
عندما تعلن البروليتاريا عن انحلال النظام السالف، فهي تفصح عن سر وجودها
ذاته، لان هذا السر يمثل الانحلال الفعلي لهذا النظام. عندما تطالب البروليتاريا
بإلغاء الملكية الخاصة، فإنها لا تفعل سوى انها تنادي بأساس للمجتمع ما جعله
المجتمع أساسا لها، وهو ما تمثله البروليتاريا دون إرادة منها، من حيث كونها
الحصيلة السلبية للمجتمع. عندئذ يجد البروليتاري نفسه، بالنسبة الى العالم المقبل،
متمتعا بالحق نفسه الذي يتمتع به الملك الالماني بالنسبة الى العالم القائم، وذلك
عندما يقول عن الشعب انه شعبه، كما يقول عن الحصان انه حصانه. فالملك، بإعلانه ان
الشعب ملكية خاصة له، لا يعني سوى ان صاحب الملكية الخاصة ملك.
ان الفلسفة تجد في البروليتاريا أسلحتها المادية، كما تجد البروليتاريا في
الفلسفة أسلحتها الفكرية، وما ان يلامس بريق الفكر قلب تلك الأرض الشعبية البكر
حتى يتم الانعتاق الذي سيحول الالمان إلى بشر.
لنخلص الى النتيجة الحاصلة :
ان تحرر المانيا الوحيد الممكن عمليا هو تحررها على أساس النظرية التي
تنادي بأن الإنسان هو الكائن الأسمى للإنسان ذاته. في المانيا، الانعتاق من العصر
الوسيط ليس ممكنا إلا إذا جرى في نفس الوقت الانعتاق من امتداداتها الجزئية. في
المانيا، لا يمكن تحطيم اي شكل من أشكال العبودية إلا بتحطيم كل أشكال العبودية.
ان المانيا، التي تغوص الى أعماق الأشياء، لا تستطيع ان تصنع ثورة دون ان تصنع
الثورة التي تقلب كل شيء رأسا على عقب. ان انعتاق الألماني هو انعتاق الإنسان. ان
رأس هذا الانعتاق هو الفلسفة، وقلبه هو البروليتاريا. ان الفلسفة لا يمكن ان تحقق
الا بإلغاء البروليتاريا، البروليتاريا لا يمكن ان تلغي ذاتها الا بتحقيق الفلسفة.
عندما تتوفر كل الشروط، فأن فجر البعث الألماني سيعلن عنه صياح الديك الغالي (
الفرنسي).
اعداد وطبع
احمد عبد الستار