الثلاثاء، 9 فبراير 2016

الله والدولة 2




وقد عرضت السبب الرئيسي والفعلي الكامن وراء السيطرة التي تمارسها المعتقدات الدينية على الجموع. وتدل هذه النزعات الصوفية على عدم الرضى العميق في القلب أكثر منه على السخط في العقل. وهي نوع من الاحتجاج الغريزي والعاطفي للكائن البشري على ضيق وتفاهة وأوجاع وعار وجود تعيس. وقد قلت لتوي إن هناك علاجًا واحدًا لهذا الداء وهو الثورة الاجتماعية.
في هذا الوقت حاولت أن أظهر الأسباب المسؤولة عن الظهور والتطور التاريخي لهذه الهلوسات الدينية في الضمير البشري. وغرضي هنا أن أعالج مسألة وجود الله أو الأصل المقدس للعالم وللبشر، من منطلق وحيد ألا وهو النفعية الأخلاقية والاجتماعية ولكن سأقول بخصوص هذا القليل بغرض شرح أفكاري حول الأسس النظرية لهذا المعتقد.
كل الأديان مع آلهتها وأنصاف آلهتها وأنبياءها ومخلصيها وقديسيها من إنتاج خيال الرجال الساذج ممن لم يتطورا تمامًا، ولم يحكموا السيطرة على ملكاتهم العقلية. بالتالي، فالجنة الدينية ما هي إلا سراب يتم تمجيده بالجهل والإيمان، ويكتشف فيها الإنسان صورته الحقيقية ولكن صورة مضخَّمة ومعكوسة. إن تاريخ الدين وتاريخ ظهور وعظمة وانحدار الآلهة التي تعاقبت في المعتقد البشري ليست سوى تطورًا للذكاء الجمعي والضمير البشري. وحالما يكتشف البشر عبر مسار تطورهم التاريخي، في دواخلهم أو في الطبيعة الخارجية، قوة ما أو خصوصية ما أو حتى أي عيب فسرعان ما يعزون ذلك إلى آلهتهم التي أمعنوا بتضخيمها وتكبيرها كثيرًا بأسلوب طفولي وبضغط وهمهم الديني. وبفضل هذا التواضع والكرم الديني للإيمان ووفرة الرجال السذج اغتنت الجنة بالملذات الأرضية، وبالتالي فكلما زاد ثراء الجنة كلما زاد بؤس الإنسانية والحياة على الأرض.
وعند تنصيبه إلهًا حصل الله وبشكل طبيعي على صفة "السبب" و"الوسيط" و"المخلص". بالتالي فالعالم لا شيء والله كل شيء، بينما الإنسان، صانع الله الحقيقي ومن أخرجه بدون علم من الفراغ سجد أمامه وعبده وعيَّن نفسه مخلوقًا وعبدًا له.
إنَّ المسيحية على وجه الخصوص دين بكل ما للكلمة من معنى، لأنها تُظهر بالكامل طبيعة وجوهر كل النظم الدينية المبنية على الفقر والعبودية وفناء الإنسانية من أجل الألوهية.
ولأن الله كل شيء فالعالم الحقيقي والبشر لا شيء. ولأن الله هو الحقيقة والعدالة والطيبة والجمال والقوة والحياة فالإنسان هو الزيف والظلم والشر والقبح والضعف والموت. ولأن الله هو السيد فالإنسان هو العبد. ولأن الإنسان عاجز عن ايجاد العدالة والحقيقة والحياة الأبدية بجهده الشخصي فهو لذلك بحاجة إلى التجلي الإلهي. ولكن من يقول بالتجلي الإلهي يقول بالمخلصين والأنبياء والكهنة والمُشرعين ممن يستقون الإلهام من الله ذاته، وعندما يدرك هؤلاء أنهم ممثلو الألوهية على الأرض وأنهم المرشدون الدينيون للبشرية ممن اختارهم الله ليقودوا طريق الخلاص فإنهم بالضرورة يمارسون سلطة مطلقة، وبالتالي يدين كل البشر لهم بالولاء. فالمنطق البشري أبعد من أن يواجه المنطق الإلهي، ولا تقوم أي عدالة أرضية بوجود العدالة الإلهية. ولكونهم عباد الله فيجب أن يكون البشر عباد الكنيسة والدولة بما أن الكنيسة من يقوم بترسيم الدولة. ومن بين جميع الأديان الأخرى الحالية منها والمندثرة فهمت المسيحية هذه الحقيقة. ولن نستثني الديانات الشرقية القديمة التي كانت حصرًا على أمم معينة ذات امتيازات. طمحت المسيحية إلى احتضان البشرية بأجمعها وادعت الكاثوليكية الرومانية من بين جميع الطوائف المسيحية هذا الطموح بمنطق حازم. ولهذا اعتبرت المسيحية الدين المطلق، الدين النهائي، والكنيسة البابوية والرومانية الكنيسة الوحيدة المقدسة والشرعية والمتماسكة من بين جميع الكنائس.
ومع احترمنا لكل الماورائيين والمثاليين الدينيين والفلاسفة والساسة والشعراء فإن فكرة الله تتضمن خطف المنطق والعدل البشري؛ إنه النفي الأكثر حسمًا للحرية البشرية وينتهي بالضرورة إلى عبودية الجنس البشري نظريًا وعمليًا.
إذًا، ما لم نرغب بعبودية وانحطاط الجنس البشري كما يريد اليسوعيون والكهنة والميثودولوجيون البروتستانت فلن نصل إلى أدنى اتفاق حول الله في اللاهوت وعلم الماورائيات. ومن يبدأ وفق هذه الأبجدية الصوفية بحرف الألف فسينتهي بحرف الياء، ومن يرغب بعبادة الله فليس عليه أن يلجأ إلى أي أوهام طفولية حول الأمر بل عليه وبكل شجاعة أن يرفض حريته وإنسانيته.
إن وجد الله فالإنسان عبده، إذًا؛ إن استطاع الإنسان وعليه أن يكون حرًا فإن الله لن يوجد.
أتحدى أيًّا كان أن يتجنب هذه الحلقة، وبالتالي ليختاروا.
من الضروري أن نوضح الطريقة التي تنتهجها الأديان للحط من وإفساد الناس؟ إنها تقوم بتدمير منطقهم، وهو الأداة الرئيسية في الانعتاق البشري، وتعمل على اختصارهم إلى مجرد حمقى. وبهذا تكتمل الشروط الرئيسية لتحقيق عبوديتهم. تهين الأديان العمل البشري وتجعله شكلًا أو مصدرًا للعبودية. يقتلون الكبرياء والكرامة البشرية ويحمون الأذلاء والبسطاء فقط. يكبحون في قلب كل أمة أي شعور بالأخوة البشرية ويملأوه بدلًا من ذلك بالقسوة الإلهية.
كل الأديان وحشية وتأسست على الدماء. فكلها مبنية على فكرة التضحية؛ أي قائمة على القربان الأبدي للإنسانية من أجل الثأر الإلهي اللامحدود. وفي هذا اللغز الدموي الإنسان هو دومًا الضحية وهو الكاهن، هذا الكاهن الإنسان أيضًا ولكنه إنسان يمتاز بالنعمة الإلهية لكونه الجلاد الإلهي. وهذا يوضح لما كل الكهنة في كل الأديان هم الأفضل والأكثر إنسانية والألطف، وأنهم في أعماق قلوبهم، إن لم يكن في قلوبهم ففي مخيلتهم وفي عقولهم (ونحن نعلم تأثير كليهما على قلوب البشر) هناك شيء ما قاسٍ ودموي.
ما من أحد أدرى بهذه الحقيقة أكثر من المثاليين المعاصرين المشهورين. فهم رجال متعلمون يعلمون التاريخ ظهرًا عن قلب، وهم في الوقت ذاته رجال أحياء، أرواح عظيمة تفيض بالمحبة الصادقة والعميقة للمصلحة البشرية. وقد رفضوا ووصموا كل هذه الآثام وكل جرائم الدين بكل بلاغة لا نظير لها. وأنكروا أي نوع ديني من الاتحاد مع الله ومع ممثليه في الماضي والحاضر وعلى الأرض. فالله الذي يعبدونه أو يعتقدون أنهم يعبدونه يختلف عن الآلهة الحقيقية في التاريخ في أنه ليس إلهًا تامًا ومعرَّفًا لاهوتيًا أو ميتافيزيقيًا. فهو ليس الكائن السامي الخاص بروبسبير وجان جاك روسو أو الإله الوجودي لسبينوزا أو حتى إله هيغل الخارق والخفي والعريق. فهم معنيون بعدم اعطاءه أي تعريف واضح بدفع من شعورهم أن أي تعريف سيخضع هذا الإله لسلطة النقد التحليلية. ولن يقولوا إن كان هذا الإله شخصي أم لا، سواء خلق العالم أم لم يخلقه،  ولن يتكلموا عن عنايته الإلهية. فكل ما قد يقال قد يهدده وهم قانعون بكلمة "الله" ولا شيء أكثر. لكن ما هو "الله" الخاص بهم؟ هو ليس بفكرة، هو إلهام.
إنه الاسم الشامل لكل ما هو عظيم وصالح وجميل ونبيل وإنساني بالنسبة لهم. ولكن لما لا يقولون بكل بساطة "الإنسان". السبب وجود بشر مثل ملك بروسيا ويليام ونابليون الثالث وهذا يزعجهم بشدة. الإنسانية الحقيقية عبارة عن مزيج من كل ما هو سامٍ وجميل مع كل ما هو تافه ومتوحش في العالم. فكيف يتغلبون على هذا؟ لماذا يقولون إن هذا إلهي وذاك وحشي، معتبرين أن الألوهية والحيوانية قطبان منفصلان بينهما تقع الإنسانية. ربما لن يفهموا أو لن يكون باستطاعتهم استيعاب فكرة أن المصطلحات الثلاث ما هي إلا مصطلح واحد، وبفصلها لا يتحقق سوى سحقها.
يبدو أنَّ المنطق ليس أحد نقاط قوتهم، وبالإمكان القول أنهم يبغضونه. وهذا ما يميز الميتافزيقيين الموحدين، ويمنح أفكارهم صبغة المثالية العملية والمستوحاة من التجارب أكثر من كونها نتيجة لتطور حاد في الفكر البشري. ويمكنني القول إنهم يستقونها من الانفعالات التاريخية والجمعية والفردية للحياة. هذا يعطي دعايتهم مظهر الثراء والسلطة الفعالة، ولكنه مجرد مظهر لأن الحياة بحد ذاتها تصبح عقيمة عندما يتم شلُّها بالتناقض المنطقي.
هذا التناقض المنطقي يكمن هنا في أنهم يتمنون وجود الله ويتمنون وجود الإنسانية، وهم مستمرون في ربط المصطلحين اللذين في حال فصلهما قد يلتقيان مجددان ليدمرا بعضهما. يقولون بصوت واحد: "الله وحرية الإنسان"، "الله وكرامة وعدالة ومساواة وأخوة ورفاه البشر" - بغض النظر عن المنطق القاتل في هذه الكلمات والكامن في فكرة أن وجود الله يعني أن كل هذه الأشياء محكومة بوجوده. فإن وجد الله فسيكون بالضرورة السيد الأبدي والسامي والمطلق، وإن وجد مثل هذا السيد سيكون الإنسان عبدًا، ولن تكون العدالة أو المساواة أو الأخوة أو الرفاه في متناوله. وعبثًا يطيحون بالمنطق السليم وبكل تعاليم التاريخ، ويقدمون الله الذي تحركه المحبة الرقيقة للحرية البشرية. ذلك السيد أيًّا يكن وبغض النظر عن مدى التحرر الذي يرغب بإظهاره يبقى في النهاية ودومًا السيد. فمجرد وجوده يعني عبودية كل من يقع تحته. بالتالي، إن وجد الله فإنه سيخدم الحرية البشرية بطريقة واحدة ألا وهي بالتوقف عن الوجود.
وكعاشق غيور للحرية البشرية وراغب في تحقيق الشرط المطلق والموجود في كل ما نحترمه ونقدسه في الإنسانية سأقوم بعكس عبارة فولتير: "إن وجد الله حقًا فمن الضروري أن نقوم بإلغائه".
وهذا المنطق الصريح الذي تعبر عنه هذه الكلمات واضح بما يكفي لكي لا يتطور إلى اشكالية. ويبدو لي من المستحيل أن هؤلاء الرجال المتنورين والمحترمين لم يُصعقوا بهذا، ولم يتنبهوا إلى التناقض الذي وضعوا أنفسهم فيه عندما تكلموا عن الله والحرية البشرية كشيء واحد. وبتجاهلهم لهذا لا بد أنهم اعتبروا هذا التناقض أو الترخيص المنطقي ضروري من أجل خير الإنسانية.
قد يكون السبب في أنهم عندما تكلموا عن الحرية كشيء محترم وعزيز بنظرهم لم يتحدثوا عنها بالمعنى الذي نستخدمه نحن الماديون والاشتراكيون الثوريون. في الحقيقة لا يتكلمون عن الحرية بدون أن يضيفوا كلمة أخرى ألا وهي السلطة وهي كلمة نكرهها جميعًا من كل قلبنا.
ما هي السلطة؟ هل هي السلطة الحتمية للقوانين الطبيعية التي تعبر عن نفسها في التعاقب الثابت للظواهر في العوالم المادية والاجتماعية؟ في الواقع إن الثورة على هذه القوانين ليست محرمة فقط بل مستحيلة. ولربما أساءنا فهم هذه القوانين أو لم نعرفها حق المعرفة، ولكننا لا نستطيع عدم اطاعتها لأنها الشروط الأساسية لوجودنا؛ فهي تغلفنا وتخترقنا وتنظم كل تحركاتنا وأفكارنا وتصرفاتنا. وحتى عندما نعتقد بأننا نعصي هذه القوانين فإننا حقًا نبرهن على قوتها العظيمة.
أجل إننا عبيد لهذه القوانين. ولكن في مثل هذه العبودية، أو ربما هي ليست عبودية، ليس هناك أي امتهان. لأن العبودية تفترض وجود سيد خارجي، مُشرِّع ما يخرج منه من يطيعون أوامره. هذه القوانين لا توجد خارجنا، بل هي متأصلة فينا وتأسس وجودنا الكامل، وجودنا المادي والفكري والأخلاقي. نعيش ونتنفس ونتصرف ونفكر ونتمنى فقط من خلال هذه القوانين. بدونها نحن لا شيء، غير موجودون، وبالتالي من أين سنأتي بالقوة والرغبة في التمرد عليها؟
هناك حرية واحدة ممكنة للإنسان عندما يتعلق الأمر بالقوانين الطبيعية، هذه الحرية هي معرفة هذه القوانين وتطبيقها بلا حدود وبشكل منسجم مع غاية الانعتاق الجمعي والفردي أو مع الأنسنة humanization التي نطمح إليها. ولهذه القوانين عند فهمها سلطة ما لا يمكن للجموع البشرية تفنيدها ببساطة. ولا بد أن يكون الفرد الذي يتمرد على هذه القوانين الثابتة أحمقًا أو لاهوتيًا أو على الأقل ميتافزيقيًا أو رجل قانون أو عالم اقتصاد برجوازي. ولا بد أن يكون الإيمان ما يدفع من يتخيل بأن النار لا تحرق أو أن الماء لا يُغرق إلى التفكير بوجود خدعة ما كامنة في قوانين الطبيعة. إن محاولات التخيل الأحمق بوجود خدعة ما حالة استثنائية بلا شك، ويمكننا الجزم عمومًا بأن الجموع البشرية على دراية مطلقة تمامًا بملكة الحس السليم التي هي حاصل ادراك جميع القوانين الطبيعية.
ولكن المصيبة العظيمة بقاء عدد كبير من القوانين الطبيعية، التي أثبتها العلم، مجهولة للجموع. وهذا بفضل رقابة ووصائية هذه الحكومات التي تشكلت لتلبية مصالح وخير الشعوب. تبرز مشكلة أخرى وهي أنَّ الجزء الأعظم من القوانين الطبيعية مرتبط بتطور المجتمع البشري، وهذه القوانين الضرورية والثابتة والحتمية كالقوانين التي تحكم العالم المادي، لم يثبتها ويقرها العلم كما ينبغي.
عندما يُقرُّ العلم هذه القوانين ستنتقل، عبر نظام تعليم وتوجيه شعبي شمولي، إلى وعي الجميع، وبالتالي ستُحسم آنذاك مسألة الحرية. وقتها ستقرُّ أكثر السلطات عنادًا أنه ما من حاجة إلى التنظيم السياسي أو التوجيه أو التشريع. هذه الحاجات الثلاث التي تأتي من إرادة المهيمن عليهم أو من تصويت البرلمان المنتخب بأصوات الغالبية. هذه الحاجات الثلاث التي يجب أن تنسجم مع نظام القوانين الطبيعية، ولكن هذا ما لم ولن يحدث. فهي حاجات قاتلة ومعادية لحرية الجموع بناءً على الحقيقة القائلة بأن منظومة قوانين فُرضت خارجيًا وبالتالي هي استبدادية.
إذًا فحرية الإنسان هي في إطاعته للقوانين الطبيعية التي يدركها بنفسه وليس لأن إرادة خارجية، إلهية كانت أم بشرية، جمعية أو فردية، فرضتها عليه.
فلنفترض أن هناك مُجمَّعًا مؤلفًا من ألمع ممثلي العلم ولنفرض أن هذا المُجمَّع يحكمه التشريع ومؤسسة المجتمع، فهو ومدفوعًا بالحب الأنقى للحقيقة لن يأتي بشيء سوى بالقوانين التي تنسجم تمامًا مع الكشوفات العلمية الحديثة. وأنا بأي حال أصرُّ على أن هذا التشريع وهذه المؤسسة سيكونان فظاعة وذلك لسبيبين. أولًا، لأنَّ العلم الانساني ناقص وبمقارنة ما تم اكتشافه مع ما لم يكتشف بعد سيبدو العلم الإنساني في مهده فقط. إذًا، لو حاولنا فرض نوع من التوافق التام والحصري بين الحياة العملية للبشر، الجمعية منها والفردية، والكشوفات العلمية الحديثة فسنكون بذلك قد حكمنا على المجتمع والأفراد بمعاناة أشبه بالشهادة التي ستنتهي لاحقًا بتشويههم وخنقهم. والحياة ستبقى أبدًا أعظم من العلم.
ثانيًا، إن أطاع مجتمع ما التشريع المنبثق عن المُجمعات العلمي فقط لأن هذا التشريع المنبثق فُرض باسم العلم المقدس وليس لأنه تمَّ فهم الجانب العقلاني لهذا التشريع (في هذه الحالة سيكون وجود المجمع العلمي بلا جدوى)، سيكون هذا المجتمع مجتمع وحوش. سيكون أشبه بنسخة ثانية عن الارساليات التي توجهت إلى البارغواي، وخضعت لسلطة اليسوعيين. ومن كل بد سينحدر هذا المجتمع بسرعة إلى مستوى الغباء المهين.
لا يزال هناك سبب ثالث يجعل من هكذا حكومة مستحيلة. فعندما يتَقلَّد مُجمعٌ علمي ما، حتى لو كان مكونًا من ألمع الرجال، منصبًا ما أو سلطة ستكون نهايته الانحلال الأخلاقي والفكري. حتى في يومنا وبالرغم من الامتيازات القليلة الممنوحة يبدو أن نهاية كل المجمعات العلمية حتمية. فمن اللحظة التي يصبح فيها أي نابغة أكاديميًا، أي يصبح عالمًا مُرخصًا بشكل رسمي، لا بد له من السقوط في هوة البلادة وفقدان عفويته وبسالته الثورية وتلك الطاقة المشاغبة والوحشية الخاصة بأعظم العباقرة ممن يدعون إلى تدمير العوالم القديمة المترنحة ووضع أساسات عالم جديد. ومقابل التهذيب الذي يكتسبه بفضل الحكمة النفعية والعملية يفقد قوة الفكر. وبكلمة واحدة سيصاب بالانحلال.
ومع كل امتياز أو منصب امتيازي يموت في الرجال عقلهم وقلبهم. فالرجل صاحب الامتياز السياسي أو الاقتصادي رجل مسلوب العقل والقلب. وهذا عرف اجتماعي شامل في جميع الأمم والطبقات والشركات والأفراد. إنه قانون المساواة وشرط الحرية والمساواة الأسمى. والغاية الأساسية من وراء هذا الطرح هي توضيح هذه الحقيقة بكافة تجلياتها في الحياة الإنسانية.
ولكن سينتهي الأمر بهذه الكتلة العلمية التي استلمت زمام حكومة المجتمع إلى تكريس نفسها إلى شيء آخر غير العلم وهذا الشيء هو، كما هي حال كل السلطات المؤسسة، وجودها الدائم من خلال صناعة مجتمعًا أكثر غباءً وبالتالي حاجة أكبر إلى وجود حكومة وقيادة.
وما ينطبق على المُجمعات العلمية ينطبق على مكونات الهيئات التشريعية حتى تلك المنتخبة. ولن يمنع الحالة التشريعية التي تسمح بتجديد تركيبتها من التحول بعد عدة سنين إلى كتلة مكونة من سياسيين ذوي امتيازات، وإن لم تكن امتيازات يمنحها القانون. سيتحولون إلى أشخاص يكرسون أنفسهم بشكل حصري لإدارة الشؤون العامة للبلد ويتحولون في النهاية إلى نوع من الارستقراطية أو الأوليغارشية السياسية. لاحظ ما يحدث في الولايات المتحدة وسويسرا.
فالتشريع والسلطة لا ينفصلان عن بعضهما، ووجودهما يحقق عبودية المجتمع وانحلال المشرعين أنفسهم.
هل يعني هذا أنني أرفض أي شكل سلطوي؟ أنا بعيد تمامًا عن هكذا تفكير. على سبيل المثال إن كان لدي أمر متعلق بالأحذية سأستشير اسكافيًا، وإن كان هذا الأمر له علاقة بالأبنية أو السكك الحديدية فسأستشير مهندسًا معماريًا. فأي نوع خاص من المعرفة يتطلب عالمًا مختصًا. ولكن بالرغم من هذا لا أسمح للإسكافي أو للمهندس أو للعالم بفرض سلطتهم علي. أصغي إليهم بالتأكيد بكل حرية وبكل الاحترام الذي يستحقه ذكاءهم وشخصيتهم ومعرفتهم، ولكن احتفظ في الوقت ذاته بحقي الثابت في النقد. فأنا لا أكتفي باستشارة سلطة ما في مجال ما، بل أستشير مجموعة من السلطات، وأقارن أراءهم وأختار من بينها الرأي الأسلم. ولكن لا أعتقد بوجود أي سلطة معصومة عن الخطأ حتى عندما يتعلق الأمر بأمور اختصاصية. وبالتالي هذا يعني أن أي احترام لصدق ونزاهة هذا الفرد أو ذاك لا يعني البتة أنني أؤمن به ايمانًا مطلقًا. سيكون هذا الايمان المطلق قاتلاً لمنطقي وحريتي وحتى لنجاحي في تعهداتي. فهذا الإيمان المطلق سيحولني إلى عبد غبي وإلى مجرد أداة يستخدمها الآخرون لفرض إرادتهم ومصالحهم.
إن انحنيت لسلطة الاختصاصين وأبديت استعدادًا لاتباع، إلى حد ما وبالقدر الكافي، توجيهاتهم وحتى أوامرهم فإن ذلك سيكون لأن سلطتهم لم يفرضها أحد علي، لا إنسان ولا إله. وإن فرضت علي فإنني سأتمرد وسأدعو أن يأخذ الشيطان كل نصائحهم وأوامرهم وخدماتهم، وأنا على ثقة بأنهم سيجعلونني أدفع الثمن، وسيسرقون حريتي واحترامي لذاتي مقابل فتات الحقيقة المغلف بأكوام الأكاذيب.
سأنحني لسلطة الاختصاصين إن فرضها علي منطقي وليس منطقهم. وأنا أعي عجزي عن استيعاب قسم كبير من المعرفة البشرية بكافة تفاصيلها وسيرورة تطورها. ولا يستوي الذكاء العظيم مع فكرة الاستيعاب الشمولي للكل. ونتيجة لهذا، في العلم كما في الصناعة تبرز أهمية تقسيم العمل. أنا آخذ وأعطي، فهذه هي الحياة البشرية. الكل يدير ويدار في نفس الوقت. وينجم عن هذا غياب أي سلطة ثابتة ومستمرة أمام التبادل المستمر والمشترك والمؤقت والطوعي للسلطة والتبعية.
ولهذا السبب بالتحديد لا أعترف بأي سلطة كونية ثابتة ودائمة لأنه لا يوجد إنسان كامل قادر على استيعاب كل العلوم وجوانب الحياة الاجتماعية بكافة تفاصيلها الغنية. وإن وجد مثل هذا الكمال في إنسان واحد، وأراد هذا الانسان أن يفرض سلطته علينا، فمن الضروري عندئذ اقصاء هذا الإنسان بعيدًا عن المجتمع، لأن سلطته عندئذ ستؤدي إلى تحويل الآخرين إلى مجرد عبيد وحمقى. وأنا هنا لا أعني أن يسيء المجتمع معاملة رجال العلم كما حدث من قبل، ولا أعتقد بضرورة اطلاق العنان لهم واعطاءهم امتيازات أو حقوقًا حصرية وذلك لعدة أسباب. أولًا، سيقود هذا إلى عدم التمييز بين مدعي العلم ورجاله الحقيقين. ثانيًا، بوجود نظام الامتيازات سيتحول أيًا كان إلى مدعٍ حتى لو كان هذا الشخص رجل علم حقيقي، مما يعني فساد وانحلال هذا الرجل بالضرورة.
باختصار، نعترف بالسلطة المطلقة للعلم لأن الهدف الوحيد للعلم هو إعادة الإنتاج الفكري الجاد والمُنظَّم للقوانين الطبيعية المتأصلة في الحياة المادية والفكرية والأخلاقية لكلا العالمين: العالم المادي والعالم الاجتماعي. فهما في الحقيقة عالم واحد وعالم طبيعي واحد. وخارج هذه السلطة الشرعية الوحيدة، وهي شرعية لأنها عقلانية ومنسجمة مع الحرية البشرية، نعتبر باقي السلطات مزيفة واستبدادية وهدَّامة.
نعترف بالسلطة المطلقة للعلم، ولكن نرفض عصامية وكمال رجل العلم. في كنيستنا (نحن رجال العلم) هذا إن سمحت لنفسي باستخدام هذا التعبير الذي أبغضه - الكنيسة والدولة وجهان لعملة واحدة. في كنيستنا كما في الكنيسة البروتستانتية لدينا رئيس، مسيح متخفٍ. وكالبروتستانت، ربما بشكل أكثر منطقية، ليس لدينا بابا ولا مجمع كنسي ولا اجتماعات سرية لكرادلة عصاميين ولا أساقفة ولا حتى قساوسة. فمسيحنا يختلف عن المسيح البروتستانتي والمسيح الحقيقي. فالأخير كائن شخصي بينما مسيحنا كائن لا شخصي. المسيح الحقيقي، الذي أكمل ماضيه الأبدي، يقدِّم نفسه على أنه كائن كامل، بينما اكتمال وكمال مسيحنا/العلم يتحقق في المستقبل. إذًا وباعترافنا بالعلم المطلق كسلطة مطلقة لا نهدد حريتنا بأي شكل.
وما أعنيه "بالعلم المطلق" ذلك العلم الذي سيعيد إنتاج الكون ومنظومة القوانين الطبيعية الناجمة عن التطور المستمر للعالم مع مراعاة أدق التفاصيل. من الواضح بمكان أن هذا العلم، هذا الهدف السامي من وراء كل محاولات العقل البشري، لن يتحقق مطلقًا. إذًا، سيظل مسيحنًا إلى الأبد عملًا غير منتهٍ، وسيأخذ معه بالتالي خيلاء كل من يمثله بيننا. وفقط عبر ذلك الرب/الابن الذي باسمه يفرضون علينا سلطتهم الوقحة والحذقة يمكننا أن نناشد ذلك الله/الأب والممثل الحقيقي للعالم والحياة، والذي أمامه لا يعدو ذلك الابن سوى تعبير ناقص. بينما نحن، الكائنات الحقيقية والحيَّة والعاملة والمكافحة والمحبة والطموحة والمستمتعة والمتألمة مجرد ممثلين لهذا "التعبير الناقص".
وفي الوقت الذي نرفض فيه سلطة رجال العلم المطلقة والشمولية والعصامية ننحني أمام السلطة المحدودة والمبجلة لكن النسبية والعرضية لممثلي العلوم الاختصاصية. ونحن نطلب فقط استشارتهم ونشكرهم على المعلومات القيمة التي يمدونا بها، شرط أن يكونوا مستعدين للاستعانة بنا في أمور نحن على دراية بها أكثر منهم. عمومًا لا نطلب أكثر من وجود علماء متنورين وأصحاب خبرات وعقول وقلوب عظيمة، وأصحاب نفوذ طبيعي يمكننا تقبله بكل حرية، وليس نفوذًا مفروضًا باسم سلطة رسمية من أي نوع، دينية كانت أم دنيوية. نقبل بكل السلطات الطبيعية، ونقبل بنفوذها، ولكن لا نقبل بالحقوق لأن السلطة والنفوذ المترتب عنها سيتحول إلى نوع من القمع وهذا بدوره سيفرض علينا، كما وضحت سابقًا، العبودية والتفاهة.
باختصار، نرفض كل التشريعات والسلطات وأي نفوذ ذي امتياز قانوني ورسمي، حتى لو كان نتيجة اقتراع عام لأن هذا سيكون في صالح أقلية مسيطرة مكونة من المستغلين لمصالح الغالبية العظيمة التي تخضع لهم. وهذا هو المعنى الحقيقي لكوننا أناركيين.
يفهم المثاليون المعاصرون السلطة بطريقة مختلفة. وبالرغم من أنهم متحررون من الخرافات التقليدية الموجودة في كل الأديان الحالية لكنهم يمنحون السلطة معنى ألوهيًا مطلقًا. فمفهوم السلطة لديهم ليس نوعًا من الحقائق المتجلية بفعل المعجزات، ولا حقيقة مثبتة علميًا. السلطة لديهم، قائمة إلى حد ما، على الاستدلال شبه الفلسفي وعلى العاطفة الشعرية الخالصة بشكل مثالي. ودينهم كان وما زال محاولة تأليه كل ما يؤسس الإنسانية في البشر. هذه الفكرة هي نقيض ما نحاول أن نفعله الآن. ودفاعًا عن الحرية والكرامة والنماء الإنساني نؤمن بأنه من واجبنا استعادة كل ما هو في الجنة من أغراض مسلوبة وإعادتها إلى الأرض. فعلى العكس وبينما يحاولون القيام بسطو ديني بطولي أخير يرفعون إلى الجنة ذلك السارق الإلهي، ويعطونه أعلى وأرفع وأنبل المملكات الإنسانية. والآن يأتي دور المفكرين الأحرار بإخلاصهم الجريء ودراساتهم العلمية.
يؤمن هؤلاء المثاليون بأنه ولكي تملك الأفكار والأعمال الإنسانية سلطة أكبر على البشر لا بد أن تملك موافقة إلهية. ولا تتجلى هذه الموافقة بمعجزة كما هو الحال في الأديان ولكن تتجلى في عظمة ما تصادق عليه الأفكار والأعمال: فكل ما هو عظيم وجميل ونبيل وعادل يعتبر مقدسًا. ووفق هذا المعتقد الديني الجديد يستمد الإنسان إلهامه من هذه الأفكار وهذه الأعمال، ويصبح كاهنًا بتفويض من الله، لكن ماذا عن الأدلة؟ لا يحتاج المثالي إلى أدلة أبعد من الدلالة على عظمة الأفكار التي يعبر عنها والأعمال التي يقوم بها، وهي مقدسة جدًا وكأن الله بذاته ولوحده من أوحى بها.
هكذا وباختصار تصبح فلسفتهم الكاملة فلسفة عواطف لا أفكارًا حقيقية. إذًا، هي نوع من التقوى الميتافيزيقية. ربما يبدو هذا بريئًا ولكنه ليس كذلك أبدًا. فهذه العقيدة المحددة والضيقة والعقيمة المتخفية تحت ستار هذه الصيغ الشعرية الغامضة على نحو مبهم تؤدي إلى نفس النتائج الكارثية التي تقود إليها الأديان، وهي النفي التام للحرية والكرامة الإنسانية.
لو ادعينا أن كل ما هو عظيم وعادل ونبيل وجميل في الإنسانية مقدَّس سنكون بذلك قد قلنا بأن الإنسانية عاجزة عن إنتاج كل ذلك وأنها تخلت عن ذاتها وطبيعتها تعيسة وشريرة ووضيعة وبشعة. بهذا نكون قد عدنا إلى الأساس الذي تقوم عليه كل الأديان. بكلمات أخرى، سنكون قد عدنا إلى الحط من قدر الإنسانية لصالح مجد الألوهية الأعظم. في اللحظة التي يتم فيها التأكيد على الدونية الطبيعية للإنسان وعجزه عن النهوض بنفسه دون مساعدة الوحي الإلهي، يتحتم عندئذ التسليم بكل التبعات اللاهوتية والسياسية والاجتماعية التي أتت بها الأديان. وفي اللحظة التي يوضع فيها الله، الكائن الأمثل والأسمى، وجهًا لوجه مع الإنسانية سيظهر على الأرض الوسطاء الإلهيين، النخبة، الملهمون من الله لتنوير وتوجيه وإدارة الجنس البشري باسمه.
لو افترضنا بأن الله يلهم الجميع بالتساوي عندها لا يعود من داعٍ لوجود الوسطاء. لكن هذا الافتراض مستحيل لأنه يتناقض بشكل واضح مع الحقائق. عندئذٍ سنكون مجبرين على تحميل الوحي الإلهي كافة أنواع السخافات والعيوب التي ستظهر، وسنحمله مسؤولية كل الفظائع والحماقات والأفعال الدنيئة والجبانة التي ترتكب في العالم. لكن عندئذ قد يظهر بعض الرجال، رجال التاريخ العظام، الأذكياء الشرفاء، كما دعاهم المواطن والنبي الإيطالي المتنور جوزيبي مازيني. أولئك الرجال ممن يلهمهم الله فورًا ويحصلون على الموافقة العامة عبر الانتخابات الشعبية، مثل هؤلاء يجب أن يكون لقبهم حكومة المجتمعات البشرية[1].
لكننا سنقع مرة أخرى تحت نير ثنائية الكنيسة والدولة. ككل التنظيمات السياسية السابقة يعود فضل وجود هذا التنظيم الجديد، أي الدولة، إلى النعمة الإلهية ولكن هذه المرة بدعم شكلي منبثق عن إرادة الشعب وبما يتوافق مع روح العصر، تمامًا كما عبَّرت عنه مقدمة المرسوم الامبراطوري الذي أصدره نابليون الثالث. توجَّب على الكنيسة عندئذ ألا تعتبر نفسها كنيسة بل مدرسة. وعلى مقاعد هذه المدرسة لن يجلس الأطفال فقط بل سيكون هناك ذلك القاصر الأبدي، ذلك الطالب العاجز أبدًا عن النجاح في امتحاناته والتفوق على أساتذته والتخلي عن أساليبهم، ذلك القاصر الأبدي المتمثل في الشعب[2]. لن تدعو الدولة ذاتها بعد الآن بالدولة الملكية بل ستدعو نفسها آنذاك بالدولة الجمهورية ولكنها ستبقى بالرغم من هذا دولة. ستكون نوعًا من الوصاية الرسمية والدائمة أسستها أقلية مكونة من رجال أكفاء - رجال بذكاء أو نبوغ أخلاقي - ممن سيراقبون ويوجهون سلوك الشعب - ذلك الطفل الكبير والمريع والغير قابل للإصلاح. وسيدعو رؤساء هذه المدرسة وموظفو الدولة أنفسهم بالجمهوريين ولكن لن يكونوا أكثر من معلمين ورعاة وسيبقى الناس على الحال التي كانوا عليها دومًا، سيظلون قطيعًا. إذًا، فلتنتبهوا من الجزارين لأنه في أي قطيع لا بد أن يكون هناك رعاة يجزونه ويلتهمونه.
ترجمة: عزة حسون
*** *** ***

 
Description: horizontal rule
[1]  عندما كنت في لندن سمعت إم. لويس بلانك يُعبر عن ذات الفكرة. قال لي وقتها: "إن الشكل الأمثل للحكومة سيكون ما ندعوه بإدارة النابغة الأخيار للأمور".
[2]  في إحدى المرات سألت مازيني عن الاجراءات التي يمكن اتخاذها لتحقيق انعتاق الشعوب عندما ينجحون بتأسيس جمهوريتهم الموحدة. أجابني: "الإجراء الأول سيكون بناء المدارس". سألته: "وما ستُعلِّم الناس في هذه المدارس؟". أجاب: "واجبات الإنسان - التضحية والإخلاص". ولكن أين سنجد العدد الكافي من الأساتذة ممن سيعلمون هذه الأشياء التي لا يملك أحد الحق ولا السلطة بتعليمها ما لم يكن في موضع الوعظ؟ أليس عدد البشر ممن يستمتعون تمامًا بالتضحية والإخلاص محدود بشكل كبير؟ فهؤلاء الأشخاص الذين يضحون بأنفسهم لخدمة فكرة عظيمة يخضعون لشغف متعالٍ. ومن أجل تحقيق هذا الشغف الشخصي تنتفي أي قيمة للحياة بالنسبة لهم. هم يفكرون بشيء آخر مختلف عن التفكير ببناء أفكارهم وفق عقيدة ما. ومن يُعلِّمون العقيدة ينسون غالبًا ترجمة هذه العقيدة إلى أفعال. وذلك ببساطة لأن العقيدة تقتل الحياة والعفوية الحياتية لأي فعل. ورجال كمازيني ممن يعتقدون بوحدة العقيدة والفعل نادرين جدًا. ففي المسيحية كان هناك العديد من الرجال العظماء والمتدينين وممن فاضت قلوبهم بالمحبة وكرهوا كل المتع الأرضية، هؤلاء مارسوا وبدفع من شغفهم كل ما وعظوا به. ولكن غالبية رجال الدين الكاثوليك والبروتستانت ممن يعظون بالعفة والتقشف ونكران الذات يناقضون تعاليمهم. وهذا الأمر لا يخلو من بعض المنطق فعلى مر القرون تداول الناس في العديد من البلدان عبارات مثل "فاسق كرجل دين" و"نهم كرجل دين" و" طامح كرجل دين" و"طمَّاع وأناني وانتهازي كرجل دين". إذًا، لا يمكن الجدل بأن أساتذة الفضائل المسيحية، وممن رسمتهم الكنيسة كرجال دين غالبًا ما مارسوا نقيض عِظاتهم. وما نستنتجه من غالبية أو كل هذه الحالات أن العيب ليس في الأفراد بل في المكانة الاجتماعية، المستحيلة والمتناقضة بحد ذاتها، التي يشغلها هؤلاء الأفراد. فمكانة رجل الدين المسيحي تتضمن نوعًا من التناقض المزدوج. وهو في المرتبة الأولى تناقض بين عقيدة التقشف ونكران الذات وبين النزعات والحاجات الإيجابية التي تتطلبها الطبيعة البشرية. وهذه النزعات والحاجات، في بعض الحالات الفردية والنادرة منها، تُكبح وتُقمع بل وتُنفى تمامًا بفعل التأثير المستمر لشغف أخلاقي وفكري فعَّال. وقد تُنسى وتهمل هذه النزعات والحاجات في لحظات معينة من الانسجام الجمعي، ولكنها نزعات وحاجات متأصلة في طبيعتنا وعاجلًا أو أجلًا ستطالب بحقها في الظهور. ولذلك عندما لا تُلبى هذه النزعات والحاجات بشكل طبيعي يحل مكانها نوع من الاكتفاء الغير صحي. هذا قانون طبيعي ولذلك فهو قانون حتمي ولا يمكن مقاومته. وهنا الخطأ القاتل الذي يقع فيه رجال الدين المسيحيون ورجال الدين الكاثوليك على الأخص. لا يمكننا تطبيق هذا على الأساتذة، أي على أساتذة الكنيسة الحديثة، ما لم يكونوا مضطرين إلى الوعظ بالتقشف ونكران الذات.
ولكن هناك تناقض آخر شائع بين رجال الدين في كلا الكنسيتين. وينبع هذا التناقض من صلب لقب وموقع المُعلِّم. فالمُعلِّم الذي يأمر ويقمع ويستغل هو شخصية منطقية تمامًا وطبيعية جدًا. ولكن المُعلِّم الذي يضحي بنفسه من أجل من هم أدنى منه دينيًا أو دنيويًا كائن متناقض ومستحيل وجوده. هذا هو النفاق بحد ذاته والبابا أكثر الشخصيات تمثيلًا له. ففي الوقت الذي يدعو البابا نفسه بالخادم المتواضع لخادم الله ويقوم كل عام، محتذيًا مثال المسيح، بغسل أقدام اثنا عشر شحاذًا، يدَّعي بأنه ممثل الله والمُعلم العصامي والمطلق للعالم. وهل أحتاج هنا إلى ذكر حقيقة أن كل رجال الدين وبعيدًا عن التضحية بأنفسهم من أجل الناس الذين يطلبون رعايتهم، يضحون ويستغلون هؤلاء الناس ويحرصون على ابقاءهم في وضع القطيع؟ ويعود هذا جزئيًا لإرضاء شغفهم الذاتي ولرفد القوة العظيمة للكنيسة؟ فالأوضاع المتماثلة تخلق قضايا متماثلة وبالتالي لها تأثيرات متماثلة. وسأكون وقتها تمامًا كأساتذة المدرسة الحديثة الملهمون سماويًا والمرخص لهم أرضيًا. ومن كل بد سيصبحون، بعضهم سيجهل هذا، أشخاصًا آخرون وهم مدركون تمامًا ما حدث. سيتحولون إلى أساتذة في عقيدة التضحية الشعبية لصالح قوة الدولة وتحقيقًا لمصالح الطبقات الموسرة.
إذًا، هل علينا إلغاء كافة أنواع التعليم وإلغاء المدارس في المجتمع؟ أبدًا، بل علينا نشر العلم بين الجماهير بلا حدود، والعمل على تحويل كل الكنائس التي كرَّست نفسها لتمجيد الرب وعبودية الإنسان إلى مدارس لانعتاق البشر. ولكن أولًا دعونا نفهم بعضنا البعض. تتأسس المدارس، كمُلكية، في أي مجتمع طبيعي على فكرة المساواة وبما يتوافق مع التحرر البشري، وستكون موجهة للأطفال وليس للبالغين. لكي تصبح هذه المدارس موجهة لغرض الانعتاق البشري عليها بالضرورة اقصاء هذا الجانب المتعلق بالله، هذا الحاكم المطلق والأبدي. ويجب أن يُبنى تعليم الأطفال وتوجهيهم على أسس التطور العلمي للمنطق وليس الإيمان، وعلى تطور الكرامة والاستقلالية الفردية وليس على الشفقة والخضوع، وعلى عبادة الحقيقة والعدالة مهما كانت التكلفة، وفوق كل هذا على ما يتوافق مع الإنسانية. ومفهوم السلطة في تعليم الأطفال يؤسس نقطة الانطلاق الطبيعية: فهي شرعية وضرورية عندما يخضع لها الصغار في أعمار غضة وممن لم يتفتح ذكائهم بعد. وما يحدث في أي سيرورة تطور، والتعليم ليس استثناء، هو نفي تام لنقطة البداية وبالتالي فهذا المفهوم (أي مفهوم السلطة) سيتراجع بالتزامن مع تطور التعليم والتوجيه وهذا ما سيتيح تحررًا أكبر. وأي تعليم عقلاني في صلبه سيرورة نفي تام للسلطة. وبالضرورة يغدو الهدف الأخير للتعليم بناء رجال أحرار يملئهم الاحترام والمحبة لحرية الآخرين. وسيكون اليوم الأول في حياة الطلاب، إن استطاعت هذه المدارس أن تستوعب طلابًا صغارًا بالكاد ينطقون ببضع كلمات، عن السلطة العظيمة والغياب التام لأي حرية. واليوم الاخير في هذه المدرسة سيكون عن الحرية العظيمة والنفي المطلق لأي شكل من أشكال السلطة الدينية أو الدنيوية.
ويصبح مفهوم السلطة، بالنسبة للرجال البالغين، شناعة ونكران فظيع للإنسانية وأساس العبودية والانحلال الفكري والأخلاقي. ولسوء الحظ تركت الحكومات الأبوية الجموع تتخبط في جهلها العظيم، حتى يغدو من الضروري انشاء المدارس للصغار والبالغين على حد سواء. وسيُقصى أصغر شكل أو تمثيل لمفهوم لسلطة من هذه المدارس. ولن تعود هذه المدارس مدارسًا بل ستتحول إلى مدارس شعبية بدون أن نعلم فيها من الطالب ومن المُدرِّس، وسيأتي الناس للحصول على التعليم المجاني والذين بتجربتهم الغنية سيُعلِّمون بدورهم الأساتذة. وهذا سيكون تعليمًا مشتركًا وقتذاك وعملًا يعكس الأخوة الفكرية بين الشباب المتعلم والناس.
وليس هناك من مدرسة حقيقة لكل الناس والرجال البالغين سوى مدرسة الحياة. أما السلطة العظيمة والقوية والطبيعية والعقلانية التي علينا جميعًا احترامها ستكون سلطة الروح الجمعية والعامة الموجودة في أي مجتمع تأسس على المساواة والتعاضد والاحترام البشري المتبادل بين جميع الأفراد. أجل، فهذه سلطة ليست بالإلهية تمامًا بل هي إنسانية بالمطلق، وأمامها سننحني طواعية متيقنين أنها أبعد عن استعباد البشر وأقرب إلى انعتاقهم. لتكونوا على ثقة بأنها ستكون سلطةً أقوى بآلاف المرات من كل السلطات الإلهية واللاهوتية والماورائية والسياسية والقضائية التي تكرسها الكنيسة والدولة. ستكون سلطة أكثر قوة من سلطة قوانينكم الجزائية ومن سجانيكم وجلاديكم.
حاليًا أصبحت سلطة الشعور الجمعي والروج الجماعية قضية أكثر جدية. والرجال ممن على استعداد لارتكاب الجرائم بالكاد سيتحدونها فما بالك بمواجهتها. سيسعون إلى خداعها ولكن سيكونون حذرين ما لم تدعمهم في مساعيهم أقلية كبيرة كانت أم صغيرة. ولن يملك أي إنسان، مهما كانت القوة التي يعتقد أنه يمتلكها، القوة على حمل حقدٍ كبير للمجتمع. ولا يستطيع أحد العيش بدون الشعور بموافقة وتقدير جزء ما من مجتمعه. ويجب أن يملك أي إنسان رغبةً وقناعةً كبيرة وراسخة حتى يتجرأ على التحدث والوقوف في وجه أراء الجميع. ولن يملك الرجال الأنانيون والفاسدون والجبناء الشجاعة للقيام بهذا.
وما من حقيقة غير هذه تثبت التكاتف الطبيعي والحتمي الذي يجمع كل البشر، والذي يرسخه التأكيد اليومي لكل واحد منا على وجوده سواء في نفسه أو بين من يعرفهم. ولكن إن وجدت مثل هذه القوة الاجتماعية، فلما هي غير كافية لترسيخ أخلاقية وإنسانية البشر؟ الجواب بسيط. فهذه القوة لم تترسخ إنسانيًا بعد، ولأن الحياة الاجتماعية كما نعرفها الآن تقوم على فكرة عبادة الله وليس على احترام الإنسان، على فكرة السلطة وليس على فكرة التحرر، على الامتيازات وليس على المساواة، على الاستغلال وليس على أخوة البشر، على الظلم والنفاق وليس على العدالة والحقيقة. بالتالي مارست هذه الحياة (أي الحياة الاجتماعية بشكلها الحالي) عملها الحقيقي والمتنافر تمامًا مع النظريات الإنسانية، وحققت تأثيرًا كارثيًا وسلبيًا. ولم تقمع الرذائل والجرائم بل صنعتهم. وسلطتها بالتالي سلطة ألوهية معادية للإنسان، وتأثيرها مؤذٍ وضار. هل تريدون أن تتخلوا عن سلطتها وتؤثروا على البشر؟ حققوا الثورة الاجتماعية. وحدوا كل الحاجات واجعلوا كل المصالح المادية والاجتماعية متماثلة مع الواجبات الانسانية لكل واحد منا. ومن أجل تحقيق هذا الهدف هناك وسيلة واحدة وهي تدمير كل المؤسسات القائمة على اللامساواة وتحقيق العدالة الاقتصادية والاجتماعية. وانطلاقًا من هذا الأساس سيقوم تحرر وخير وحدة البشرية جمعاء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق