العفيف الأخضر
أيها
الغر فقد خصصت
بعقل فاسألنه،
فكل عقل نبي.
(أبو العلاء المعري)
(أبو العلاء المعري)
I مقدمة
لا
أطمح بهذا التقديم إلى الأجابة عن أسئلة ما زالت معلقة حول الدلالة التاريخية
لظهور الإسلام، حول الفئات والتشكيلات التى عبر عن مصالحها، حول معنى الصراعات
الفكرية-الإجتماعية والحروب الأهلية التى دارت رحاها على إمتداد قرون تحت
رايته، حول الأنظمة والمدارس المتباينة بله المتناحرة التى ادعت كلها نسبا
إليه، حول خصوصياته كدين، من الفه إلى يائه، شرقي، حول مقارنته بالمسيحية
واليهودية المعقلنتين، وحول الأسباب العميقة لظهور وسقوط بعض الأنظمة التى ولدت
تحت سمائه، وحول وضعه الراهن ؛ متعهدا بمحاولة الإجابة عن كل ذلك في كراس
قادم. ولكن هذا التحفظ لا يعنى أننى لن أمس الآن هذه أو تلك من اشكالات التاريخ
الإسلامى الوسيط والحديث وبخاصة الحركات الشيوعية فى القرنين الثالث و الرابع.
كل ما أطمح إليه من هذا التقديم هو مساعدة قراء هذا الكتاب الثمين* على قراءته قراءة نوعية تستلهم من نقد لينين لاوضاع روسيا ومبرريها سلاحاً لنقد أوضاعنا الراهنة ومبرريها وعلى رأسهم القيادات ”اللينينة“ العربية التى تشبه ”الفجل حمراء من الخارج وبيضاء من الداخل“ (لينين)، استعداداً لنقدها ونقدهم بالسلاح.
كل ما أطمح إليه من هذا التقديم هو مساعدة قراء هذا الكتاب الثمين* على قراءته قراءة نوعية تستلهم من نقد لينين لاوضاع روسيا ومبرريها سلاحاً لنقد أوضاعنا الراهنة ومبرريها وعلى رأسهم القيادات ”اللينينة“ العربية التى تشبه ”الفجل حمراء من الخارج وبيضاء من الداخل“ (لينين)، استعداداً لنقدها ونقدهم بالسلاح.
* * *
من مفارقات تاريخنا الحديث، وهى تستعصي على العد، أن هذا الشرق الذى ولد فيه الدين لم يلد فيه، فى تاريخه الحديث، نقد الدين. لأن الطبقات الصاعدة التى تجرأت على نقد الدين فى تاريخ أوروبا الحديث لم يعرفها تاريخنا الحديث إلا كطبقات مجهضة تخشى النقد والثورة أكثر مما يخشاهما رجال الدين ورجال الدولة أنفسهم.
* * *
ساد فى العصور الأوربية الوسطى ثلاثي اللـه،الملك والعالم في وحدة لا فكاك لها. على امتداد هذه العصور وعلى قامة هذا الثلاثي نمت المعارضات المختلفة وانفجرت الانتفاضات الشعبية، الثورية و الرجعية، التي ما كانت تتخفى وراء قناع الدين أو المطالبة بكنيسة قليلة النفقات الا لتوجه مسموم سهامها للنظام الإجتماعى الأقطاعى الذي عاش دهره.
من الطبيعى أن يكون نقد سيطرة الإقطاع بالفكر والسلاح نقدا مباشرا للكنيسة التى هى تركيب هذه السيطرة الأكثر شمولا ومبررها الاكثر حماسا. لأنه كان على القوى البورجوازية الصاعدة، التى تحتقر الشروط الإقطاعية السائدة في وعي الجماهير، أن تنزع تاج القداسة وتنزل بها من سماء اللـه إلى أرض الناس. وهكذا ”تحطمت الديكتاتورية الروحية للكنيسة التى نبذتها أغلبية الشعوب الجرمانية مباشرة باعتناقها البروتستانية. وكان الفكر الحر النشيط الذى أخذته الشعوب الرومانية عن العرب وغذته بالفلسفة اليونانية الحديثة الإكتشاف، بعمق جذوره أكثر فأكثر عند هذه الشعوب ويمهد لظهور مادية القرن 18ع“.1
قدم تحالف الملك، الإقطاع والكنيسة نفسه كتجل لارادة السماء التى لا مراد لها. أما نظام البورجوزاية فقد قدم نفسه وما يزال على أنه تجل لا مرد له هو الآخر لإرادة الإقتصاد. هكذا جعلت البورجوازية مملكتها من هذا العالم. وصنعت إلهها بيديها.
تتويج الهها : الإفتصاد، إقتصاد الإنتاج ثم إقتصاد الإستهلاك على عرش الإرض كان يتطلب، فى البدء كشرط ضروري، نزع تاج اله السماء الذى كان يغطي الأرض بظله.
تقلد هذه المهمة فرسان اقلامها الذين عروا حقيقة الوهم الديني بكشفهم عن جذوره الأرضية : ”قهر الحكومة هو الذى يجعل الدين ضرورياً. لأن الإنسان عندما يعيش حياة بائسة يفكر تفكيراً بائساً. تحرير الأنسان من الدين مشروط بتحريره من الظلم“2. وكتب ديدرو : ”سيظل النوع الإنساني بائساً طالما ظل على الأرض ملوك، قوانين، ملكية خاصة Le mien et Le tien وكلمات الفضيلة والرذيلة“. وحارب فقهاؤها، باسم التشريع الروماني، حملة الكنيسية على الربا، ظاهريا باسم شريعة المسيح وفى الواقع بأسم مصلحة النبلاء، بعنف لم يفقه، فيما بعد إلا عنف البورجوازية والكنيسة معا في محاربة مطالب العاملة الفتية.
كان معظم مفكرى عصر التنوير ملاحدة. وكانوا عموما ثوريين فكرا وممارسة إذ انهم كانوا طرفا مباشرا في الصراعات والأنتفاضات الدورية التى امتلأت بها حقبتهم العاصفة. ولم يكونوا، كما هو حال الكتاب العرب اليوم على هامشها، ولم يكونوا أيضا وخصوصا أسرى ضيق أفق الطبقة المبتذلة التى أرسوا قواعد سيطرتها. وهذا ما جعل رؤياهم وتحريضهم الثوريين يبلغان ذلك الحد من الراديكالية الذي ضاق به صدر طبقتهم بعد أن سيطرت وسادت. ”كان أبطال هذا العصر لم يصبحوا بعد عبيدا لتقسيم العمل الذي كثيرا ما نشعر بالحدود الكبرى التي يفرضها على خلفائهم وضيق الأفق الذي يولده عندهم“ (انجلس). لقد ذهب بعض منهم بعيدا فى تحريضه الثوري مثل دوشان ومسيلي Meslier الذي حرض العمال بالإضراب العام والعصيان المدني : ”أتركوا كليا خدمة هؤلاء الناس العتاة والعديمي الفائدة، اطردوهم طردا من مجتمعكم، وبهذه الوسيلة سترونهم قريبا هشيما كالأعشاب التي لم تعد جذورها تمتص نسغ الأرض“3.
راديكالية هذا التحريض كانت صدى لراديكالية تمردات الفلاحين الدورية (1630-1789) ولأنات الشعب المكبل و مطالبه التى لم تعد تحتمل المماطلة.
* * *
لكن القرن18 ع لم يكن خيرا كله : ففيه نزل الإنسان من سراب الإقطاع إلى مادية البورجوازية الوضيعة، من التجريد اللاهوتي إلى التجسيد الدنيوي، من اغتراب الإنسان أمام الطبيعة إلى أغتراب الإنسان أمام الإنسان، أغتراب العامل أمام المعلم عبر سيادة العمل المأجور : ”هذا الشكل الملطف من أكل لحوم البشر“ (ماركس). وأخيرا الإنسان فى القرن 18ع من السعادة الوهمية إلى الشقاء الفعلي : من الإقطاع إلى البورجوازية ولسان حاله يقول : الجنة غير موجودة أما الجحيم فنحن فيه.
لقد عرى النقد البورجوازي للدين الأغلال من الزهور الخيالية التى كانت تغطيها لا لكي يحطم الإنسان الأغلال ويجني الزهور اليانعة، بل لكي يحمل أغلاله بمهانة. وهنا يكمن الفارق النوعي بين النقد البورجوازي للدين والنقد البروليتاري للدين. هذا الأخير هو نقد نهر الدموع المكلل بالدين، هو الإنتقال من نقد السماء إلى نقد الأرض الرأسمالية، هو نقد لسلطة الإنسان على الإنسان فى آخر شكليها : البورجوزاي والبيروقراطي.
من البديهى أن هذه المهمة لم تكن مهمة البورجوازية بل هي مهمة البرليتاريا الراديكالية راديكالية الأغلال التي تحملها. ويومئذ كانت البروليتاريا ما زالت طفلاً يشكو ولم تصبح بعد عملاقا يتحدى.
* * *
انجلى غبار ثورة 1789-92 على سقوط مملكة الحق الإلهي و ظهور جمهورية الحق الإقتصادي فى فرنسا ثم في جل أوروبا.
اندفعت البورجوازية، فى نشوة انتصارها، إلى استبدال ميلاد المسيح، باعتباره تاريخ العهد البائد، بتاريخ ميلادها هي، كطبقة سائدة - اقتصاديا وسياسيا واديولوجيا، باعتبارها بداية للتاريخ الإنساني حقا. وهكذا أصبح عام 1792 فى التقويم المسيحي هو العام الأول فى التقويم البورجوازي للجمهورية الظافرة.
لكن هذا التحدي غير الحكيم انتهى مع دستور 1804 (العام 12 حسب التقويم البورجوازي). ذلك هو عمر الثورة البورجوازية لا باعتبارها انهاءا لصنع التاريخ بارادة السماء وتدشينا لصنع التاريخ بارادة الإقتصاد، بل باعتبارها بداية للتاريخ الإنساني الذي سلمت ضمنيا، بعودتها لتقويم العهد البائد، بأنها ليست هي التي ستدشنه بل أن البروليتاريا الثورية هى التى ستضع نهاية لما قبل تاريخ الإنسان.
هكذا عادت إلى البورجوازية الحكمة، حكمة فولتير : ”يجب أن يقاد الشعب لا أن يُعلَّم، لأنه ليس جديرا بذلك. السماء الغبية والأرض الغبية ضروريتان للدهماء الذين ليسوا إلا بقرا يحتاج إلى نير، إلى مهماز وإلى العلف (..) وإذا لم يكن اللـه موجودا فيجب أن نخلقه“ لحفظ النظام !
* * *
وفعلا خلقت البورجوازية الهها : ”اللـه هو السيطرة الغريبة لنمط الإنتاج البورجوازي“ (انجلس : انتي دوهرنج). ذلك لأن العمال في المجتمع البورجوازي خاضعون لسيطرة العلاقات الإقتصادية التي خلقوها بأنفسهم، خلقوها بوسائل الإنتاج التى أنتجوها بأنفسهم، كما لو كانوا خاضعين لقوة غريبة عنهم، لقضاء وقدر لا يفهمون له كنها ولا يستطيعون لشروره ردا.
وهكذا بعد أن كانت السلطة المراتبية (سيادة طبقة على أخرى وسيادة المراتب العليا على الدنيا) مبررة، فى التشكيلات السابقة للبورجوازية، بالأسطورة ثم بالأديان شبه التاريخية، أصبحت فى نظر البورجوازية التى أعلنت، ولو موقتاً موت اللـه، مبررة بالطبيعة الإنسانية المزعومة التي تجعل من الملكية الخاصة - أى حرمان الشعب، الذى هو مجموع الجموع التى انتزع منها أعتبارها واغتصبت منها حقوقها، املاكها ووقتها، من التمتع بالحياة، من تقرير مصيره في الحياة اليومية، من وضع نهاية لفصل الطبقة العاملة عن ملكية وسائل الإنتاج ولفصل العامل عن منتوج عمله - فطرة إنسانية، جوهرا أبديا، لا منتوجا اجتماعيا لتطور تاريخي مدرَك أو قابل للإدراك.
* * *
عدلت البورجوازية عن تقويمها الخاص لأنها تعرفت على نفسها - كطبقة معادية لمقدمات ثورتها نفسها التي جعلت التحرر الشامل للبروليتاريا، وبالتالي للإنسانية، ممكناً نظريا باستئصال سعادتها الوهمية وممكناً عمليا بتوفيرها الشروط المادية لتحقيق سعادتها الحقيقية - في العهود البائدة. ”لقد تعرفت على مصلحتها الحيوية في التصالح مع الدين. لأن نضالها ضده هو نضال غير مباشر ضد نفسها : ”لأن نقد الدين، هو بالقوة، نقد هذا النهر من الدموع المكلل بالدين“ (ماركس)4. لأن نزع الأشكال الدينية للاستلاب يفترض نزع أشكاله الدنيوية، لأن تحرير الإنسان من رق آلهة السماء الوهمية يقتضي تحريره من آلهة الأرض الحقيقية : الملكية الخاصة، العائلة والدولة5. ولانها عرفت أخيرا أنها طبقة كجميع الطبقات الجلادة، ”تحتاج إلى جلاد وكاهن“6 (لينين)، جلاد لقمع الثائرين وكاهن (اقرأ أيضا صحافي، معلق تلفزيون، مخرج، استاذ، كاتب، نقابي، ستاليني، معلن..) لقمع الوعي النقدي الشعبي بسلاح الأديولوجيا. لأن استمرار سيادة البورجوازية، أكثر من سيادة أي طبقة سبقتها، رهن، بالتوازي مع تنميتها للإنتاجية والإستهلاك، باستمرار تخليفها للوعى. لانها تدرك أن هذا الوعي ما ان يتحرر من سلبيته حتى يرمي بها أرضا.
* * *
حدث اليوم عمليا، فى المجتمعات الصناعية، ما تمثله ماركس نظريا : ستقضي الصناعة على الدين أو، بالأقل، تجعله كذبة مكشوفة، (الأديولوجيا الألمانية).
لهذا السبب تم في الغرب(الولايات المتحدة أوربا + اليابان) أو كاد الاستغناء عن مؤسسات أديولوجيا القمع العتيقة البعيدة عن الإنتاج (الدين، الاخلاق وقريبا الحزب) لكن دون أن يتم إلغاؤها، لأنها ما زالت رديفا فلكلوريا لترسانة القمع الجديدة الممركزة والخاضعة لإشراف الدولة التي تهيمن بدون منازع على آلية mecanisme الإستهلاك. وسائل الإعلام من التلفزيون إلى الاعلان. لأنها بدون بسط سيطرتها على هذه الأدوات التى تخلق بها الرأي العام السلبي لا يستطيع كذبها المنظم أن يصمد أمام انتفاضة الوعي البروليتاري حالما يعي شروط تزييفه.
* * *
تزامن ظهور الآلهة مع ظهور التبادل غير المتساوي بين الأفخاذ والقبائل ومع ظهور نظام المراتب. لجعل اللامساواة بين المتبادلين غير المتكافئين مشروعة، لخنق صوت الأحتجاج عند ضحايا الغمط وعند ضحايا السلطة المرانبية، لجعل قانون القوة قوة القانون، لكي يصبح الإرغام الخارجي واجبا من واجبات الضمير، كان لابد من مبرر أعلى من الإنسان ومتعال عليه يقدم للضحية العزاء و يقدم لجلادها المبرر7، يصبغ على تنظيم العلاقات الإجتماعية الذي صاغه الناس بأنفسهم، على تقسيم العمل إلى ذهني ويدوي الذي اقتضاه نظام المراتب، هيبة سلطان القداسة الأسطورية في المجتمعات الرعوية، والقداسة الدينية فى المجتمعات الزراعية.
لكن تقسيم العمل لم يكن وليد صدفة بل كان وليد وضع محدد من تطور المجتمع البدائي الذي اندفع، ولو بثمن مظلمة من حجم مظلمة تقسيم العمل، لتنظيم بقائه على قيد الحياة معفيا فصيلا من أعضائه من الأضطلاع بمهام الإنتاج المباشر لأشياء الحياة الضرورية (زراعة الأرض)، ومخصصاً حصة من مواده لصيانة مؤسسات أديولوجية صرف.
لم تكن هذه المؤسسات الدينية، بالنسبة للنخبة السائدة، بدون مردود : فقد كانت تعوض عدم كفاية القوى المنتجة بفضل تسويغها للضرورات التى كانت تنظم العلاقات الإجتماعية المتناسبة مع درجة تطور هذه القوى، كما كانت تقنن أستخدام الزمان والمكان مقيمة الفواصل والحدود بين المقدس والمدنس le Sacré et Profane وكانت بوجودها ذاته تحقق عدداً من الإكراهات : الدولة، المعابد، القصور... وباختصار استطاعت المؤسسات الأيدلوجية الصرفة، بتوحيدها لمؤسسات الدولة البدائية مع مؤسسات اللـه، ان تحصنها من معارضة الجماهير المظلومة التي كان عليها أن تخشى ظل اللـه على الأرض (الدولة) بقدر ما تخشى اللـه نفسه. ”لقد لعب الدين والسياسية نفس الدور ؛ لقد وعظ الدين (الناس) بما كان الإستبداد يريده : إحتقار النوع الإنساني، عجزه عن تحقيق الخير بأي درجة كانت وعجزه عن أن يكون شيئاً ما بنفسه (هيجل). أحتقار الجسد كمكان للخطيئة، واحتقار الحياة كدار فانية وتحويل جريمة التضحية بالنفس فى سبيل الآخر، حاكماً كان أو إلهاً، إلى واجب مقدس.
|
هوامش :
*- يقصد العفيف الاخضر هنا ”نصوص حول الموقف من الدين“ وهي نصوص مختارة من كتابات لينين، قام بترجمتها محمد كبّة (دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت). الذي قام الاخضر هنا بمراجعته وبكتابة مقدمته تحت عنوان ”من نقد السماء الى نقد الارض“
1- انجلس : ديالكتيك الطبيعة.
2- الكاهن : Don Deschamps في كتابه Le vrai Système الذي وصفه ديدرو Diedro بأنه أحد الكتب الاكثر عنفا وأصالة.
3- Œuvre de Jean Meslier. Ed. Anthropos
4- نقد فلسفة الحق عند هيغل : ترجمة م. الخياطي. ب. المهدب ع. الاخضر
5- يوم اضطهاد المجتمع الرأسمالي على ثلاث دعائم : الملكية الخاصة : اغتصاب الاقلية لاملاك، فائض القيمة وفائض وقت الاكثرية المنزوعة الملكية. العائلة : معمل الايديولوجيا الاستبدادية، مخفر قمع عفوية وغرائز الاطفال، مكان تشويه نشاطهم الذهني والجنسي ونفي استقلاليتهم، المدرسة الاولى لتعليم الطفل الخنوع امام سلطة الاب وبالتالي القائد، رب العمل ورب الدولة. انها خلية النظام القائم الاولى وضمانة استمرارية مراتبه. ووفرة استهلاك بضائعه المفرغة من القيمة الاستعمالية. الدولة : قمع طبقة لطبقة اخرى. (لينين)
6- في 1850 عرض الوزير Falloux قانون ”الحرية“ على البرلمان. وابرز ما في هذا القانون وضع التعليم تحت رقابة الكهنة : ”لكي، كما قال الوزير، يقوم الكهنة بواجبهم الذي هو وعظ الفقراء بان يخضعوا للاغنياء“. وهذا ما استفز مشاعر فيكتور هيجو فهاجم ”البورجوازية الملحدة من اللون الكاثوليكي“. واستنكر عليها ان تدعو ”الكنيسة أماً لتجعل منها خادمة لها“.
(Ne l’appelez pas votre mère pour faire d’elle votre servante)
7- الضحايا كانوا بحاجة للدين كوعد بالسعادة في الدار الآخرة بنما كان الحاكمون المتمتعون فعلا بالسعادة في شروط الامكانيات المتاحة في غير حاجة الى الدين الا كخدعة وضابط.
-----------------------------------------------
II أين
وصلت المسألة الدينية في الغرب ؟
شيئا
فشيئا، وبشكل حاسم، فى النصف الثاني من هذا القرن، أستبدلت المؤسسات الدينية التي
صدأت سيوفها فى الغرب بمؤسسات المشهد : le Spectacle سيطرة المظهر على
الجوهر. ”يقدم المشهد نفسه كإيجابية هائلة لا مرية فيها ولا تنال. فهو لا يقول
أكثر ”من أن ما تشاهده خير، والخير تشاهده“. والموقف الذي يفرضه المشهد هو مبدئيا
القبول السلبي الذي قد حصل عليه عمليا بطريقة ظهوره التي لم يواجهها اعتراض
وباحتكاره للمظهر (جى دوبور)1.
حدث هذا التحول لأن المؤسسات القديمة استنفذت أغراضها بامتلاك المجتمع البورجوازي المعاصر القدرة التقنية على إنتاج الإكراه والضرورات والحدود القديمة تحت أشكال جديدة. لم تعد المراتبية الغربية اليوم بحاجة إلى المعبد والكاهن لشل بذور التمرد فى وعي طبقة العبيد الجدد : البروليتاريين المحرومين من استخدام وقتهم للاستمتاع بحياتهم. لقد أستبدلت المعبد والكاهن بالمعمار l’urbanisme : التنظيم الإلزامي للمكان والعزلة، بالتليفزيون وبالأستهلاك.
السعادة لم تعد وعدا اسطوريا كما كانت فى الدين، بل أصبحت الزاما إقتصاديا : أيها العامل كلما ازدادت انتاجيتك، وكلما أزداد استهلاكك أزدادت سعادتك.هذا هو ما يميز الإستهلاك المشهدي، وريث الدين : إعطاء الثواب، عن الحرمان الفعلي، في العاجلة لا في الآجلة. الجنة لم تعد في السماء بل في المخازن.. وويل لاصحاب الجيوب الفارغة ! تماماً كما في الدين، لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، كذلك فى حضارة الإستهلاك، لا فرق بين أسود وأبيض بين أهلي وغريب إلا بكمية البضائع المستهلكة.
الإقتصاد الرأسمالي العقلاني في الظاهر تحكمه في الواقع لا عقلانية جوهرية : لأنه، لكي يتفادى الأزمة : إختلال التوازن بين القدرة الشرائية وكمية البضائع المعروضة في السوق، بين كثرة الإنتاج وقلة الإستهلاك، أستنجد بالتبذير وبديكتاتورية الإستهلاك.
هكذا بمقدار ما انتج اقتصاد الإستهلاك من تعددية الأشياء المفرغة من القيمة الإستعمارية بمقدار ما اختزل الإنسان المتعدد الأبعاد إلى بعدين اثنين : منتج - مستهلك. منتج لأي شيء (قنابل نابالم، فسفور، ميكروبات الحروب البيكتيريولوجية..) ومستهك لأي شيء (من الاسبرو المدمر للامعاء إلى المعلبات المغشوشة بالزئبق السام..)2.
ديكتاتورية الإستهلاك (ديكتاتورية البورجوازية المعاصرة) هي استبدادية توتاليتارية من طراز جديد لا تفرض نفسها الآن (من يدري غداً ؟) بالعنف البوليسي على رعاياها (لكن بالمقابل تفرض نفسها فى المستعمرات، في فيتنام بفاشية جديرة بآكلي لحوم البشر) بقدر ما تتسلل بعنفها غير المرئي والمدمر - تماما كما فعل الدين - الى سريرتهم، كمستهلكين سلبيين، عبر عقلانية تيكنوقراطية تجرد الانسان - الذات من نقديته وإنسانيته معاً وجمعيا، مختزلة آياه إلى بضاعة تنتج البضاعة وتستهلك البضاعة والصور.
ليست الحضارة الإستهلاكية المعاصرة إلا مراكمة منوعة للبضائع : راديوات، تلفزيونات، برادات، سيارات إلخ. لكن المستهلك السلبي، الذي يفعل الحب ولا ينفعل، فهو، فى واقع حاله، كلما ازداد ثراؤه الكمي بامتلاك الاشياء ازداد فقره النوعي من امتلاك الضجر له وابتعاد حلم السعادة الحقيقية المعاشة التي تجعل منه إنسانا مستلبا، مشطورا على ذاته ومعزولا عن الآخرين الذين لم تعد علاقاته بهم إلا علاقات بين الأشياء.
العامل فى الغرب اليوم وهو في شقته المكيفة، التي عزلته عن الناس لترغمه بدون عصا على الأستماع لرسالة النبي الجديد الذي يعلم الناس الإكتفاء بمشاهدة تمثيل الواقع بدلاً من عيش الواقع : التليفزيون الذي جعل الأب لا ضرورة له والروح والفكر أشياء تخطاها الزمن، ليس أقل شقاء من جده الذي كان ينام فى القرن 19ع، مع الخنازير في بيوت افاض اميل زولا فى وصفها ونتعرف عليها فى مخيمات اللاجئين وأحياء العمال العرب اليوم !
تماماً كما أعطى الأنبياء القدامى شيك بدون رصيد لتزييف مطلب الإنسان فى عيش السعادة، خلقت الطبقة السائدة فى الغرب حاجات مزيفة لدى الناس وقدمت لهم بضائع بدون قيمة استعمالية لإرضائها بشكل لا يقل زيفا. كما خفض الدين الانسانية البرئية إلى أشلاء من العبيد الخطاة الراضين بعبوديتهم باعتبارها قصاصا مستحقا عن الخطيئة الأصلية، حوّل المشهد الناس إلى أشلاء متساوية في التفاهة، في الإقبال على الإستهلاك وفي معايشة الضجر3. إذا كان لأبناء العالم القادم أن يتذكروا البورجوازية بشيء، فبكونها نقلت رعاياها من عصور الموت جوعا إلى عصر الموت ضجرا.
كما قضى الدين على التعايش في انسجام بين الإنسان والعالم وخلق لفصلهما سلسلة من الشاشات والوسائط، كذلك قضت الحضارة البورجوازية على التواصل Communication الإنساني بما خلقته من شاشات، وسائط، وبضائع. وقضت على مكان هذا التواصل بالذات : على الشارع الذي كف عن كونه مكان لقاء وحوار بين ساكنيه ليصبح مكان صف السيارات وموضوعا لرقابة البوليس. وقضت أخيرا على الطبيعي في الطبيعة والانساني في الانسان.
في مرحلة إقتصاد الإنتاج استبدلت البورجوازية شعار النبلاء : الوقت من أجل اللذة بشعارها الكئيب : الوقت من أجل الإنتاج. ثم في مرحلة إقتصاد الإستهلاك بـ : الوقت من أجل الاستهلاك4.
لذا نرى بدايات المشروع الثوري الذي بدأ يعبر عن نفسه في الإضرابات العمالية النوعية، الجديدة شكلا ومضمونا وفي إنتفاضة ايار 68، يرفع شعار العودة إلى الوقت من أجل اللذة بدون عودة النبلاء. وهي عودة أصبحت مستحيلة تاريخيا.
ليس في المشروع الثوري الغربي، كما سيتراءى لمنظري التخلف المتخلفين أي طوباوية طفولية. فالتيكنولوجيا وبالتحديد الاتمتة automation (الآلية - الذاتية) قضت نظريا على عصر التعب ودشنت عصر اللعب. الآلة والادمغة الالكترونية تسمح الآن بان يصبح الوقت المرصود للانتاج - انتاج القيم الإستعمالية فقط - هامشيا. والوقت الموظف في الاستمتاع الحر بالحياة الحرة أساسيا. لكن ذلك لم يقع ولن يقع حتى يطاح بسلطة البورجوازية.
حدث هذا التحول لأن المؤسسات القديمة استنفذت أغراضها بامتلاك المجتمع البورجوازي المعاصر القدرة التقنية على إنتاج الإكراه والضرورات والحدود القديمة تحت أشكال جديدة. لم تعد المراتبية الغربية اليوم بحاجة إلى المعبد والكاهن لشل بذور التمرد فى وعي طبقة العبيد الجدد : البروليتاريين المحرومين من استخدام وقتهم للاستمتاع بحياتهم. لقد أستبدلت المعبد والكاهن بالمعمار l’urbanisme : التنظيم الإلزامي للمكان والعزلة، بالتليفزيون وبالأستهلاك.
السعادة لم تعد وعدا اسطوريا كما كانت فى الدين، بل أصبحت الزاما إقتصاديا : أيها العامل كلما ازدادت انتاجيتك، وكلما أزداد استهلاكك أزدادت سعادتك.هذا هو ما يميز الإستهلاك المشهدي، وريث الدين : إعطاء الثواب، عن الحرمان الفعلي، في العاجلة لا في الآجلة. الجنة لم تعد في السماء بل في المخازن.. وويل لاصحاب الجيوب الفارغة ! تماماً كما في الدين، لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، كذلك فى حضارة الإستهلاك، لا فرق بين أسود وأبيض بين أهلي وغريب إلا بكمية البضائع المستهلكة.
الإقتصاد الرأسمالي العقلاني في الظاهر تحكمه في الواقع لا عقلانية جوهرية : لأنه، لكي يتفادى الأزمة : إختلال التوازن بين القدرة الشرائية وكمية البضائع المعروضة في السوق، بين كثرة الإنتاج وقلة الإستهلاك، أستنجد بالتبذير وبديكتاتورية الإستهلاك.
هكذا بمقدار ما انتج اقتصاد الإستهلاك من تعددية الأشياء المفرغة من القيمة الإستعمارية بمقدار ما اختزل الإنسان المتعدد الأبعاد إلى بعدين اثنين : منتج - مستهلك. منتج لأي شيء (قنابل نابالم، فسفور، ميكروبات الحروب البيكتيريولوجية..) ومستهك لأي شيء (من الاسبرو المدمر للامعاء إلى المعلبات المغشوشة بالزئبق السام..)2.
ديكتاتورية الإستهلاك (ديكتاتورية البورجوازية المعاصرة) هي استبدادية توتاليتارية من طراز جديد لا تفرض نفسها الآن (من يدري غداً ؟) بالعنف البوليسي على رعاياها (لكن بالمقابل تفرض نفسها فى المستعمرات، في فيتنام بفاشية جديرة بآكلي لحوم البشر) بقدر ما تتسلل بعنفها غير المرئي والمدمر - تماما كما فعل الدين - الى سريرتهم، كمستهلكين سلبيين، عبر عقلانية تيكنوقراطية تجرد الانسان - الذات من نقديته وإنسانيته معاً وجمعيا، مختزلة آياه إلى بضاعة تنتج البضاعة وتستهلك البضاعة والصور.
ليست الحضارة الإستهلاكية المعاصرة إلا مراكمة منوعة للبضائع : راديوات، تلفزيونات، برادات، سيارات إلخ. لكن المستهلك السلبي، الذي يفعل الحب ولا ينفعل، فهو، فى واقع حاله، كلما ازداد ثراؤه الكمي بامتلاك الاشياء ازداد فقره النوعي من امتلاك الضجر له وابتعاد حلم السعادة الحقيقية المعاشة التي تجعل منه إنسانا مستلبا، مشطورا على ذاته ومعزولا عن الآخرين الذين لم تعد علاقاته بهم إلا علاقات بين الأشياء.
العامل فى الغرب اليوم وهو في شقته المكيفة، التي عزلته عن الناس لترغمه بدون عصا على الأستماع لرسالة النبي الجديد الذي يعلم الناس الإكتفاء بمشاهدة تمثيل الواقع بدلاً من عيش الواقع : التليفزيون الذي جعل الأب لا ضرورة له والروح والفكر أشياء تخطاها الزمن، ليس أقل شقاء من جده الذي كان ينام فى القرن 19ع، مع الخنازير في بيوت افاض اميل زولا فى وصفها ونتعرف عليها فى مخيمات اللاجئين وأحياء العمال العرب اليوم !
تماماً كما أعطى الأنبياء القدامى شيك بدون رصيد لتزييف مطلب الإنسان فى عيش السعادة، خلقت الطبقة السائدة فى الغرب حاجات مزيفة لدى الناس وقدمت لهم بضائع بدون قيمة استعمالية لإرضائها بشكل لا يقل زيفا. كما خفض الدين الانسانية البرئية إلى أشلاء من العبيد الخطاة الراضين بعبوديتهم باعتبارها قصاصا مستحقا عن الخطيئة الأصلية، حوّل المشهد الناس إلى أشلاء متساوية في التفاهة، في الإقبال على الإستهلاك وفي معايشة الضجر3. إذا كان لأبناء العالم القادم أن يتذكروا البورجوازية بشيء، فبكونها نقلت رعاياها من عصور الموت جوعا إلى عصر الموت ضجرا.
كما قضى الدين على التعايش في انسجام بين الإنسان والعالم وخلق لفصلهما سلسلة من الشاشات والوسائط، كذلك قضت الحضارة البورجوازية على التواصل Communication الإنساني بما خلقته من شاشات، وسائط، وبضائع. وقضت على مكان هذا التواصل بالذات : على الشارع الذي كف عن كونه مكان لقاء وحوار بين ساكنيه ليصبح مكان صف السيارات وموضوعا لرقابة البوليس. وقضت أخيرا على الطبيعي في الطبيعة والانساني في الانسان.
في مرحلة إقتصاد الإنتاج استبدلت البورجوازية شعار النبلاء : الوقت من أجل اللذة بشعارها الكئيب : الوقت من أجل الإنتاج. ثم في مرحلة إقتصاد الإستهلاك بـ : الوقت من أجل الاستهلاك4.
لذا نرى بدايات المشروع الثوري الذي بدأ يعبر عن نفسه في الإضرابات العمالية النوعية، الجديدة شكلا ومضمونا وفي إنتفاضة ايار 68، يرفع شعار العودة إلى الوقت من أجل اللذة بدون عودة النبلاء. وهي عودة أصبحت مستحيلة تاريخيا.
ليس في المشروع الثوري الغربي، كما سيتراءى لمنظري التخلف المتخلفين أي طوباوية طفولية. فالتيكنولوجيا وبالتحديد الاتمتة automation (الآلية - الذاتية) قضت نظريا على عصر التعب ودشنت عصر اللعب. الآلة والادمغة الالكترونية تسمح الآن بان يصبح الوقت المرصود للانتاج - انتاج القيم الإستعمالية فقط - هامشيا. والوقت الموظف في الاستمتاع الحر بالحياة الحرة أساسيا. لكن ذلك لم يقع ولن يقع حتى يطاح بسلطة البورجوازية.
* * *
في المجتمع الغربي انتقل الثوريون من نقد المؤسسات اللاهوتية الى نقد مؤسسات الثقافة الجماهيرية الممركزة. ولن تطيح ثورة الشيوعية القادمة فيه بالدين، فهذه مهمة قد انجزت، بل بالمشهد.
|
هوامش :
1- Guy Debord : La société du spectacle. Ed. Buchet وهو كتاب ثوري يأتي، من حيث الاهمية، الثاني بعد رأس المال
2- مؤخرا منعت الحكومة اللبنانية استرداد المعلبات الامريكية لأنها مغشوشة بالزئبق. لكن يبدو، لمن يغشى الاسواق، ان القرار بقي حبرا على ورق. تحيا حرية التجارة !
3- اقرأ : السأم. مورافيا دار الآداب
4- يحق للبوليس في مدن الولايات المتحدة ان يعتقل اي متجول بدون ”هدف“ الا اذا اثبت ان هدفه هو مشاهدة البضائع المعروضة بنية استهلاكها....
|
-------------------------------------------------------
III من
نقد اللاهوت إلى نقد الإستبداد البيروقراطي
في
العالم البيروقراطي، الماركسي اللينيني، استبدلت عصمة الكنيسة بعصمة الحزب
البيروقراطي الواحد، استبدلت المثالية الدينية بالاديولوجيا المادية البيروقراطية
واستبدل المسيح بستالين (ستالين هنا هو رمز للامين العام للجنة المركزية فى
الأحزاب البيروقراطية) فهو ”أعظم الفلاسفة فى كل العصور“ (اراجون Aragon) وهو ”صاحب القدح
المعلَّى فى الفن والادب“ (روحى جارودي) وهو ”الاب العبقري لجميع
الشعوب“(لومانيتى، جريدة ح.ش.الفرنسي) على الارض كما يسوع اباها الذي في السماء
...
سر هذه الظاهرة يكمن في واقع ان الطبقة البيروقراطية عندما تكون ما زالت لم تنجز مهمة التراكم البدائي لرأس المال، عندما تكون مازالت في مرحلة التكون التجريبي واكتمال الملامح، تكون بحاجة إلى أيدلوجية كلية الإستبداد ومعصومة متجسدة فى زعيم كلي الإستبداد ومعصوم هو الآخر (ستالين، ماو) لتوطيد سيطرتها على الفلاحين، على العمال، ثم على الجميع. ولقمع الصراعات الزمرية في صلب الطبقة ذاتها. في هذه المرحلة لا تستطيع البيروقراطية فرض سلطتها المطلقة الا بالارهاب المطلق داخل وخارج صفوفها، بالمركزية والانضباط الحديديين وبدقة طقوسية فى عبادة التسلسل المراتبى ابتداء من الاعلام إلى المرتب. حسب المرء الرجوع إلى تاريخ الكنيسة ليجد تشابها مذهلا بين مراتبية الكنيسة ومراتبية الأحزاب البيروقراطية.
لكن ما أن ينجز التراكم بوسائل سماها بوخارين همجية، وما أن تكتمل ملامح الطبقة البيروقراطية وتتبلور مصالحها بما فيه الكفاية حتى تصبح قيادة أركانها إلى درجة تزيد أو تنقص، حسب الحالات العينية، محكومة بالمصالح الموضوعية للطبقة ككل لا بانفعالات أو إجتهادات الزعيم البونابارتى. وهكذا تقل حاجاتها لوضع شاشة مقدسة (ايدلوجيا، زعيم) بينها وبين رعاياها. وتتخلى بالتالي عن عصمة الأيديولوجية (التحريفية الخروتشوفية) وعن عديلها وضامنها : عصمة الزعيم الذي يتحول من أب عبقري لجميع الشعوب إلى ”شقى، طاغية ومجرم“ على حد وصف تقرير المؤتمر العشرين لستالين.
في هذه المرحلة تنتقل الطبقة المتشكلة من عبادة القائد إلى عبادة القيادة الجماعية، من الحاجة إلى البطل البيروقراطي إلى الحاجة إلى الكادر التكنوقراطي (من لين بياو إلى شوان لاي)، من عبادة الدوجم dogme إلى عبادة الذرائعية : الفعالية فى زيادة الإنتاج والإنتاجية. ويصبح قمعها لمعارضيها خاصة داخل صفوفها أضيق نطاقا، أقل دموية1 وأكثر تخفيا، لأنها باتت أكثر ثقة بنفسها وبرسوخ سلتطها.
يتزامن هذا الإنتقال مع إنتقال آخر : من التشويش على الاوضاع الراهنة العالمية والتحريض اللفظي ضدها إلى الواقعية في السياسة الخارجية التي تجد تعبيرها في التعايش السلمي بشتى مراحله : الانفراج فالتفاوض فالتعاون. ذلك ما حصل فى روسيا ودول أوربا الشرقية الدائرة في فلكها، وما بدأ يحصل في صين ماو وهو على قيد الحياة.
سر هذه الظاهرة يكمن في واقع ان الطبقة البيروقراطية عندما تكون ما زالت لم تنجز مهمة التراكم البدائي لرأس المال، عندما تكون مازالت في مرحلة التكون التجريبي واكتمال الملامح، تكون بحاجة إلى أيدلوجية كلية الإستبداد ومعصومة متجسدة فى زعيم كلي الإستبداد ومعصوم هو الآخر (ستالين، ماو) لتوطيد سيطرتها على الفلاحين، على العمال، ثم على الجميع. ولقمع الصراعات الزمرية في صلب الطبقة ذاتها. في هذه المرحلة لا تستطيع البيروقراطية فرض سلطتها المطلقة الا بالارهاب المطلق داخل وخارج صفوفها، بالمركزية والانضباط الحديديين وبدقة طقوسية فى عبادة التسلسل المراتبى ابتداء من الاعلام إلى المرتب. حسب المرء الرجوع إلى تاريخ الكنيسة ليجد تشابها مذهلا بين مراتبية الكنيسة ومراتبية الأحزاب البيروقراطية.
لكن ما أن ينجز التراكم بوسائل سماها بوخارين همجية، وما أن تكتمل ملامح الطبقة البيروقراطية وتتبلور مصالحها بما فيه الكفاية حتى تصبح قيادة أركانها إلى درجة تزيد أو تنقص، حسب الحالات العينية، محكومة بالمصالح الموضوعية للطبقة ككل لا بانفعالات أو إجتهادات الزعيم البونابارتى. وهكذا تقل حاجاتها لوضع شاشة مقدسة (ايدلوجيا، زعيم) بينها وبين رعاياها. وتتخلى بالتالي عن عصمة الأيديولوجية (التحريفية الخروتشوفية) وعن عديلها وضامنها : عصمة الزعيم الذي يتحول من أب عبقري لجميع الشعوب إلى ”شقى، طاغية ومجرم“ على حد وصف تقرير المؤتمر العشرين لستالين.
في هذه المرحلة تنتقل الطبقة المتشكلة من عبادة القائد إلى عبادة القيادة الجماعية، من الحاجة إلى البطل البيروقراطي إلى الحاجة إلى الكادر التكنوقراطي (من لين بياو إلى شوان لاي)، من عبادة الدوجم dogme إلى عبادة الذرائعية : الفعالية فى زيادة الإنتاج والإنتاجية. ويصبح قمعها لمعارضيها خاصة داخل صفوفها أضيق نطاقا، أقل دموية1 وأكثر تخفيا، لأنها باتت أكثر ثقة بنفسها وبرسوخ سلتطها.
يتزامن هذا الإنتقال مع إنتقال آخر : من التشويش على الاوضاع الراهنة العالمية والتحريض اللفظي ضدها إلى الواقعية في السياسة الخارجية التي تجد تعبيرها في التعايش السلمي بشتى مراحله : الانفراج فالتفاوض فالتعاون. ذلك ما حصل فى روسيا ودول أوربا الشرقية الدائرة في فلكها، وما بدأ يحصل في صين ماو وهو على قيد الحياة.
* * *
لكن مهما مطت البيروقراطية ليبراليتها فإنها لن تتخطى حدين محرمين : الاعتراف بهويتها أي بانفصالها الفعلي عن البروليتاريا وانكار احتكار الحزب - حتى مع الإقرار الممكن بامكانية الخطأ الذي لا يجوز أن يصححه الا هو نفسه وفي الوقت الذي يراه مناسبا - للمعرفة.
قوة البيروقراطية تكمن في انكارها لوجودها، كمحاولة يائسة لارتداء طاقية الإخفاء امام الوعي البروليتاري - وكل الذين يتجاسرون على تذكيرها بوجودها المنفصل عن البروليتاريا أي بضرورة إنهاء وجودها، ليسوا بنظرها إلا هراطقة تلاحقهم بتهم قليلة الإختلاف عن تلك التي لا حقت بها الكنيسة هراطقتها فى العصور الوسطى.
طغيان الحزب البيروقراطي يتجلى في قراره بأن المعرفة إحتكار له والتاريخ من صنعه. البروليتاريا لم تعد ذاتا صانعة للتاريخ كما هي والتاريخ في الواقع وكما كانت عند ماركس بل أصبحت موضوعا منفعلا لمعرفة الحزب وقرارته التاريخية . تماما كما كانت كنيسة محاكمة التفتيش تدعي بأن معرفة الحقيقة وقف عليها وأن رعاياها موضوع لمعرفتها وعناية محاكمها الدموية.
لنأخذ بالصدفة مثلاً قريبا منا مكانا وزمانا : الطلبة الذين يحرضون بالتسيير الذاتي الشامل في يوغسلافيا، التي تدين رسميا بالتيسيير الذاتي، طبعا التسيير الذاتي كما يفسره الحزب وتطبقه البيروقراطية : تسيير العمال لاستلابهم الذاتي، يلاحقون لأنهم ”أعداء الشعب والدولة“ مثلما حصل لكلوجيك، امسيروفيك ونيكوكيك.
في رسالة نشرتها مؤخرا (المانيفستو) الإيطالية كتبها الطلاب الثلاث وهربوها من سجنهم، نجد كل ما يعيد للذاكرة ذكريات كنيسة التفتيش : ”إننا ملاحقون من أجل الهرطقة لإننا أعلنا بأن العلاقات الاشتراكية الانسانية حقا لا سبيل إلى إقامتها فى إطار إقتصادي بضاعي وتنافس مجنون ؛ وبان الديموقراطية الاشتراكية والتسيير الذاتي لا يمكن أن يوجد ما دام الحزب يعزز باستمرار الدور السياسي والإقتصادي للدولة. وبان أحدا لا يستطيع أن يدعي تحقيق التسيير الذاتي العمالي وسلطة الطبقة العاملة بينما لا وجود لعمال في حيث تتخذ القرارات الأساسية... بينما يتناقص عدد وتأثير العمال في الحزب الواحد القابض على السلطة (...). إننا متهمون بالهرطقة لإننا فكرنا بأن من الممكن بل من الضرورى التحقيق الفوري للتسيير الذاتي العمالي الشامل فى جميع مستويات المجتمع - من مستوى المعمل إلى مستوى الإتحادية اليوغسلافية، وذلك بتمكين الجماهير من تسيير المجتمع وبالقضاء على دور ”السياسييين المحترفين““.
فى نفس يوغسلافيا حيث البروليتاريا سائدة دعائيا، أدين طالب بالسجن 20 شهرا لأنه أضرب عن الطعام تضامنا مع عمال البوسنة الذين احتلوا المنجم واعتقلوا مديره.
وفي هذا الشهر، دائما في يوغسلافيا، صودرت مجلة ”براكسيس Praxis“ لأنها قالت بأن ”الماركسية أصبحت في يوغسلافيا قطعة أثرية في متحف العاديات، والماركسيون فيها ملاحقون“.
اسبانيا توركمادا وسيسنروس2 مازالت حاضرة فى مكان تقريبا من المعسكر البيروقراطي الذي جعل الأجهزة كبيرة والناس صغارا، اختزل، الفلاحين، العمال والشباب إلى عبيد ونصب دولة الحزب كنيسة مقدسة لا يرقى إليها الهمس.
* * *
هنا مهمة الثوريين والثورة الانتقال من نقد الدين إلى نقد الإيدلوجيا البيروقراطية ومن اللاهوت إلى نقد الاستبداد البيروقراطي الشامل. هنا نقد الجنة الدينية يتحول إلى نقد جحيم البيروقراطية.
* * *
إذا كان نقد الدين فى العالم المتقدم، إقتصاديا مهمة قد انهتها من حيث الأساس البورجوازية الثورية في الغرب والبيروقراطية الثورية في الشرق، فإن نقد الدين في المجتمع العربي مهمة راديكالية لم تبدا بعد لا من وجهة نظر ماركس ولا حتى من وجهة نظر ديدرو3. لكن إذا شرعنا اليوم فى تحقيق هذا النقد الذي هو ”الشرط الأول لكل نقد“ (ماركس) فإننا سنجد انفسنا بالكاد في النصف الثاني من القرن 18ع وما أبعدنا عن 1972 !
علينا إذن، لكى نكون معاصرين لعصرنا، أن نمارس في نفس واحد نقد السماء الدينية ونقد الأرض الرأسمالية، نقد الإستسلام للتراث ونقد الإستسلام للامبريالية، نقد دور الإفتاء ونقد دور الصحافة، نقد المنابرونقد الاذاعات.
|
هوامش :
1- صرح الكاتب الروسي سولجنستين لمراسل صحيفة اجنبية : ”الان في الاتحاد السوفياتي لم يعد نقد الواقعية الاشتراكية او طبع كتاب سرا يكلف المرء حياته. انه لا يكلفه اكثر من السجن والحرمان من المرتب“. فيا له من تقدم
2- Torquemada (1420-1498) وCisneros(1436-1517) جزاران شهيران في حوليات محاكم التقتيش في اسبانيا
3- معظم ما صدر حتى الآن عندنا تحت عنوان نقد الدين، جدير بان يصنف دون حرج تحت عنوان دعم الدين. باستثناء مقال عاطف احمد ”ملاحظات حول الفهم العصري للقرآن“ الذي مس بحدر بعض الجوانب. الا ان المقال ينقصه الولا روح التعميم، وينقصه ثانيا، وبكل وضوح، الانتقال من نقد السماء الى نقد الارض، من نقد الدين الى نقد الحق، من نقد اللاهوت الى نقد السياسة ومن نقد الاخوان المسلمين الى نقد الاتحاد الاشتراكي. (مجلة مواقف، تموز-آب 1971)
|
----------------------------------------------------------------
IV
موقف الستالينية العربية من الدين ؟
لأن
على الثورة العربية أن تحقق مهام جميع الثورات السابقة المجهضة والثورة القادمة
الظافرة : فأمام البروليتاريا العربية أن تحقق سلطتها الديمقراطية :
إتحاد المجالس الشيوعية، أن تحقق تحرير الوطن العربي من الإستعمار الإستيطاني ومن
الإستعمار الجديد وتحرير الحياة اليومية العربية من إستعمار التقاليد المميته، من
بؤسها المزدوج : الكمي والنوعي. ان عليها أن تنقذ التخلف الإقتصادي و تنقذ
عبادة الإقتصاد.
البروليتاريا فى العالم العربى هي كطبقة، قائدة لمجموع الطبقات الكادحة، القادرة على إنجاز هذا النقد. لماذا ؟ لأن بورجوازية ديناميكية من الطراز الغربي لم يعد من الوارد، لأسباب يعرفعا الجميع وكل واحد، أن تظهر عندنا. ولان بيروقراطية ثورية من الطراز اللينيني وحتى من الطراز الماوي، هي الأخرى، بات من الصعب نجاحها عندنا. لان الاحزاب الماركسية اللينينية التي قادت مسيرة الثورات البيروقراطية في اسيا أو في شرقي أوروبا كانت، على صعيد نقد السماء الدينية والأرض الرأسمالية المتخلفة أو شبه الإقطاعية، أكثر راديكالية من البورجوازية الأوربية الصاعدة. أما فى العالم العربي فهذه الأحزاب تصالح الدين تماماً أكثر مما صالحته البورجوازية فى شتاء عمرها. وبذلك - وليس موقفها من الدين إلا عينة نموذجية لباقى مواقفها - تخلت عن كل ما هو راديكالى في الأيديولوجيا البيروقراطية الثورية. وانغمست إلى المرفقين وإلى ما فوق المرفقين، في تحريف كل ما هو ثوري في الايديولوجيا اللينينية. اما النظرية الماركسية فليس من اللائق حتى الإشارة إليها بهذا الصدد.
البروليتاريا فى العالم العربى هي كطبقة، قائدة لمجموع الطبقات الكادحة، القادرة على إنجاز هذا النقد. لماذا ؟ لأن بورجوازية ديناميكية من الطراز الغربي لم يعد من الوارد، لأسباب يعرفعا الجميع وكل واحد، أن تظهر عندنا. ولان بيروقراطية ثورية من الطراز اللينيني وحتى من الطراز الماوي، هي الأخرى، بات من الصعب نجاحها عندنا. لان الاحزاب الماركسية اللينينية التي قادت مسيرة الثورات البيروقراطية في اسيا أو في شرقي أوروبا كانت، على صعيد نقد السماء الدينية والأرض الرأسمالية المتخلفة أو شبه الإقطاعية، أكثر راديكالية من البورجوازية الأوربية الصاعدة. أما فى العالم العربي فهذه الأحزاب تصالح الدين تماماً أكثر مما صالحته البورجوازية فى شتاء عمرها. وبذلك - وليس موقفها من الدين إلا عينة نموذجية لباقى مواقفها - تخلت عن كل ما هو راديكالى في الأيديولوجيا البيروقراطية الثورية. وانغمست إلى المرفقين وإلى ما فوق المرفقين، في تحريف كل ما هو ثوري في الايديولوجيا اللينينية. اما النظرية الماركسية فليس من اللائق حتى الإشارة إليها بهذا الصدد.
* * *
كتب ماركس عن الغرب الذي لم يلد فيه الدين : ”نقد الدين هو الشرط الأول لكل نقد“.
سيرد عليّ، في جوقة، الذين حفظوا جارودى عن ظهر قلب : لكن ماركس تم تجاوز أخطاء شبابه هذه منذ زمان بعيد...وقّت ساعتك على لينين !
....وكتب لينين : ”من واجب الإشتراكيين المطلق أن يتدخلوا (في البرلمان 1909) لاعلان وجهة نظرهم من الدين (...) الاساس الفلسفي للماركسة، كما أعلنه ماركس وإنجلز مرارا، هو المادية الجدلية، التي تبنت تماما التقاليد التاريخية لمادية القرن 18ع في فرنسا ومادية فيوررباخ في ألمانيا. وهي مادية بلا جدال ملحدة ومناهضة بإصرار لجميع الأديان. لنتذكر ان كتاب إنجلز (انتى - دوهرنج) الذى قرا ماركس مخطوطته، اتهم المادى الملحد، دوهرنج، بعدم التماسك في مادتيه وبمجاملته للدين والفلسفة الدينية. لنتذكر أن إنجلز، في مقالته عن فيورباخ، يأخذ على هذا الأخير بأنه حارب الدين لا بهدف تقويضه بل بهدف إصلاحه، بهدف إختراع دين جديد (...) إن الدين هو أفيون الشعوب. هذا القول الماثور لماركس هو حجر الزاوية لمجمل وجهة النظر الماركسية حول الدين. لقد نظرت الماركسية دائما إلى الأديان والكنائس وجميع المنظمات الدينية، كأدوات بيد الرجعية البورجوازية للدفاع عن الاستغلال ولتسميم الطبقة العاملة“
وكتب : ”لقد أنتج (تاكتيك الاشتراكية الديمقراطية ازاء الدين) تشويها جديدا للماركسية في الإتجاه المعاكس، في إتجاه الإنتهازية. هناك من أخذ يفسر الدين، بالنسبة إلينا كحزب، أصبح قضية خاصة. ان إنجلز (...) قد اعتبر من الضروري معارضة هذه النظرية بحزم (...) قائلاً ان الاشتراكية الديمقراطية تعتبر الدين قضية خاصة بالنسبة للدولة، لابالنسبة للاشتراكية الديمقراطية نفسها : ولا بالنسبة للماركسية ولا بالنسبة للحزب العمالي (...) الماركسية هي المادية. وبصفتها تلك، فهي معادية للدين بقوة لارحمة فيها. تماما مثلما كانت مادية القرن 18ع مادية فيرباخ. هذه مسألة لا يرقى إليها الشك“.
وكتب ايضا وايضا : ”على المجلة ”المادية المناضلة“ ان تقود دعاية الحادية لا تكل ونضالا إلحاديا لا يمل، يجب أن نتقصى بعناية الادب الذي يتناول هذا الموضوع في جميع اللغات وان نترجمه (...) ان إنجلز، وذلك منذ عهد بعيد، نصح قادة البروليتاريا المعاصرين بأن يترجموا وينشروا بين الجماهير، وبين الشعب أدب نهاية القرن 18ع الالحادي المناضل. انها لفضيحة لنا (ولنا نحن أيضاع.أ.) اننا لم نقم بذلك حتى الآن (...) ينبغي ان نزود الجماهير بالمواد الأكثر تنوعا للدعاية الالحادية (...) ينبغى أن نوقظها من سباتها الديني، وان نهزها حتى الاعماق وبكل الوسائل“.
* * *
هذا باقتضاب موقف ماركس، إنجلز، لينين من ضرورة نقد الدين فى أوروبا العقلانية، الصناعية وورثية الروح البروميثيوسية. فما هو موقف القيادات الستالينية العربية من الدين في هذا الشرق المكبل بالطقوس والذي ارصه بسمائه ولدت وترعرعت فيه جميع الاساطير من أكثرها بساطة إلى أكثرها تعقيدا ؟ هل اضطلعت بمهمة ”ايقاظ الجماهير من سباتها الديني“ واحيانا ما قبل الديني ام، بالعكس، قدمت لها مزيدا من الخدر لكي تغط طويلا وعميقا في هذا السبات ؟
دونكم هذه العينة : ”كان الدين عاملا لا جدال في اثره اسعف تكوين الشخصية القومية (...) فكان في ثورة عرابي المصرية وفي ثورة المهدي السودانية نفح ديني غزير (..) ولا يزال في الثورة الفلسطينية اليوم أناس تحدوهم الرغبة في الجهاد دونما عصبية. فالشعور الديني الضارب في حنايا الجماهير يستطيع ان يكون وقودا للازمة الثورية حين اشتعالها“ (منظمة العمل الشيوعي في لبنان)1.
وفي غير مناسبة كتبت واعلنت قيادات الاحزاب الماركسية-اللينينية في المغرب، السودان ولبنان، انها تتبنى التراث الاسلامي. وصرحت بانها تضع المادية الجدلية على الرف، في انتظار حكم الاجيال القادمة. اما اليوم فهي قانعة بالمادية التاريخية، كقاسم مشترك مع ميثاق عبد الناصر.
هكذا فتتت الماركسية، النظرية الاكثر شمولا وتماسكا، الى ركام من قطع الغيار الرخيص المعروض للبيع بالمفرق في سوق العرض والطلب لاول طالب سواء كان عبد الناصر او الحسن الثاني.
* * *
يبرر الستالينيون العرب، على اختلاف منوعاتهم ومصادر الهامهم ورزقهم، مواقفهم المتنافسة في تقريط الاسلام بهذا الادعاء : الاسلام مازال سلاحا للتحرير عكسا للمسيحية (وبالاحرى اليهودية) التي كانت وما زالت سلاحا للاسترقاق الروحي للجماهير2.
هذه انتهازية صرف وادعاء لا يصمد لحظة امام المادية التاريخية النقدية التي تدرس الظواهر من خلال مكوناتها التاريخية لا من خلال اوهام الناس عنها. اولا الاسلام هو الديانة اليهودية الثانية : ”ان هذا لفي الصحف الاولى صحف ابراهيم وموسى“. (القرآن). وثانيا لقد ظلت المسيحية دين شعب، سلواه في المحن لكن ايضا سلاحه للتشهير باحبار اليهود واغنياء الامبراطورية الرومانية طوال ثلاثة قرون قبل ان تصبح دين الامراطورية الرومانية على عهد قسطنطين. وبذلك فقدت طابعها الشعبي الثوري. اما الاسلام فما كاد يظهر كدين يخوض صراعا ضد جزء من الارستوقراطية المكية حتى تحول بمجرد هجرة محمد الى المدينة، الى دين دولة3، اصبحت بعد اقل من ثلاثين عاما تحطم بالسوط والسيف : نسبها السيف وحسبها الذهب4. وتضطهد لا جماهير اهل الذمة فقط ولا جماهير المؤمنين وحسب بل والفقراء من اصحاب محمد انفسهم. مصداق ذلك اضطهاد عثمان لعمار بن ياسر وابي ذر الغفاري الخ.
من الطبيعي ان مهمتنا ليست تفضيل دين على ـخر فذلك شأن الشيوخ والكهنة الذين لم يكتشفوا بعد انهم في خندق واحد. وانما مهمتنا الجوهرية هي استنطاق التاريخ وتوجيه سلاح النقد الى المبدأ الديني نفسه، مهمتنا هي مساعدة الجماهير على الاستيقاظ من سباتها الديني والخرافي، مهمتنا هي ان نشارك في انجاز مهام حقبتنا التي تتمخض عن انفجار العالم القديم وميلاد عالم جديد.
كما نلمح ارهاص هذه الولادة في تمردات الشباب في العالم كله شرقيه وغربيه، متقدمه ومتخلفه، في الصراع والمطالب البروليتارية النوعية الجديدة، نجد تعبيره ايضا في قيام قيامة جميع فضلات les sous produits العالم القديم من ديكتاتورية السيبرنيقا، كتعبير عن فاشية الاقلية التيقنوقراطية التي تذرعت بالعلم للسيطرة البيروقراطية على حياة الجماهير، الى المؤسسات الايديولوجية البالية، كتعبير عن اناكرونيزم5 الدين والايديولوجيا عموما في عصر يجب ان تبدو فيه الاساطير الدينية على حقيقتها.
|
هوامش :
1- جريدة الحرية، 22-11-1971
2- نسيب نمر : فلسفة حركة التحرر الوطني. حيث رد عتى ما اسماه : لا ادرية ومثالية وسطحية صادق العظم بمادية توتولوجية تعلن الحادها باحتشام ثم تسارع لطلب الغفران من الاسلام في الدول العربية ”التقدمية“ التي تعاملت معه بسخاء في وقت ما !
3- انظر : الاسلام وأصول الحكم. تأليف الشيخ علي عبد الرازق، المنشور كاملا بالطليعة القاهرية، تشرين الاول-الثاني 1971. وهو كتلب جرئ نسف الخلافة في اقل من 7 صفحات ! رغم فشله في اثبات ان الاسلام دين لا دولة.
4- اشارة لرواية ابن خلكان : من ان احدهم طلب من المعز لدين اللـه ان ينتسب. استجاب وعقد مجلسا من النسابين والاشراف. انتظر المجلس الوقور من المعز ان يقرأ عليه بتواضع شجرة نسبه المطعون فيه. لكن المعز استل سيفه قائلا : هذا نسبي. ونثر الذهب عليهم قائلا : وهذا حسبي.
5- شيء او ظاهرة اكل عليهما الدهر وشرب.
|
-----------------------------------------------------------------------
V ما
زالت السلطة العربية تحرق البخور لمزابل تراثنا
انعكاس
هذه الازمة الشاملة نكاد نراه ارقا فى عيون جميع الحكام الذين يقض مضاجعهم شبح
الشيوعية وقد عاد من جديد ليرود لا فى ربوع أوربا الشرقية والغربية وحسب بل فى
ربوع العالم كله.
”القيامة قائمة في العالم اليوم، من كل صوب : القيامة قائمة على كل قديم، في الشرائع والنظم، في الاخلاق والعادات في الادب والفنون (...) والقيامة قائمة كذلك في الكنيسة على قديم : في العقيدة : التعاليم الكنسية غدت في نظر الكثيرين لغزا مغلقا، كلاما فارغا لا طائل تحته (...) وفى الاخلاق : الشرائع الكنسية غدت إلى نظر الكثيرين نيرا ثقيلا.. وبعضهم خلعه وأحل محله إندفاعا عفويا إلى انماء الذات... وفى العبادة أيضا : الطقوس الكنسية غدت فى نظر الكثير تمثيلا أعجم أجوف، لا دلالة فيه ولا وقع له...انه لا يطاق (...) وأخيرا في النظام الذي لم يعد يرى فيه بعضهم غير بقية باقية من عهد بائد ينبغي أن يندثر (...) هذه بعض مظاهر الازمة التي يعانيها العالم وتعانيها الكنيسة، وهي على ما يبدو تتعدى النزاع الذي لم يخلو منه عصر من العصور، بين حديث وقديم، بين جديد وتقليد، أن النزاعات التى شهدتها العصور الخالية كثيرا ما كانت تدور على اسلوب التعبير، وان تعدته فعلى صيغة التفكير. اما الركائز والاسس فقلما كانت موضوع جدل أو شك. اما اليوم فإننا نشهد نزاعا أعنف واشد، تناول اول ما تناول، الاساليب والصيغ، ثم لم يلبث ان تجاوزها إلى الركائز والاسس (...) أما الدين فقد أصبح اثرا باليا وممارسات شكلية لا يقبل عليها غير قصار الايدي وقصار العقول“1.
الانسانية المعاصرة، كما لاحظ المطران بحزن، أخذت تبحث عن ”انجيل خلاصها“ في مناهل غير انجيل الخلاص، وفى ثورة تطيح بجميع الاستلابات القديمة والحديثة، فى إطار سلطة شعبية حقاً قائمة على الإنتخاب المباشر من القاعدة، الانتداب الموقت والجمع الضروري بين سلطتي التنفيذ والتشريع تجد فيها مشاكل الثورة البروليتارية حلها الحقيقي، اوعلى الاقل إطارا لمثل هذا الحل : سلطة يسترد فيها وبها الانسان، فردا وجمعا، سلطته المهدورة، ابداعه المصادر ووجوده الضائع.
”القيامة قائمة في العالم اليوم، من كل صوب : القيامة قائمة على كل قديم، في الشرائع والنظم، في الاخلاق والعادات في الادب والفنون (...) والقيامة قائمة كذلك في الكنيسة على قديم : في العقيدة : التعاليم الكنسية غدت في نظر الكثيرين لغزا مغلقا، كلاما فارغا لا طائل تحته (...) وفى الاخلاق : الشرائع الكنسية غدت إلى نظر الكثيرين نيرا ثقيلا.. وبعضهم خلعه وأحل محله إندفاعا عفويا إلى انماء الذات... وفى العبادة أيضا : الطقوس الكنسية غدت فى نظر الكثير تمثيلا أعجم أجوف، لا دلالة فيه ولا وقع له...انه لا يطاق (...) وأخيرا في النظام الذي لم يعد يرى فيه بعضهم غير بقية باقية من عهد بائد ينبغي أن يندثر (...) هذه بعض مظاهر الازمة التي يعانيها العالم وتعانيها الكنيسة، وهي على ما يبدو تتعدى النزاع الذي لم يخلو منه عصر من العصور، بين حديث وقديم، بين جديد وتقليد، أن النزاعات التى شهدتها العصور الخالية كثيرا ما كانت تدور على اسلوب التعبير، وان تعدته فعلى صيغة التفكير. اما الركائز والاسس فقلما كانت موضوع جدل أو شك. اما اليوم فإننا نشهد نزاعا أعنف واشد، تناول اول ما تناول، الاساليب والصيغ، ثم لم يلبث ان تجاوزها إلى الركائز والاسس (...) أما الدين فقد أصبح اثرا باليا وممارسات شكلية لا يقبل عليها غير قصار الايدي وقصار العقول“1.
الانسانية المعاصرة، كما لاحظ المطران بحزن، أخذت تبحث عن ”انجيل خلاصها“ في مناهل غير انجيل الخلاص، وفى ثورة تطيح بجميع الاستلابات القديمة والحديثة، فى إطار سلطة شعبية حقاً قائمة على الإنتخاب المباشر من القاعدة، الانتداب الموقت والجمع الضروري بين سلطتي التنفيذ والتشريع تجد فيها مشاكل الثورة البروليتارية حلها الحقيقي، اوعلى الاقل إطارا لمثل هذا الحل : سلطة يسترد فيها وبها الانسان، فردا وجمعا، سلطته المهدورة، ابداعه المصادر ووجوده الضائع.
* * *
المسيحية التي تعاني من هذه الازمة عرفت عبر تاريخها ومرارا الاصلاح والتطهير من الطقوس الشرقية. اولها اوربة européanisation المسيحية على يد الفيلسوف سيناك Sènèque الروماني ومدرسة فيلون الاسكندرانى الرواقية، حيث تمت اقلمة المسيحية البدائية مع الفلسفة الرومانية اليونانية المبتذلة، التي على عكس فلسفة اللذة الابيقورية التي تطورت باتجاه الالحاد، انتهت هي إلى الايمان بإله واحد وبخلود الروح. وهكذا فالمسيحية الغربية، والكلمة لبورنو باور Burno Bauer لم تولد فى الجليل والقدس بل فى الأسكندرية وروما. حدث هذا قبل أن تصبح، بل لكي تصبح، المسيحية ديانة الدولة الرومانية التي توافد عليها الهنس والجرمان للاقتيات بجثتها.
أما التطهير الأخير من بقايا الطقوس الشرقية فقد حدث فى المجمع الفاتيكاني الثاني (1965). اعلن المجمع أولا ان الكنيسة، التي كانت على الدوام ضامنة النظام الإجتماعي السائد، لم تعد مرتبطة بأى نظام اجتماعي قائم لنمط الانتاج. واعطى المجمع الضوء الاخضر لمفسري الكتاب ليقولوا بأن ”أيام الخليقة الستة“ و”تفاحة حواء“ و”توقف الشمس“ بأمر يوشع و”الأيام الثلاثة التي قضاها يونان (يونس) في بطن الحوت“ انما هي اساطير تصورها كتّاب الأناجيل أو تلقفوها من أفواه الرواة الشعبيين في ايامهم. وليست من الحقيقة التاريخية في شيء. على ان بعض الشرائح لم يكتف بهذا الحد من التطهير بل دفعه إلى ملء مداه : تطهير الكتاب من الخوارق الشرقية والعودة به إلى العقلانية الغربية المعاصرة : وهكذا انكروا اسطورة قيام المسيح بعد موته، واعتبروا ان ذلك مجرد تخيل من حواريية، كما ذهبوا نفس المذهب فى فهم بتولة مريم التى لم تكن، فى رأيهم، الا من نسج خيال المؤمنين القدامى الذين، من فرط اعتزازهم بالمسيح، تصوروا انه ولد من غير زرع بشر ومع بقاء امه عذراء لان البكارة كانت عند الشرقيين وما تزال - رمزا لطهارة النفس والجسد معا. لكنها اليوم في الغرب لم تعد شيئا مذكورا. ولهذا يرى هؤلاء الشراح ان البكارة لا معنى روحي لها ولا تزيد ام يسوع كرامة.
* * *
اما الاسلام المكبل بالطقوس المشلة للتفكير الخرافي فانه لم يتعرض في تاريخه الحديث2 إلى اي محاولة جدية لتطهيره من الطقوس المعطلة للنشاط الانساني3 : تبذير ملايين المواشي في الحج وعيد الأضحى كل عام، ارتباك الإنتاج فى شهر رمضان (100 مليون ساعة عمل خسارة في مصر 1968 حسب الاهرام) وازدياد استهلاك الطبقات المالكة وخراب الموازنات العائلية المتواضعة، تفاقم أمراض المعدة والسل خاصة في الريف الفقير والأحياء العمالية ومخيمات اللاجئين. هذا فضلا عن الطقوس البربرية في بعض المناسبات الدينية والتبذير المخيف على قبور الأولياء ومزاراتهم...
صحيح ان قطاعا من سكان المدن خفف من الصيام في المشرق والصلاة في المغرب. لكن سلطان هذه الطقوس ما زال مع ذلك ينيخ بكلكليه على ملكة النقد والابداع عند اوسع الجماهير بما فيها ذلك القطاع نفسه. وما زال قوة مرسخة لتقاليد الانضباط امام طغيان عناصر الطبيعة الغاشمة (صلاة الإستسقاء، صلاة الخسوف والكسوف إلخ). وطغيان حكام الطبقات الغاشمة (صلاة اللطيف فى المغرب مثلاً).
الاستسلام للقضاء والقدر، للكوارث وللطغاة كان وما يزال يجد في اعماق الوجدان الذي صاغه الاسلام استقبالا بدون اعتراض. بل ان الاعتراض يصبح ضربا من الاثــم والكفران. فعندما اعلن الخليفة المنصور امام الوف الحجيج : ”أيها الناس أن الـله ملكني رقابكم وأموالكم فان شئت قبضت وان شئت بسطت. صاحت الجموع المروضة دينيا... اللـه..اللـه يا امير المؤمنين. وعندما اعلن عبد الناصر بعد المنصور باثني عشر قرنا، لتبرير هزيمة 67 : ”لا يعفي حذر من قدر“4 تنفس 99 بالمئة من سامعيه، والامة العربية كلها كانت تستمع، الصعداء وأحسوا بعزاء مريح يضمد مشاعرهم الجريحة. لا شك أن الحديث قد حرّك بطريق التداعي فوجا من الاحاديث والآيات والامثال المماثلة : وما اصابنا من مصيبة إلا بإذن اللـه... وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم واللـه يعلم وأنتم لا تعلمون. وإنما يبلوا اللـه عباده الصابرين... والمكتوب على الجبين تراه العين... ليس من الضروري ان تتحرك شفاه الجميع بهذه الأحاديث والآيات والامثال، إنها جاثمة على عقولهم،إنها هناك في الاعماق دركي داخلي يملي عليهم،عن وعي أو بدونه،ردود فعلهم في اللحظات الصعبة خاصة.
* * *
ما زال تراثنا بمنأى عن اي تصفية حساب تاريخية مماثلة لمسلسل التصفيات، التى نزلت بالتراث المسيحى : الاصلاح فى القرن 16ع، مادية القرن 18ع لكن أكثرها حسما اثنتان : الأولى عندما شنقت البورجوازية الصاعدة مع ملوكها تراثها. و الثانية عندما صفت الثورات البيروقراطية، البديل التاريخى للبورجوازية، فى شرقي أوربا المسيحية، في آسيا الاسلامية، وفي الشرق البوذي تراث الطبقات السابقة عنها.
أما ”توراتنا“ الفوقية،العسكرية فانها لم تزل تحرق البخور لمزابل تراثنا الذي لم توجه إليه سبابة الاتهام منذ تسعة قرون على الاقل : منذ اندحار الإسماعيلية الثورية !
المناخ النقدى إزاء الثراث الذي أوجدته الاسماعيلية - كما سنرى - تلاشى. بل حتى العقلانية الانتقائية (التوفيق بين الفلسفة والدين) والمحتشمة التي نشرها المعتزلة اصبحت مستنكرة في المجتمع العربي المعطل bloqué تاريخيا والمصاب بتأخر مثلث : تأخر وسائل الانتاج، تأخر نمو الطبقات على النمط الغربي المتضمن بدوره لتأخر الصراع الطبقي محرك التاريخ ، وتأخر الثورة - وبالتالي -، الثورة تنسف نسفا الاوضاع السابقة عنها.
اي من مسلسل الثورات الغربية على البنى ما قبل الرأسمالية لم تفجر مجتمعنا المعطل. وعندما انفجرت فيه لم تفجره لأنها كانت فوقية (مصر) وتعبيرا عن طبقات مصابة بكساح نوعى مزمن.
الثورة البرحوازية الحقيقية الوحيدة التي عرفناها كانت الاستعمار. لكن لم نعرفها الا كثورة مضادة :
-شوهت الصراع الطبقى مرتين :
- مرة بحرفة عن مساره الطبيعي : طبقة ضد طبقة، برنامج ضد برنامج، ليصبح صراعا دينيا - قوميا5 ضد الأجنبي - الكافر. وهذا ما جعل البروليتاريا العربية المحدودة عددا وعدة تعيش انتصارات القيادات البورجوازية كانتصارات لها (تونس، مصر، الجزائر، المغرب) وبالتالي دورها النوعي. ومرة ثانية بتنميته، بدلا من التناقضات الاجتماعية : ظالم - مظلوم، للتناقضات العرقية : عرب - بربر (الجزائر، المغرب) الإقليمية، والطائفية في المشرق.
- جعلتنا، خاصة بواسطة البترول ونهب المواد الخام عموما، نعرف الرأسمالية لاكسيادة للانتاج البضاعى بل كسيادة للتبادل البضاعى، جعلنا الإستعمار سوقا له.
- فعل الاستعمار كل شيء ليبقى على الطابع البالي archaique للحياة العربية حيث تتجاوز كل انماط الانتاج القديمة وتتعايش، فيما يشبه تنكيد الضرائر لا صراع الاضداد، جميع الاديولوجيات التي تناسب معها.
فى ظل هذا الاستعمار وحمايته لهذه البنى المشلولة والاديولوجيات المشلّة لعب الدين دورا مرموقا في ترسيخ التأخر المثلث وفي تخليف وعي الانسان العربي وشروط حياته معا.
- انزل بنا ردة حضارية مدمرة : الغزو الإستعماري للعالم العربي لم يعد لذاكرة الجماهير ذكريات الحروب الصليبية فقط بل انه هو نفسه كان صليبيا وكان يتظاهر بذلك. عندما احتل الفرنسيون سوريا حيـّا (اوركل) جنرال فرنسي قبر صلاح الدين قائلا : ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين. وليس بدون مدلول كون هذه الحادثة متداولة على السنة العامة حتى في المغرب العربي. لقد سمعتها عشرات المرات قبل أن اقراها. وعندما احتلوا الجزائر هدموا او حولوا الى كنائس 2000 مسجد من بينهما المسجد الاكبر في العاصمة - كتشاوه - وبعد الاستقلال حوّل من جديد من ابرشية إلى مسجد. وعاشت الرجعية الجزائرية عاما كاملا على نبش تاريخه حتى أكثر تفاصيله تفاهة. وعلى تلقين الجماهير بأن الإستعمار لم يكن مشروعا للنهب الاقتصادي كما يقول الماركسيون. بل كان مشروعا لنهب مساجد الاسلام وتقويض اركانه...
أمام الإستعمار ”الذى وجد فى المسيحية... تتمته الأكثر ملاءمة“ (ماركس) لاذت الجماهير الشعبية العزلاء من كل سلاح للمقاومة الجدية بالتقوقع فى تقاليدها الدينية - القومية البالية. تقريبا نفس ردود فعل رعاة جبال الألب في القرن 12ع على غزو الإقطاعية لهم في عقر دارهم لتدمير نمط حياتهم البطريقي.
في هذا الوضع اصبح نقد الاسلام او حتى نقد اقل طقوسه شأنا مرادفا لنقد المشاعر الشعبية، لنقد الشكل الجوهرى لقوميتها وتقويض السلاح الوحيد الذي كان بيد القوى المحلية فى دفاعها ضد هجمة الهمجية البورجوازية على همجيتها التقليدية. اسوا من ذلك بات نقد الاسلام مرادفا للخيانة الوطنية والتواطؤ مع المستعمر الكافر. كما ان نقد تخلف اللغة العربية (رسما، نحوا او مصطلحات) أصبح يعني الانتقاص من لغة القرآن، تجريدها من اصالتها ومؤامرة على سلاح صمود الشخصية الاسلامية - العربية في وجه الإبتلاع الغربي.
أصبح التحريض بالصراع الطبقي في المجتمع العربي، حيث في الواقع لم يكن له الا مجال هامشي، موصوما بكونه تصديعا لوحدة الامة بمفهومه الاسلامى : يشد بعضها البعض كالبنيان المرصوص.
هكذا أصيب الفكر النقدي العربي إزاء التراث الديني القومي بردة حضارية شاملة عادت به إلى مواقع كان قد تخطاها منذ زمان بعيد بالمعتزلة، باخوان الصفاء، بالفلاسفة العقلانيين والملحدين وبالايديولوجيا الاسماعلية الثورية.
انتصر الدين على الفلسفة في العالم العربي مرتين : الاولى تحت الحكم السلجوقي والثانية تحت الحكم الأوربي الاستعماري حيث ولد شعار الإصالة ”العودة إلى المنبع“، إلى السلف الصالح. هذا الشعار الذي راى في الفكر الثوري الاممي نفيا له، عودة بشكل آخر للصليبية الاوربية ومؤامرة لاقتلاع الامة العربية من جذورها.
* * *
لم تواجه الشيوعية العربية هذا الوضع ومضاعفاته بالكشف عن أسبابه علنا أمام الجماهير لكي تساعدها على تحرير وعيها النقدي من استلابه الديني - القومي، لكي تساعدها بقوة المثل، بممارساتها النظرية - العلمية الثورية على الاهتداء إلى سلاح فعال للمقاومة الايجابية للاستعمار بدلا من سلاح المقاومة السلبية العاجزة والمنطوية على نفسها وماضيها. لا فقط لم تعرف كيف تواجه مشكلة قومية أو اجتماعية من مشاكل المجتمع العربى. والاسوا أنها حاولت هي الاخرى، بانتقائية وديماغوجية، استخدام نفس السلاح لكنها مع ذلك بل بسبب ذلك لم تكسب إليها أي قطاع هام من الجماهير التي شمت بحاستها السادسة رائحة الإنتهازية6.
وصلت بها الانتهازية إلى حد إنكار، رغم الوقائع اليومية العنيدة. أن يكون للدين عندنا نفس الوظيفة التي أداها فى أوروبا ما قبل اقتصاد الإستهلاك. وظيفة التخدير : ”نعم ان الشقاء والالم هما قدر الانسان“ (الباباليون، القرن 13ع). تماما كما ”لايعفي حذر من قدر“. و”الفقر مفتاح الجنة“. او، والكلمة هذه المرة لجلاد كومونة باريس تيير : ”اريد ان اجعل تأثير رجال الدين كلي الجبروت. لاني اعتمد عليهم لترويج تلك الفلسفة الجيدة التى تعلم الانسان بأنه وجد في هذه الدنيا الفانية ليشقى، لا تلك الفلسفة الاخرى التي تقول له، بالعكس : تمتع بالحياة“7. وباختصار كانت وظيفة الدين في أوروبا وهي اليوم عندنا مناهضة الثورة. وفي هذا المعنى حدد معن أبو نوار، رئيس شعبة التوجيه المعنوي في جيش عمان الوظيفة التي اداها القرآن والانجيل في تنفيذ مجزرة عمان بنجاح ”لقد طبعنا 60 000 نسخة من القرآن ووزعناها على جميع الجنود المسلمين. وقريبا جدا نأمل ان نوزع نسخا من الانجيل على جميع الجنود المسحيين. اصبح كل جندي الآن يضع هويته في جيب ويضع القرآن في الجيب الآخر. لقد عملنا القرآن بحجم الجيب بحيث يمكن حمله مثلما يحمل الماركسيون الكتاب الأحمر. اعتقد ان الجيش محصن في وجه الماركسية الآن. وعلى استعداد لقتال الفدائيين. ان ماركسيينا والماركسيين الاسرائيليين التقوا معا. يقولون انهم يريدون اقامة دولة ديمقراطية علمانية، حيث ستتعايش في سلام الديانات الثلاث. من المحزن جدا ان يكون الماركسيون العرب والاسرائيليون هم الذين التقوا ولسنا نحن المحافظين عربا و اسرائيليين. اعتقد اننا فى غضون 30 أو 40 عاما سنقاتل نحن والإسرائليين معا الماركسيين“8.
ليس هذا الاستخدام للدين مصادفة عارضة. بل انه استراتيجية طبقية مدروسة : سيطرة الاقلية على الاكثرية لن تدوم الا اذا قبلت بها الاكثرية نسبيا، الا اذا استسلمت لها كقدر مقدور، الا اذا اصبح القمع داخليا والبوليس مرابطا في رؤوس الناس الذين لا سلطان لهم على حياتهم لكي يمنعهم من وعي ذلك وضرورة الثورة عليه. ان الدين ما زال عندنا اداة فعالة لتحقيق استبطان القمع.
التعايش السلمي المعلن بين الشيوعية العربية والدين يعكس تعايشها السلمي مع الانظمة البروقراطية - الاتوقراطية وهدنتها المفتوحة مع الانظمة التقليدية. لقد تخلت نهائيا عن هدف قلب الانظمة البيروقراطية بل تخلت حتى عن وسيلة نقدها، ويعكس بالتالى تخليها - في الواقع تخلت حتى قبل ان تشرع - عن صراع الطبقات لصالح تصالح الطبقات الذى هو جوهر الايديولوجية البونابارتية العربية (الناصرية، البورقيبية الخ.) التى تعرف فيها عجز الستالينية العربية عما كان يطمح عبثا في تحقيقه9.
هذا التعايش ليس الا تعبيرا عن اندماجها في الاوضاع الراهنة. كانت القيادات الشيوعية العربية ستصنع هذه الاوضاع المتعفنة لو لم تكن هي نفسها من صنعها.
لذا فان الحرب القادمة على اوضاعنا الراهنة، والتي تستمد بقاءها من الاحتفاظ بكل العاهات حتى باتت هي نفسها العاهات تجسدت أوضاعا، اما ان تكون حرية شاملة عليها وعلى فضلاتها او لا تكون.
|
هوامش :
1- النهار 30-6-1972.
2- في تاريخه القديم حاولت المعتزلة تطعيمه بالفلسفة اليونانية. لكن المحاولة باءت في نهاية المطاف بالفشل. وحاولت الاسماعيلية لا تطهيره من الطقوس الشرقية وحسب بل تحويله من دين سماوي الى دين للعقل الانساني الذي لا مرجع له من خارجه.
3- حاول بورقيبة الغاء تعدد الزوجات والغاء رمضان في 1959. وحاول احمد بن بلة الغاء عيد الاضحى في 1964، لكن المحاولتين فشلتا، لان الساعة للثورة لا للاصلاح.
4- انظر خطبة وداعه (9-6-1967).
5- القومية العربية لم توجد منفصلة عن الاسلام ابدا.
6- اشير هنا بشكل خاص الى تجربة ح.ش.الجزائري بعد الاستقلال وتجربة ح.ش. المغبي، حيث اصبح ابو ذر الغفاري وعمر بن الخطاب نجمي صحافتهما. لكنهما لم يصلا ابدا بسبب الجهل الى عبد اللـه بن ميمون القداح، الى الحسن الصباح، الى حمدان القرمطي او الى المعري !
7- ولهذا يقول ماركس : ”الدوجم الرئيسي (للدين) هو الزهد في الدنيا، التخلي عن الحياة وجميع الحاجات الانسانية“.
ولهذا كانت الثورة، على النقيض، عودة للحياة، ارضاءا فعليا لجميع الرغبات وتحقيقا لجميع الاحلام الانسانية. لذلك ايضا كانت اللحظات الثورية، التي ما ان اومضت حتى انطقأت في ليل هذا العالم القديم. لحظات ظهور شباب العالم، احظات يصبح فيها الاطفال راشدين ويعود فيها الراشدون اطفالا.
8- جريدة Washington Post بتاريخ 21-12-1971، ومن الواضح ان المقابلة تمت قبل ايلول 1970.
9- انهيار انقلاب ح.ش. السوداني في اقل من 72 ساعة بليغ في التدليل على هذا العجز الذي تعرف على نموذج ثورية البيروقراطية في انقلاب عسكري كوميدي-تراجيدي وعجز عن توفير حتى اقل اسباب النجاح المألوفة لمثل هذه الانقلابات.
|
------------------------------------------------------------------------------
VI صراع
الطبقات في العصر العباسي
الثورة
هي الذكرى والذاكرة الاعمق لشعب من الشعوب. ذاكرة ثورتنا القادمة التى سيكون عليها
ان تحل، بعصاها غير السحرية : سلطة المجالس الشيوعية، جميع التناقضات
المتراكمة والمزمنة، وان تطيح في وقت واحد بالاستبداد دون ان تسقط في الليبرالية،
وان تقضي على التخلف دون ان تسقط في عبادة اقتصاد الانتاج وديكتاتورية الاستهلاك،
يجب ان تكون ذكرى ثورات الجماهير العربية والاعجمية التى ناطحت سماء الطغاة
اربابا، افرادا وطبقات اكثر بكثير مما تجرا عليه أجرأ الشعوب في القرون الوسطى
وقاومت تسلط الاسلام على العقول وتسلط اصحاب الاقطاعات على الأرض.
عندما تعود البروليتاريا العربية الحديثة الى تاريخ اسلافها الثوريين فلن تريد، وما ينبغي لها، التعرف على مطالبها النوعية الاكثر تبلورا، راديكالية وشمولا في مطالبهم المحدودة بحدود وعيهم وحدود عصرهم. بل لتذكر نفسها بان اسباب ثورتهم على الدولة ودينها واستغلالها وطغيانها ما زالت حاضرة، رغم اختلاف الشروط التاريخية، في ثورتها القادمة التي يجب ان تكون تحقيقا لمشروع الانسان الكامل الذي لن يقبل بديلا عن امتلاك العالم والزمن للاستمتاع بالحياة المتحررة.
ما كان عند الاسلاف طموحا سديميا يجب ان يصبح اليوم عند البروليتاريا مشروعا واعيا. ولقاء المشروع الثوري الراهن بذاكرته القرمطية، البدائية سيتم حتما على اساس تطهيرها من بقايا استلابها الدينى.
عندما تعود البروليتاريا العربية الحديثة الى تاريخ اسلافها الثوريين فلن تريد، وما ينبغي لها، التعرف على مطالبها النوعية الاكثر تبلورا، راديكالية وشمولا في مطالبهم المحدودة بحدود وعيهم وحدود عصرهم. بل لتذكر نفسها بان اسباب ثورتهم على الدولة ودينها واستغلالها وطغيانها ما زالت حاضرة، رغم اختلاف الشروط التاريخية، في ثورتها القادمة التي يجب ان تكون تحقيقا لمشروع الانسان الكامل الذي لن يقبل بديلا عن امتلاك العالم والزمن للاستمتاع بالحياة المتحررة.
ما كان عند الاسلاف طموحا سديميا يجب ان يصبح اليوم عند البروليتاريا مشروعا واعيا. ولقاء المشروع الثوري الراهن بذاكرته القرمطية، البدائية سيتم حتما على اساس تطهيرها من بقايا استلابها الدينى.
* * *
ذاكرة جماهيرنا المظلومة التى تغير سيادتها ولم تتغير شروط حياتها هي بالاخص الايديولوجيا الثورية الشعبية الاسماعلية وانتفاضاتها المتعاقبة في العصر العباسي.
* * *
رافق انتقال السلطة من الارستوقراطية العربية (القيسية واليمنية) التي سادت على الامبراطورية الاموية الى الارستوقراطية (العربية، الفارسية والتركية) التي سادت على الامبراطورية العباسية، انتقال المجتمع الاسلامى من مجتمع عشائري عسكري يغلب فيه نمط الانتاج الزراعي ولا تلعب فيه الصناعة والتجارة الا دروا هامشيا الى مجتمع تعدى عرفيا وفكريا تغلب فيه التجارة والتبادل البضاعي ومستقطب بين طبقتين : طبقة الخاصة التي تملك المال والوقت الذي تبذره في الجنس واللهو والقنص وطبقة العامة التي يملكها الحرمان الشامل والسخرة.
* * *
طبقة الخاصة نعنى بها مجموع مراتب الارستوقراطية السائدة والفئات المستغلة المرتبطة بها في العصر العباسي : 1- البيروقراطية وتتكون من : الخليفة، الرئيس الزمني والروحي للدولة وهو لا يُسأل عما يفعل1، الوزير، الوسيط بين الخليفة ومراتب البيروقراطية الادنى، القاضي، القيم على تطبيق الشريعة والقضاء بين الناس، حاشية البلاط وموظفوه (الجلادون، الخدم2، المنجمون) قواد الجيش، العمال، ممثلو الخليفة فى الولايات، ضباط الشرطة، المسؤولون عن الامن داخل المدن، والجباة و السجانون، وموظفو ديوان الإنشاء.
2- اصحاب الاقطاعات، المالكون المقاريون الكبار الذين استولوا على اراضي الفلاحين بواسطة الالجاء.
3- التجار، وهم فئة واسعة، غنية ومتداخلة مع المالكين العقاريين اذ ان قطاعا واسعا منهم كان يوظف رؤوس امواله في تمللك الاراضي.
4- الانتليجانسيا وتضم الاطباء، الكتاب، المغنون الشعراء - شعرؤنا كانوا دائما فيما ندر شعراء دولة ! - المترجمون، فقد كان المنصور مثلا يدفع لحنين المترجم 250 دينار شهريا ووزن الكتاب الذي يترجمه ذهبا.
5- رجال الدين او العلماء كما كانوا يسمون عهدئد.
* * *
وهم خمس مراتب أساسية :
1- القضاة.
2- الائمة، وقد لعبوا دور الاذاعة اليوم فى تطويع الرعية للخليفة الذي يضعون الولاء له بمنزله الايمان.
3- الفقهاء الذين كانوا قادة الرأى، موجهى افكار الناس ومفبركي الاحكام والاجتهادات لمن يحتاجها من رجال السلطات او من التجار. وكانت لهم هيبة روحية في نفوس الناس : ”اين لذة الملوك من لذة ما نحن فيه. لو فطنوا لقاتلونا عليه“ (أبو حنيفة).
4- المحدثون، ومهمتهم، الا القليلون، اختلاق الاحاديث لتبرير نزوات الحكام او مطالب هذا او ذاك من الاحزاب المتنافسة ويبدو ان كل حزب كان له محدثوه.
5- الوعاظ، الذين كانوا يدخلون على الخلفاء ليعظوهم معطين لانفسهم ولهم الشعور براحة الضمير. يشبه دورهم دور كاهن الاعتراف في المسيحية.
* * *
كان رجال الدين حجر الزاوية لسلطة الأتوقراطية الخلافية. بدون فتاويهم ودسائسهم لم يكن الخلفاء بقادرين، بكل تلك السهولة، على تصفية المعارضة بتهمة المروق عن الدين، ونادرا ما اقدم خليفة على دق عنق معارض ديني او سياسي قبل الحصول على فتوى شفوية او كتابية من واحد او أكثر من العلماء المشهورين في عهده.
غالبية رجال الين كانوا متداخلين مع الدولة الجائرة، الا قلة من الفقراء والاتقياء منهم كانت تشكل المعارضة السلبية لهم وللدولة. مضمون معارضتها : الاحتجاج على مداخلة رجال الدين للسلطان الجائر (الدولة). وأعتقد أن الأحاديث الموضوعة، ما في ذلك شك، للتنديد بتواطؤ رجال الدين ورجال الدولة على حساب الشعب هي من وضع هذه المعارضة وعامة الشعب. مثل : ”صنفان من امتي إذا صلحا صلحت الامة واذا فسدا فسدت : السلطان والعلماء“ و”هلاك أمتي : عالم فاجر وعابد جاهل“.
قويت هذه المعارضة الدينية الشعبية فى القرن الثالث حيث كان تواطؤ رجال الدين والبلاط ضد ثورات العامة جلياً إلى درجة ان الفقيه الفقير ابو بكر الاجرى تجاسر على تاليف كتابه : اخلاق العلماء وادابهم الذي ضمنه مقارنة لاذغة بين علماء السلف الذين لم يتقربوا من السلطان لان ”السلطان من لا يعرف السلطان“ عندهم.
والذين كانوا يرون الجهاد ”كلمة حق تقال في وجه سلطان جائر“ وبين علماء عصره : ”الفسقة، الفجرة“ الذين ”يداخلون السلطان الجائر“ و”يحتقرون ما دونه من العباد“.
وفي كلمات نارية شهر بحبهم للدنيا واقبالهم على المال والشهرة وحرصهم على مجالسة الملوك وادارة ظهرهم للدين... مستشهدا بعشرات الاحاديث، التي اسهم هو نفسه في وضعها، والتي تحرض العامة على رجال الدين والسلطان، مثل : ”يكون عليكم امراء تعرفون منهم وتنكرون، فمن انكر فقد بريء، ومن كره فقد سلم. لكن من رضي و تابع فأبعده اللـه“.
فى القرن الخامس صنف ابن عبد البر القرطبي كتابه : جامع بيان العلم وفضله. اغنى فيه بوقائع عصره وثيقة اتهام الاجرى لعلماء القرن الثالث، قائلا : ”لم يزل الفساد متزايدا على ما ذكرنا اضعافا مضاعفة. فلا حول ولا قوة الا باللـه“.
* * *
في الامبراطورية الاموية كان الفرز الاساسي عنصريا : بين العرب والموالى. فأصبح في الامبراطورية العباسية اجتماعيا : بين الارستوقراطية والعامة. وبين ذوي السلطان والذين لا سلطان لهم على استخدام حياتهم.
في العهد الجديد نما التنظيم الاداري، التجاري، الزراعي والصناعي نموا ضخما. غدت بغداد مركز التجارة العالمية توريدا وتصديرا. اصبحت الدولة المركزية، المراتبية و المنظمة اداة نهب داخلي وخارجي لم يسبق له مثيل. فقد بلغ دخل الدولة السنوي في عهد الرشيد، على حد تقييم ابن خلدون، 70 مليونا و150 الف دينار. هي موازنة ضخمة بالمقارنة مع موازنات الدولة القديمة. مصادر هذه الموازنة : الخراج على الارض، الجزية المفروضة على اهل الذمة والشعوب المقهورة، الضرائب المفروضة على اهل الصناعات والحِـرف والزكاة....
لم يعد الخليفة، كما كان في العهد الاموي، مجرد شيخ قبيلة مهيب بدون وزير طقوس يستقبل الناس ويجلس للفصل فى المظالم بين العامة، بل تحول إلى امبراطور تبنى تقاليد البلاط الفارسي والرومي من اتخاذ الوزير الى الاحتجاب عن الناس.
بتعقد مراتب السلطة ازداد اضطهاد عامة الشعب. لكن الاضطهاد لم يكن في الواقع، مقصورا عليه بل كان معمما ومراتبيا : تمارسه بدون ضابط المرتبة العليا ضد المرتبة الادنى : الخليفة يصادر املاك الوزير، والوزير يصادر املاك مرؤسيه. والعمال (الولاة) يصادرون املاك الاغنياء وحياة الفقراء.
لقد كان ديوان المصادرة سيفا على اعناق الجميع بما في ذلك الخلفاء انفسهم على عهد استبداد قادة الجيش الاتراك بالسلطة.
هذا الديوان شاهد اثبات آخر على الدور المضاد للتقدم التاريخي الذي لعبه وما يزال الاستبداد الشرقي : تحكم الفرد الحاكم في المراتب البيروقراطية وتحكم هذه الاخيرة في الطبقة. من هنا اسبقية ظهورالدولة ظهورا واهمية على الطبقة وبالتالى استقلالها عنها وتحكمها فيها.. عكس المسار العام لبروتسيس التاريخ الغربي. في اليونان كانت السلطة تعبيرا عن راي السادة الذين يختارون قيادتهم من بينهم. اما دولة الاستبداد الشرقي فهي مغلقة عن كل ديمقراطية وحوار، السلطة فيها لا تنبع عن مجلس شيوخ، او مجمع كرادلة او برلمان بل من حد السيف ومن ثورات القصور. الخلفية هو الذي يختار ولي عهده على هواه، لا حسب تقليد مرعي يشجع على الاستقرار ويقتصد حروب الاسر، ياخذ له البيعة الاسمية من حاشيته، قواد جيشه ورجال دينه بمحضر السيف والنطع والجلاد !
السلطة عبر التاريخ العربي كله كانت - وما زالت - دائما فوق القانون، سواء كان قانوناوضعيا، ومن وضعها هي نفسها، او قرآنا. ولم ينجح كفاح المعارضات القديمة والحديثة لكي يصبح القانون فوق السلطة !
لم يكن مثل هذا النظام الاستبدادي الفردي يساعد على تشكيل طبقة سائدة متماسكة تغلب مصالحها الشاملة على المصالح الفئوية لهذا او ذاك من اجنحتها او افرادها، وكل انتعاش لطبقة اجتماعية، مثل انتعاش التجار وملاك الارض في العصر العباسي الاول، انما هو انتعاش ظرفي على رحمة نزوة من نزوات الخليفة التي لا يستطيع احد ان يتنبأ بها او يتعرض عليها (نكبة البرامكة مثلا).
* * *
في ظل الاستقرار النسبي الذي تميز به عهدً الرشيد والمأمون ”تكونت طبقة من التجار تملك الاموال الطائلة، وقد بلغت ثروات البعض الملايين وظهرت فئة رأسمالية نشطة، وكونوا انواعاً من الشركات مثل شركة الضمان (تشبه شركة المساهمة) وشركة المفاوضة (حيث تبقى رؤوس الاموال مستقلة)، وشركة الوجوه، وتكون الاختصاص بين التجار“3.
فعلا تنوعت التجارة وتخصصت اي ان تقسيم العمل فيها بلغ درجة عليا. فقد كانت واردات بغداد متنوعة جدا، من الصين : البورسلين، الحرير والمسك. من الهند وجزر الملايا : البهارات، العطور، الاصبغة، المعادن، العسل، الشمع والفرو. ومن السويد وروسيا : العبيد البيض للاستمتاع الجنسي. من افريقيا : العاج، الذهب والعبيد السود للاستعمال المنزلي والزراعي.
نشطت الصناعات، تنوعت وتخصصت هي الاخرى : صناعة الاقمشة، المرايا المعدنية، الورق، الجواهر، الحلي، صناعة الساعات، تجليد الكتب، صناعة العطور، النسيج والحرير خاصة في الكوفة.
قامت القصور في بغداد التي كانت على عهد الرشيد تعد مليوني ساكن، نفس عدد سكان باريس في 1871. احتلت ارستوقراطية الدم والمال حي الرصافة. وغدت بغداد مدينة الملاهي حقا التي ينفق فيها الخلفاء، الوزراء ، الاغنياء والادباء فائض وقتهم في الافراح المستمرة، بينما سواد الشعب الذي لا مال ولا وقت - بالتالي - لديه غارق في الاتراح المستمرة. هب رجال الدين يفتون للارستوقراطية والخليفة بشرب اصناف من الخمور (الجعة، الطلاء، نبيذ التمر)4 ويتحايلون على الشريعة لتسهيل المعاملات الربوية استجابة لرغبة التجار. وبعض رجال الدين انفسهم كانوا تجار !
لم تكن بغداد باذخة وحسب بل كانت مبذرة : الرشيد ينفق على طعامه 10 الآف درهم يوميا. ويوميا يعد له الطهاة 30 صنفا من الطعام (المسعودي). وعند زفافه بزبيدة كان يهب للناس اواني الذهب مملوءة فضة واواني الفضة مملؤة ذهبا. وغالى في تزيينها بالحلي عجزت عن المشي لكثرة ما كان عليها من الجواهر.
كان البيروقراطيون والاغنياء على دين خليفتهم فانتشر التبذير بينهم، وقويت شهيتهم للنهب.
كان هذا التبذير استفزازا غير حكيم لبؤس الجماهير الكادحة في المدن التي كانت على حافة المجاعة : اجرة عامل البناء ثلث درهم في اليوم. بينما اجرة الجندي درهم. ودخل القاضي 8 دنانير يوميا. اما عن بؤس العاطلين والفئات الهامشية كالشطار والعيارين، التى افرزتها هجرة الريفيين إلى المدن واختلال التوازن بين عدد السكان وامكانيات الاستخدام، فحدث ولا حرج !
ظل الريف بطريقيا، بدويا وفقيرا. والقصة المروية فى الاغانى دلالة، فقد شهد الشاعر البدوي : ناهض بن شولة عرسا بمدينة حلب فاصيب بالجنون لما هاله من الوان الطعام والملابس والات الغناء ومظاهر البذخ الفارسى.
كان وضع طبقة العوام : الموالي، العبيد، عمال الزراعة، الفلاحين، العمال (الفعلة)، اهل الصناعات والحرف وجماهير البدو، لا يطاق. ومع ذلك فقد كانت هدفا للنهب الهمجي : نهب الحكومة المركزية وممثليها فى الولايات. ولعل اتهام الرشيد5 لعامله على الشام عندما ادخل عليه مكبلا بالاغلال، ابلغ من الاستشهادات والاحصاءات التقريبية : ”اوليتك دمشق وهى جنة بها غدر تتكفأ امواجها على رياض كالزرابي، واردة منها كفاية المؤن الى بيوت اموالي، فما برح بك التعـدي (...) حتى جعلتها اجرد من الصخر واوحش من الفقر“ (المسعودي) وعندما صادر نفس الرشيد اموال عامله بخرسان، علي بن عيسى، حملت إليه على 1500 يعبر، نهبت من عرق الناس وخبزهم اليومي.
* * *
من البديهى أن التغيرات فى المجتمع العباسى لم تكن اقتصادية وحسب بل كانت انقلاباً شاملاً على جميع الأصعـدة : الأقتصادية، السياسية، العرقية والأديولوجية. التعدد العرقى والإجتماعى كان يتطلب تعدداً فكرياً وسياسياً : هكذا فتح هذا المجتمع التجارى نوافذه لكل الرياح. خاصة لرياح الفلسفة اليونانية التى حاول المستنيرون من المفكرين المسلمين عقلنه الإسلام بها : التوفيق بين النقل والعقل، بين الفكر الأرستوطاليسى والشريعة المحمدية. ومن الذين أضطلعوا بهذه المهمة المعتزلة. والمعتزلة هم التركيب الذى أعطاه لقاء نهوض البورجوازية التجارية بالفكر اليونانى. فالأنسان، فى تحليلهم، خالق أفعاله كما أن التاجر خالق ثروته. والله هو مبدع قوانين الكون العامة أما الشؤون الصغيرة، الطبيقات الأرضية فقد تركها لعناية الحرية الإنسانية. تماماً على صورة الملك الدستورى الذى كانوا يحلمون به قبل أن تنزل على رقابهم سيوف المتوكل6. كان الباب أيضاً مفتوحاً أو موارياً أمام تأثير الديانات والهرطقات الغارسية الوثنية وغيرها التى قهرها الإسلام كما قهر شعوبهاً.
فلا عجب اذن ان تكون جميع المدارس، الفرق والهراطقات الثورية والرجعية التي شكلت العمود الفقري للحضارة العربية، ظهرت او تحددت ملامحها واختياراتها في مناخ الصراع الإجتماعي المحتدم على الصعيدين السياسي والايديولوجي لهذا العصر الذي تمكن مقارنته، مع حفظ الفوارق، بمصر الانوار في القرن 18ع. ففيه بدا الصراع الطبقي يتمتم باسمه. وفيه ولدرماد الشيوعية، اجداد البروليتاريا العربية الحديثة، التي شرعت فى الصراخ باسم صراعها الطبقي في حلوان والدار البيضاء... وقريبا في كل مكان.
* * *
لامر ما أنطلقت معظم الهرطقات والحركات الثورية في العصر العباسي من الكوفة، باريس القرن 19ع، لقد كان الفرز والصراع الطبقى فيها واضحين : الزراع الكبار، التجار، البيروقراطية ورجال الدين فى قطب. وفى القطب الآخر لفيف العامة من الموالي الى الزنج مرورا بالعمال والشطار والفلاحين وهم اجراء لاملكية لهم او اقنان محرمون حتى من الحرية الشخصية.
”كان في الكوفة اقلية تملك الأرض الواسعة. وكان المالكون عرب وغير عرب. وكان الفلاحون خليطا من فرس وانباط وعرب، لذا كان طبيعيا ان يكون الانقسام فيها على اساس اقتصادى. كما ان الكوفة مركز تجارى، لوقوعها على طريق الحج، كما انها مركز صناعات مهمة كصناعات العطور والنسيج، مما كون فيها طبقة صغيرة ثرية من ارستوقراطية التجار واصحاب المعامل، اضافة الى ارستوقراطية الزراع، فكان تذمر الفلاحين والعمال قويا. ثم أن الكوفة مركز ثقافي هام انتشرت فيه الفلسفة اليونانية وحركت الزندقة بين المثقفين فوسعت الشكوك بينهم وزعزعت ارائهم الدينية الاسلامية“. (ع. الدورى).
في هذا المجتمع المستقطب خلت التقاليد البطريقية، الدينية والقومية التي كانت تطمس الصراع الطبقي مكانها للتبادل البضاعي والصراع الإجتماعي.
لم يعد معيار الصلاح هو التقوى كما كانت في عهد محمد وخلفائه : ابو بكر، عمر وعلي. ولم يعد الدم العربي كما كان في العهد الاموي بل اصبح ارستوقراطية المال والدم ( التجار...وآل العباس) : ”لا بد لكم من كتاب وعمال واعوان، فاستعينوا بالاشراف واياكم وسفلة الناس، فان النعمة على الاشراف ابقى وهي بهم احسن، والمعروف عندهم اشهر والشكر منهم اكثر“ (من وصية يحي بن خالد البرمكي لبنيه) (المسعودى).
وأمام التخلي الفعلي الصريح للخلفاء والاغنياء ومعظم رجال الدين عن الدين، فقد العزاء الديني قوة ضبطه لجموع البائسين.
وبدت سيطرة الخاصة على العامة بدون قناع، واصبحت بالتالي عرضة لنقد اللسان ونقد السلاح.
تلك هي حال المجتمع الاسلامي في نهاية القرن الثاني الذي فقد غطاءه الديني للحاكمين ولجامة الديني للمحكومين. فاختل توازن العام وتصاعد فيه الصراع بين الطبقات الظالمة والمظلومة.
* * *
على امتداد القروون الثالث، الرابع والخامس، انفجر هذا الصراع حروبا اهلية مختلفة هدفا سياسيا وتركيا اجتماعيا عن الحروب الاهلية الشيعية والخارجية التي دارت رحاها في ظل الامبراطورية الاموية وضدها. لم يعد تنصيب آل علي او اتنخاب إمام كفء (الخوارج)7 هو الهدف الجوهري المعلن للحرب الاهلية بل بات الاستيلاء الجماعي على الارض، المساوة في الثروة، المساوة بين الرجل والمرأة، اقامة حكومة الشورى (الديموقراطية)، عبادة العقل والتمتع بالحياة هي مضمون البرنامج الذي على شرط وضعه موضع التطبيق، يأتي للحكم الامام (الحزب الثوري) اسماعليا كان ام مستقلا مثل صاحب الزنج. لم يعد الامام الشيعي، كما كان عند الاوائل، انتسابا اسرويا إلى آل علي بل اصبح ولاء فكريا للاسماعلية الباطنية والتزاما ببرنامج ثورتها : ملء الارض عدلا بعدما امتلأت جورا بعد الاطاحة بالدولة العباسية ودينها بالنسبة للراديكالين أو بتفسيره السني بالنسبة للمعتدلين.
من السخف والادعاء،. كما فعل بعض العرب والمستشرقين، بان هذه الصراعات كانت دينية، فوقية ومستقلة عن الطبقات الاجتماعية ومطالبها. بل انها، كما سنرى، وكما لاحظ انجلس ”حركات ولدت من اسباب اقتصادية رغم انها كانت تحمل قناعاً دينيا“ احيانا شفافا جدا، لانها لم تكن قادرة على مواجهة عدوها بدونه. وفي امكاننا اليوم تحديد الفرقاء الطبقيين لمعظم الفرق والهرطقات التي تصارعت في ظل الدولة الاسلامية من محمد إلى عبد الناصر.
|
هوامش :
1- تماما كما هو الآن حتى في الجمهوريات الاشتراكية.
2- في القرن الثالث.
3- مقدمة في التاريخ الاقتصادي العربي، تأليف الدكتور عبد العزيز الدوري (دار الطليعة). والدوري مؤرخ خلدوني واسع الاطلاع، نادر بين المعاصرين من المؤرخين العرب. لولا انه، ربما لاسباب اديولوجية، يتخلى احيانا عن عقلانيته التي تعطي الانطباع بالصرامة، ليسقط في الوعظ الاخلاقي. وحبذا لو يترك كرسي الجامعة ليتفرغ لكتابة التاريخ الاقتصادي العربي برؤيا تاريخية نقدية لا تتنازل للعواطف حتى النبيل منها.
4- حلل رجال الدين للارستوقراطية السائدة شرب اصناف من الخمور. ظهرت هذه الفتاوي، اول ما ظهرت، في بغداد الحنفية وفي الاندلس الظاهرية. حللت الحنفية شرب بعض الخمور المستخرجة من التمور مثل الطلاء (ماء الحياة). في الاندلس نجد المذهب الظاهري، مذهب داوود الظاهري، الذي كان المذهب الرسمي للامويين في الاندلس طوال 150 عاما، والذي سمي بالظاهرية لانه ينكر التأويل للنصوص الدينية، كما ينكر القياس، الذي رأى فيه بحق جمودا لا يطاق، لانه يطبق حالات لاحقة مختلفة نوعيا، زمانا ومكانا وشروطا تاريخية، على حالات سابقة عزلت من مضمونها الفعلي. حلل المذهب الظاهري شرب كل اصناف الخمور ما عدا النبيذ الذي كانت تشربه قريش حين نزول آية التحريم، لان ال في ”وحرمت عليكم الخمر“ عهدية، اي الخمر العينية، اياها.
اما المالكية، وهي على العموم مذهب الريف الفقير والمتقشف والمحافظ فقد حرمت جنيع اصناف الخمور وباي كمية كانت، لان ”ما اسكر كثيره فقليله حرام“. وهذا يفسر انتشار المالكية في صحراء الجزيرة وبين ارياف وبرابرة شمال افريقيا. وانتشار الحنفية في بغداد ومختلف المدن الاسلامية وانتشار الظاهرية في الاندلس.
سخر آية اللـه الزمخشري، صاحب التفسير الشهير باسمه من جميع المذاهب الفقهية بهذه الابيات :
ان قلت حنفيا، قالوا عني باننــــــــــــي : ابيح لهم شرب الطلا، وهو الشراب المحرم !
وان قلت : مالكيا، قالوا عني باننـــــــي : ابيـــــح لــهم اكل الكـــــلاب وهــــم هــــــم !
وان قلت : حنبليا، قالوا عني باننـــــــي : حـــلو لي بغــــــــيــض مـــــــــجــــــــــــم !
وان قلت : شافعيا، قالوا عني باننــــــي : ابيــــــــح نكاح البنت والبنت تحــــــــــــرم !
وان قلت : من اهل الحديث وحزبــــــه : يقولـــــون : عير ليس يــــــدري ويفهـــــــم !
الحنفية تبيح شرب الطلاء. المالكية تبيح اكل الكلاب. والحنبلية تقول ان اللـه مجسم له يد مادية ويجلس على كرسي مادي. والشافعية تبيح الزواج بالبنت اذا كانت وليدة زناء لا زواج شرعي. وأهل الحديث عير اي حمير ! (الرخص من جميع المذاهب).
5- على ان النهب في عهد المأمون، المعتصم وهلم نزولا كان اشرس !
6- سنعود لهذا الموضوع بالتفصيل في كراسنا القادم.
7- كان بين الخوارج جناح فوضوي ينكر الامامة (الدولة) ويقول لا داعي للامامة وانما حسب الناس ان يتعاطوا الحق بينهم.
|
----------------------------------------------------------------
|
|