الثلاثاء، 5 فبراير 2013

الشيوعية والديمقراطية -2- جمهورية الماركسيين


أنور نجم الدين 




مما سبق وصلنا إلى أن القضاء على الملْكية القديمة وعلاقاتها، لا تعني بالضرورة دكَّ عرش المَلَكية، فرأس المال سيجعل حتى من خادم الحرمَيْن، خادمًا متواضعًا للتجارة الرأسمالية، فالمزاحمة، والتبادل المعاصر، وتراكم رأس المال، والتقسيم الجديد للعمل في الدولة، ستنزع من المُلوك أوهامَهم الخاصة عن أنفسهم بوصفهم آلهة الأرض، فالملك خادم الطبقة المالكة وارستقراطييها السياسية. وبقدر ما تتخذ الحياة الاقتصادية شكلاً برجوازيًا، بقدر ما تتخذ الدولة أيضًا طابعًا أكثر برجوازيًا، ولكن دون ضرورة اختفاء الملك وحاشيته.

إن النظام السياسي للمَلَكية المطلقة، ينبثق من العلاقات الإقطاعية القديمة. وعند اختفاء هذه العلاقات والاستعاضة عنها بعلاقات برجوازية جديدة تختفي المَلَكية المُطْلَقة، ولكن ليس من الضروري أن يختفي التاج. فليس الملك مَنْ يعد رجعيًا، بل العلاقات الاقتصادية التي تحافظ على الملك علاقات رجعية، وهي علاقات الملْكية البرجوازية.

وهكذا، فكل انعطاف تاريخي يعني الانعطاف في علاقات الملْكية لا في الشكل السياسي للدولة. أما هذا الانعطاف لدى الماركسيين، فيحدث من خلال الجمهورية، الديمقراطية أولا والسوفيتيتة ثانيًا؛ ففضل الماركسيين على البرجوازيين هو أنهم جاءوا بتعريف جديد للجمهورية الأفلاطونية، وهي الجمهورية الماركسية، تحمل في طياتها مستقبل مشرق للبشرية. أما التاج فيختفي في هذه الجمهورية، ولكن ليست بالضرورة السلطة المطلقة للمَلَكية المطلقة، فسلطة لينين أو ستالين، تتجاوز سلطة القياصرة.
وهكذا، فجمهورية الماركسيين، لم تكن سوى التكييف مع الظروف القائمة للمجتمع الراهن، وهي لا تستهدف ولا يمكن أن تستهدف تحولاً ثوريًا للمجتمع. وبعد تاريخ طويل نسبيًا من سيادة الجمهورية الماركسية، نرَى أنها لم تقدم حتى ما قدمتها المَلَكية إلى المجتمع.
وهكذا، فعلى عكس الماركسيين، لا يتعلق الأمر إطلاقًا بالتحول في النظام السياسي. فكما تعرفون جميعًا، كانت الصناعة البريطانية تتطور تطورًا لا نظير له في أواسط القرن التاسع عشر. وفيما يخص الانعطاف التاريخي المقبل، أي التحولات الاشتراكية في التاريخ، كان ماركس –على عكس الماركسيين- يعلق آماله بتطور الصراعات الطبقية وراءها تناقض في تطور الصناعة البرجوازية ومدنيتها المتأزمة لا الشكل السياسي لدولتها، فهل سمعتم مرةً الشيوعيين القدامى يتحدثون عن ضرورة إقامة الجمهورية البريطانية كشرط مسبق لحدوث ثورة بروليتارية في بريطانيا؟
كلا، بكل تأكيد! فنشر وهم الجمهورية الماركسية بوصفها خطوةً إلى الأمام؛ ليس من صنع ماركس، بل من صنع الماركسيين الجمهوريين، وعلى الأخص لينين. فمثلما تحدث ثورة صناعية مرة واحدة في التاريخ، فتحدث ثورة برجوازية مثل الثورة الفرنسية مرة واحدة في التاريخ، فالثورة الصناعية هي التي أَوْجَدَت أساسا ماديًّا للتقدم الصناعي والتجاري في العالم كله، مثلما صاغت الثورة البرجوازية الفرنسية، المبادئ الأولية لـ "لثورات" السياسية التي تأتي بعدها وبناءً على درجة التقدم الصناعي في البلدان المعنية. فتطور الصناعة، وحاجات المجتمع البرجوازي، والصراعات الطبقية بين البرجوازية والبروليتاريا يعود إلى التطور في علاقات الملْكية لا الشكل السياسي للدولة.
وهكذا، فوهم الجمهورية بوصفه مقدمة ضرورية للثورة البروليتارية، ليست سوى محاولة الاشتراكيين - الديمقراطيين (البلاشفة والمناشفة بالذات) لتلويث البيئة البروليتارية بمفاهيم البرجوازية عن الثورة. فتستمد الجمهورية –الديمقراطية كالدكتاتورية- أهدافها من الماضي لا المستقبل، فمثلها مثل المَلَكية، تحافظ على الملْكية الخاصة. أما الثورة البروليتارية، فذات أهمية تاريخية عالمية، تبشر بعهد جديد في التاريخ العالمي، عهد ما بعد الجمهورية، أي ما بعد السيادة السياسية.
وهكذا، فعلى عكس اليسار الماركسي، فلا يجمع أي جامع بين المنهج الشيوعي للتحويل الثوري للعالم، ومنهج الديمقراطيين لإصلاح المجتمع القائم. فكل محاولة لليسار الماركسي للتوحيد بين هدف البروليتاريا الآنية والديمقراطيين من جديد، لا ينتهي إلا بتفسخ جديد لمعنوية البروليتاريين، فتوحيد العمل مع البرجوازية الديمقراطية في الوقت الحاضر ورفع شعار "وطن ديمقراطي وشعب سعيد"، لا يختلف بأي شكل كان من توحيد العمل مع البرجوازية الوطنية أمثال جمال عبد الناصر وعبد الكريم قاسم، ثم شعار "وطن حر وشعب سعيد". وإن كل توحيد جديد من هذا القبيل سيجعل من البروليتاريا من جديد، ذيلًا هزيلًا للبرجوازية الوطنية.
"ومن المؤكد أن هذا التوحيد من شأنه أن يعود بالضرر على البروليتاريا وأن يعود بالنفع عليهم –البرجوازيين الديمقراطيين-بوجه الحصر. ومن جراء ذلك، تفقد البروليتاريا كليًا استقلالها .. وتسقط من جديد إلى مستوى ذيل الديمقراطية البرجوازية. وهذا يعني انه ينبغي رفض هذا التوحيد رفضًا قاطعًا تمامًا. وعوضًا عن السقوط من جديد إلى مستوى جوقة تصفق للديمقراطيين البرجوازيين تصفيق التحبيذ، يجب على العمال وعلى العصبة في المقام الأول بذل الجهد لكي يؤسسوا، إلى جانب الديمقراطيين الرسميين، منظمة مستقلة، سرية وعلنية، لحزب العمال، ويحولوا كلاً من مللهم إلى مركز ونواة لجمعيات العمال يمكن فيها بحث مواقف البروليتاريا ومصالحها بصورة مستقلة عن المؤثرات البرجوازية" (كارل ماركس، رسالة اللجنة المركزية إلى عصبة الشيوعيين).

يتبع

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق