السبت، 22 أكتوبر 2011

نقد الأخلاق عند لينين

تمهيد:

لو بدأنا من عصرنا الحاضر، لرأينا أن فكرة الأخلاق لم تتغير عبر العصور إلا قليلا، ففكرة الأخلاق في العصر الحديث، هي صياغة جديدة للفكر التأملي القديم، وهي تبدأ بدراسة الفرد، وعلاقة الجسد بالنفس، وتجريد الفرد عن عالمه الواقعي، وتكوين كائن أخلاقي منه، فالشخصية الفريدة للإنسان تشكل الشخصية الخالصة التي يتخيلها العقل الفلسفي، وهذا الفرد الفلسفي هو كائن منفصل عن كل العلاقات البشرية.
إن هذا الانفصال بين أخلاق الفرد وحياته المادية، هو أساس تجريد الإنسان عن كل العلاقات الدنيوية. وهذه الفكرة تشكل مفهومًا فلسفيًّا يفقد الأفراد فيه كل صفاتهم الاجتماعية المشتركة، لا في الفلسفة فحسب، بل في علم النفس أيضًا، أو كما يقول كارل ماركس: (إن كل فرد متميز كليًّا عن أي فرد آخر، شيء ما أوحد)، وهو ما يشكل مفهوم (الأنا) في الفلسفة -أو في علم النفس أيضًا.

يقول ماركس: "المفهوم هو (الأنا) -انظر المنطق لهيغل، القسم الثالث-، المنطق بوصفه الأنا. هذه هي العلاقة المحضة للأنا بالعالم، علاقة مجردة من جميع العلاقات الفعلية المتعلقة بها - الأيديولوجية الألمانية، تعريب الدكتور فؤاد أيوب، ص 291.

وهكذا، فـ (الأنا)، أو الفرد المنفصل عن العالم الواقعي، هو سر من أسرار الفلسفة يلخصه الأوحد، أي الأفراد المتميزيين عن بعضهم بعضًا. وإن مفتاح هذا السر الفلسفي هو الأخلاق. فما هذا السر؟

السر في فلسفة الأخلاق:

الأخلاق أو فلسفة الأخلاق، تبحث البشر وعلاقاته في قوى الخير والشر، فالخير كالشر فكرة خاصة بالفرد ناتجة من المعرفة والجهل. وإن كل النزاعات البشرية الموجودة على الأرض، تأتي من نزاع قوى الخير والشر -من المعرفة والجهل- لا من النزاعات العملية الناتجة من المصالح الاقتصادية والسياسية المتناقضة.

إن الأخلاق أو فلسفة الأخلاق، تعني بكل بساطة نزع الأفكار الشيطانية -الأفكار الشريرة - من رؤوس الناس وتخلي الفرد عن فكرة التناقضات بدل السيطرة على المصدر المادي التاريخي لهذه التناقضات. ويلخص ماركس هذا الفرد الفلسفي المتصور، في الشكل التالي:

(ومثال آخر)، ألا وهو مثال أعم على تكريس العالم، هو تحويل النزاعات العملية، أي النزاعات بين الأفراد وشروطهم الحياتية الفعلية، إلى نزاعات مثالية، أي نزاعات بين هؤلاء الأفراد والأفكار التي يشكلونها أو يقحمونها في رؤوسهم .. إن التناقضات الفعلية وهي تناقضات الفرد نفسه تتحول إلى تناقضات الفرد وفكرته الخاصة .. وهكذا ينجح في تحويل النزاع الفعلي -المصدر الأصلي لانعكاسه المثالي- إلى نتيجة لهذا المظهر الأيديولوجي. وهكذا فهو ينتهي بهذه الطريقة إلى النتيجة التالية: ليس المقصود هو الإلغاء العملي للنزاع العملي، بل مجرد التخلي عن فكرة النزاع، وهو التخلي الذي يستحث الناس بكل إصرار على تنفيذه، وذلك بوصفه داعيةً أخلاقيًّا صالحًا" (كارل ماركس، نفس المصدر السابق، ص 301.

وهكذا، إن الإنسان الأخلاقي هو الإنسان الفاضل، والنزاع الموجود في المجتمع، هو نزاع الفضيلة والرذيلة لا الصراع بين المنافع والمصالح المختلفة. وإن هذه الفكرة قديمة قدم الأخلاق التي تنادي بها الأديان القديمة.

الأديان والأخلاق:

في التاريخ القديم، إن الأخلاق الكريمة هي الهدف الأسمى لبعث الأنبياء. هذا هو ملخص تاريخ أكثر من ثلاثة آلاف السنة من الحضارة اليهودية والمسيحية والاسلامية. والأخلاق صفة راسخة من النفس تدعو البشر إلى فعل الخير أو الشر، ففي نظر معظم الباحثين، تعتبر الأخلاق نتاجًا للأفكار الدينية، وإنها جوهر الأديان السماوية لدى البعض، إنها تحقيق لأحكام الشرائع الدينية وعلاقتها بتحقيق الفضائل الأخلاقية. وتبدأ مسيرة الأخلاق من الحضارات البشرية القديمة، من بلاد الفارس والهند والصين وبابل والحضارة الفرعونية. وفي وقت متأخر من التطور البشري، أي بعد التطور عبر آلاف السنين من الحضارات القديمة، تصل الأخلاق إلى فلاسفة الإغريقيين القدامى مثل سقراط وأفلاطون وأرسطو. والفلسفة تبحث سر (الأنا) في منطق الحكمة الجديدة، وإن هذه اللعبة المنطقية تشكل كل أساس فلسفة الأخلاق، وكأن البشر وأفكاهم الأخلاقية، تؤسس قاعدة التحرك نحو التحرر حتى من مجتمع استثمار الإنسان من قبل الإنسان، وها هو لينين يعلمنا بأن الأخلاق هي التي ما يتيح هدم المجتمع الحاضر.

لينين والأخلاق:

يقول لينين: "إن الأخلاق تتيح للمجتمع الانساني أن يرتفع إلى أعلى، أن يتحرر من استثمار العمل"، "إننا نقول إن أخلاقنا خاضعة تماما لمصالح نضال البروليتاريا الطبقي إن أخلاقنا تنبثق من مصالح نضال البروليتاريا الطبقي .. إن الأخلاق الشيوعية إنما هي الأخلاق التي تخدم هذا النضال وتوحيد الشغيلة ضد كل استثمار"، "نحن نقول الأخلاق هي ما يتيح هدم مجتمع المستثمرين القديم)" (انظر لينين: الأخلاق، والأخلاق الشيوعية).

إن ما يسمى المفهوم اللينيني الجديد للأخلاق لا يختلف إطلاقًا عن المفهوم القديم للأخلاق، والفرق التاريخي هو ما يسمى الفرق بين (إشباع رغائب الجسد الفاني) في الحضارات القديمة، و(السعادة الحسية) و(المتعة) في الحضارة الجديدة. والأخلاق هي نفسها في مجتمع تاريخي معين إذا كانت تسمى الشيوعية أم الاسلامية، وهي القيم الأخلاقية السائدة التي تحددها مرحلة معينة من التطور الاجتماعي يتقاسم بها الأفراد في المرحلة التاريخية المعنية، فلا يختلف الأفراد عن بعضهم البعض في قيمهم الاجتماعية أو أخلاقهم التاريخية، أو كما يقول ماركس:

"إن تاريخ فرد وحيد لا يمكن أن يفصل عن تاريخ الأفراد السابقين والمعاصرين، بل هو على العكس من ذلك محدد بهذا التاريخ - كارل ماركس، نفس المصدر السابق.

إذا قلنا: (إن الأخلاق هي ما يتيح هدم مجتمع المستثمرين القديم) فنعني بذلك أن استثمار الإنسان من قبل الإنسان قضية أخلاقية لا اقتصادية، لذلك فالأخلاق هي التي تتيح للمجتمع أمر التحرر من الاستثمار. وهذا يعني أن ثراء البعض على حساب بعض آخر قضية أخلاقية لا اقتصادية، وأن أمر إنهاء استثمار الإنسان للإنسان أيضًا قضية أخلاقية. وأن الطريق قصير قصر نزع أفكار الاضطهاد من رؤوسنا.

ينتقد لينين فكرة التملك الخاص على الشكل التالي ويقول: "إني أسعى وراء فائدتي أنا. والباقي لايهمني أبدًا...".

إن هذه الفكرة ناتجة من المصالح الاقتصادية الصرفة لا من الأخلاق، فالسعي وراء المنفعة الشخصية، قضية اقتصادية وسياسية، لذلك فلا يحول البشر شيئًا من الاضطهاد من خلال تغيير أفكارهم من الأفكار السيئة إلى الحسنة، من فكرة: (الباقي لا يهمني) إلى فكرة: (الباقي يهمني).

إن فكرة لينين الأخلاقية تنتهي في الواقع إلى النتيجة الآتية: تخلي الفرد عن فكرة الملكية! وهذا يعني تحويل جميع العلاقات والامكانات المادية التي تحيط بالبشر إلى مجرد فكرة الفرد الأخلاقية في رفض عالم الملكية، فالأخلاق اللينينية تنادي أيضًا بتغيير الفرد لأفكاره لا لشروط حياته. لذلك فالفرد الواقعي في فكرة لينين الفلسفية، يتحول إلى نفس الفرد المتصور في الأخلاق. فصفة الإنسان الأخلاقية في فكر لينين، مثلها مثل بقية الأفكار الفلسفية الأخرى، تتغلب على كل صفاته التاريخية.

إن الأخلاق ظاهرة تاريخية، تعبر عن الأيديولوجية السائدة للطبقة السائدة. أو كما يقول ماركس:

"فقد تحولت النبالة إلى التدين والتقوى، والبرجوازية إلى الأخلاق المتزمتة في نظرياتهما ... " (نفس المصدر السابق".

وما كنا لنفهم هذا التحول التاريخي من التقوى إلى الأخلاق المتزمتة إلا حين وصل الصراع الطبقي إلى حد تهديد مصالح الطبقة السائدة. فالأمر إذًا لم يتعلق بالخلاص من فكر الطبقة السائدة والاستعاضة عنها بفكر آخر أكثر إنسانية من أيديولوجية الطبقة الحاكمة، أو كما يقول ماركس:

... "هذه الامور جميعا ما كان يمكن بالطبع ان تكتشف إلا حين أصبح في الامكان نقد شروط الإنتاج والتعامل التي عرفها العالم في سياق تاريخه، أي حين أدى التناقض بين البرجوازية والبروليتاريا إلى نشوء النظريات الشيوعية والاشتراكية. لقد حطم هذا النقد أسس كل الأخلاق، سواء أكانت أخلاق النسك أم المتعة" (كارل ماركس، نفس المصدر السابق).

وهكذا، فالأخلاق بوصفها قوى محركة للتاريخ، ليست سوى تصور وهمي صنعه الفلاسفة عن المجتمع وقواه الوهمية التي يؤسس البشر بموجبها علاقاتهم. أو كما يقول ماركس:

"إن هذه النظرة إلى الحياة - حتى نظرة الفلاسفة الزائفة- لا يمكن بكل تأكيد أن تحدد، في جميع الاحوال، إلا بفعل حياتهم الفعلية" (نفس المصدر السابق).

الخلاصة:

"إذا كانت الظروف التي يحيا المرء فيها لا تتيح له التطور الوحيد الجانب لصفة وحيدة على حساب جميع الصفات الباقية، إذا لم تزوده إلا بالمواد والوقت ليطور تلك الصفة فقط، فان هذا الفرد لا يحقق إذن سوى تطور مشوه، وحيد الجانب، ولا ينفع هنا أي وعظ أخلاقي" (كارل ماركس، نفس المرجع السابق).

وهذا يعني: (أن الأخلاق هي ما يتيح هدم مجتمع المستثمرين القديم) كما يقول لينين، ليس سوى وهم شائع، تبرر في الأساس سياسة مفيدة - ليبرالية أم دكتاتورية - فإخضاع المصالح الطبقية للأخلاق، محاولة لتبرير السياسة الممكنة، أي ربط الأخلاق بمسائل الاستراتيجية والتكتيكية للثوريين، كما يحاول تروتسكي أيضًا إقناعنا به.

ولكن في الواقع، ان هذه الصفة الوحيدة، أي الأخلاق، لا تنفع دون تطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بأكملها. وفيما يتعلق بمستقبل الصراع، فإن هذا التطور سيلغي الأخلاق -فكرة الطبقة السائدة- بدل إعادتها في شكل جديد. فالأخلاق ليست سوى قيم ومعايير، أي انها ليست منظم العلاقات البشرية أو مصدر التطور التاريخي للمجتمع، كما يوهمنا به لينين. ان الفرق بين الأخلاق والفيزياء هو نفس الفرق بين الأخلاق والاقتصاد. أو كما يقول أندره كونت سبونفيل الفرنسي:

"لو ان أحدكم اعترض قائلا: (أجل، أجل، هذا ما يقال؛ ولكن هل هذا كله أخلاقي، عندما ندرك أن هذا ما يؤدي إلى تفجير القنبلة الذرية)؟ عندئذ من شأن عالم الفيزياء أن يرد قائلا: (نحن لا نتحدث عن الشيء نفسه على الاطلاق...! إنني في هذه الأثناء لا أحدثكم في الأخلاق، بل في الفيزياء، وفي الفيزياء لا وجود للأخلاق!)" (هل الرأسمالية أخلاقية؟) ص 67

كما في الاقتصاد لا وجود أيضًا للأخلاق، وإذا كانت أخلاق الشيوعيين تختلف حتى عن أخلاق كل الناس الآخرين، فهذا لا يحرك المجتمع وطبيعته وأسلوبه في الإنتاج وشكل علاقات البشر بالبشر قيد أنملة.

ان الأخلاق تعبر تاريخيا عن المواد التاريخية المجهولة في الأساس (لنقد شروط الإنتاج والعلاقات الإنتاجية التي عرفها العالم في سياق تاريخه السابق). وحين بدأ البشر بانتقاد شروط الإنتاج والعلاقات البشرية الناتجة منها، فقد بدأ إذاك بتحطيم أسس كل أخلاق، وان هذا النقد التاريخي للعلاقات المادية بين البشر، يضع الأفعال الأخلاقية خارجًا عن القوانين الاقتصادية التي تنظم وتحرك المجتمع.

وهكذا، فإن فلسفة الأخلاق عاجزة كليًّا عن تفسير التاريخ وعلاقات الكائنات البشرية ببعضهم البعض، فعلم المادي التاريخي لا الفلسفة -الافلاطونية كانت أم المادية الديالكتيكية- بمقدورها تفسير علاقات البشر المادية بالبشر، فالمادية التاريخية علم اقتصادي - تاريخي يبحث البشر وعلاقاتهم التجريبية بالاقتصاد التاريخي لا بالعلاقة بين الجسد والنفس. وإذا بدلنا مفهوم الأخلاق من مفهوم خرافي إلى مفهوم ليبرالي أو شيوعي، فاننا ما زلنا نتحدث عن نفس المفهوم الذي اختلقه العقل الفلسفي المنفصل عن الواقع المادي للبشر. وإن اساس هذا التفكير هو أن البشر يستطيعون نزع فكرة الشر من رؤوسهم والاستعاضة عنها بفكرة الخير. وهذا ما لا يمكن أن يقره المفهوم المادي للتاريخ، وسيبقى النزاع هذا بين فلسفة الأخلاق والعلم المادي للتاريخ، بصورة أبدية.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق