إن أول ما قام به الكومونة، هو ختم الحقبة التاريخية التي لم
تعبر عن حياة تعاونية إلا في يوتوبيا فورييه الفرنسي وأوين الإنجليزي، ونعني به
الاتحادات الواسعة للإنتاج والاستهلاك معروفة بفلانستير، يعيش فيها حسب نظام
فورييه التعاوني شغيلة المجتمع، في صورة جماعية، أو المستعمرات التعاونية التي
أسسها أوين فعليًا في عام 1825 في ولاية إنديانا الامريكية تحت عنوان نيو هارموني.
ولكن قبل أن يلبس التعاونيات هذه لباسًا اشتراكيًا، أصبحت من جديد جزءًا من عملية
الإنتاج الرأسمالي.
أما أوين هذا الرجل النموذجي الذي يستحق كل الاحترام وبوصفه أبا للتعاونيات، كان أكثر إدراكًا بشروط الاقتصادية لإقامة حياة تعاونية بالمقارنة مع التيار الأناركي الذي يعيد نفس تخيلات فلانستيرية بعد أكثر من قرنين من تطور الرأسمالية على الكرة الأرضية، فأوين كان يدرك أن "الربح" هو أساس البلاء في النظام الرأسمالي القائم، ومسؤول عن نشوء الأزمات الاقتصادية التي يزيد فيها الإنتاج على الاستهلاك، والربح والمنافسة وجهان لأمر واحد، والمشكلة تكمن في استخدام المال. والتعاونيات بحاجة إلى بيئة اجتماعية مناسبة.
أما البيئة التاريخية فليست لها أية قيمة واقعية لأصحاب فكرة التعاونيات الأناركية الحرة، فهم يبدؤون من نزعتهم الفردية، فمجموعات صغيرة من الأفراد تتجمع في هذه التعاونيات المتخيلة بصورة اختيارية حرة، تكفي لإقامة مجتمع اشتراكي داخل المجتمع الرأسمالي.
وهكذا، فشروط إقامة هذه الجزيرة الاشتراكية الخيالية، هي بدء الفرد من ذاته: فلنغير أنفسنا لكي نغير المجتمع!
ولكن قانون التغيير هو في الواقع قانون تغيير البيئة الاجتماعية المحيطة؛ فتغيير الفرد يبدأ من تغيير البيئة الاقتصادية والاجتماعية. لذلك فعكس هذا التيار الأناركي إن نقطة الانطلاق هي تغيير المجتمع وأسلوبه في الإنتاج والتوزيع فشكل الملكية لا الفرد هو الذي يجب أن يتغير. وهذا ما انطلقت منه ثورة الكومونة، فهي لم تبدأ بتجربة النظريات على الواقع، بل بتغيير الواقع، أي الحياة الاقتصادية للمجتمع. وضوابط العلاقات التعاونيات الشيوعية كانت العلاقات الناتجة من إعادة الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، لا الضوابط الأخلاقية.
وهكذا، فإذا أردنا فحص هذه الفكرة الأناركية من قريب -وهي ليست لها العلاقة ببلانكي أو بباكونين- نرى أن ميدان البحث عن هذه الاشتراكية هي "الأوحد وخاصته" للفيلسوف الألماني ماكس شترنر: "أنا خالق نفسي"، "إني أنسب كل شيء إلى ذاتي"، أو "النفس البشرية" لكارل بوبر، أو "الأنا العليا" لفرويد. وتتلخص كل هذه الأفكار المزيفة، في "محاكمة الذات الأخلاقية الداخلية "، تعود جذورها التاريخية إلى صراع المعرفة والجهل، الخير والشر، مثلما يعود فلانستير إلى المدينة الفاضلة لأفلاطون.
وهكذا، فبدل صرف أي جهد لفهم الواقع القائم، سنجد أنفسنا مضطرين للبحث عن مشاكل العالم وحله في "نفسي"، في "الأنا"، "الأنا" المستقل عن الشروط المادية لوجودي. وسنبدأ من جديد بصنع التاريخ من مخيلتنا وتأملاتنا عن المستقبل. هذه هي أساس التعاونيات الأناركية الحرة، تسمى "الشيوعية التحررية"، فحسب صديقنا سامح عبود مثلا: "فكرة التعاونيات الثورية التحررية من باطن وهامش المجتمع الحالى، هى فكرة صراعية بين نمطين للإنتاج أحدهما سائد والآخر هامشي، والصراع يحتمل النصر أو الهزيمة .. " (انظر فيس بوك سامح عبود).
وما خلفية هذا التفكير اليائس؟
يواصل سامح ويقول: "طالما الثورة العالمية والضربة القاضية الفنية غير ممكنة فما علينا إلا أن نكسب بالنقاط وأنا لست ضد الثورة والضربة القاضية الفنية بس تيجى.
التعاونيات حل عملي وليس مجرد الانتظار، ممكن نجاحه واستمراره مع قدر من المقاومة للراغبين والمصرين على التحرر الذاتى الآن وليس غدا، حتى لو كان التحرر والاستقلال نسبيين أو محدودين، على أساس أن التحرر والاستقلال خيار شخصى ومسئولية شخصية، وتحمل للمسئولية الفردية فى إطار حياة الناس القصيرة، أما أن نتحمل كل آلام البشر العبيد غير الراغبين فى الحرية والاستقلال بل المدافعين عن العبودية أحيانا فتلك مثالية مدعاة، وعلى البشر فى النهاية تحمل مسؤولية أنفسهم وأن لا نفرض عليهم التحرر يمكننا فقط إرشادهم لو رغبوا" (نفس المرجع).
وكأن التاريخ مسير بـ "إرشاد الناس لو رغبوا"، وحسب خطة مقررة من قبل مجموعات صغيرة من الأفراد. وهكذا، فالرغبة للخروج من النظام الرأسمالي للعمل، تحل محل الوقائع المادية، فالنوايا الحسنة، أو إرادة الأفراد، أو التخلي عن أنانيتهم، كما يقول شترنر، أو الرغبة، تكفي للوصول إلى التعاونيات الشيوعية، فالمسألة تنحصر في إيجاد مبادئ صالحة تطابق رغبات مجموعات من الناس، لا الإمكانية التاريخية للخروج من عالم الملكية الخاصة.
إن سيادة الرأسمالية ووجود دولتها، مشروطة بسيادة علاقاتها الإنتاجية، يعني بالسيطرة الفعلية للإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك الرأسمالي. والفرد لاصق بهذه العلاقات الإنتاجية قدر التصاق الحياة بالشمس. وكيف إنه من المستحيل إيجاد الحياة على القمر بمجرد إدراك البشر لعوامل الفيزيائية والكيميائية لوجود الكائنات البشرية، فإنه من المستحيل أيضًا، إقامة مجتمع اشتراكي، بإدراكه من قبل الناس، فالقوانين المادية هي التي تحكم علاقات الأجسام السماوية، مثلما تحكم القوانين الاقتصادية، علاقات البشر المادية. والفرد لا يمكنه الخروج من دائرة العلاقات التاريخية التي تقرر حياتها ووعيها، إلا بفعل التغيير في القوانين الاقتصادية العمومية. فالمسألة لا تتعلق بصراع الأفكار، بل بشكل الملكية.
إن نمطًا محددًا من الصناعة والزراعة والتجارة والتبادل، ترتبط بالضرورة، بشكل معين من الملكية والعلاقات الانتاجية والدولة. والفرد هو نتاج هذه العلاقات. إذًا فالقوة التاريخية للتغيير، توجد في الواقع لا في تفكيرنا. وإذا قلنا إن صانع شكل جديد للملكية هو النقد، فلم نقل إطلاقًا شيئًا واقعيًا عن التاريخ. فلكي نأخذ مسلكًا نقديًا للواقع القائم، وكما هو موجود فعليًا، علينا إلقاء نظرة على الشروط القائمة للإنتاج المادي وامكانية تحولها إلى شكل جديد.
إن وجود الملكية الخاصة والملكية الجماعية، مستقل كل الاستقلال عن الأفراد، أو عن الإرادة الخاصة لهذه المجموعة من الناس أو تلك، لذلك فالعلاقات فيما بين الناس لا يمكن ايجادها من خلال "عقد" يلتزم به الأفراد على هواهم، فالعلاقات لا ترتكز إطلاقًا على وحدة حرة لمجموعة من الناس وإرادة المتعاقدين الفردية، فكل شكل للوحدة، خاضع لنمط محدد من الملكية. وإن الشكل السائد للملكية هو الذي يسيطر في كل مكان. لذلك فلا يمكن لما تسمى بالتعاونيات الحرة إيجاد حاجز بينها وبين العالم الرأسمالي الموجود. وهذا ما يجبر هذه التعاونيات -مثلما أجبرت تعاونيات أوين- على التكيف مع قوانين سوق البضائع والتبادل الرأسمالي. وهذا ما يحول قياس العمل لهذه التعاونيات إلى نفس مقاييس الرأسمالية، إلى مقياس قانون القيمة. فخروجنا من عالم سيادة البشر على البشر من خلال تخيل جزر خيالية مستقلة عن العالم الموجود لا يعبر إلا عن عجز قراءة الحياة الاقتصادية للمجتمع كما هو موجود في الواقع. فلا يُتغلب على التنافس والمصالح المتباينة بين الأفراد باتفاق مجموعة من الناس على إنشاء نوع محدد من العلاقات، أو ما تسمى مثلا التعاونيات الحرة، أي "الشيوعية التحررية"، لأن الفرد والمجموعات مثل الشركات والمؤسسات، يفقد كل فعالية شخصية ضمن حركة عمومية. والحركة هذه لا يمكن إخضاعها للأفراد إلا في حال خضوعها لإشراف الجميع، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا باتحاد تفرضه شروط مادية لحركة عملية تمنح مصالح المجتمع المشتركة شكلا عموميا، وهذه الحركة هي الثورة في أسلوب الإنتاج والتوزيع.
إن التغيير الاجتماعي فعل تاريخي لا يمكن تحقيقه دون القضاء النهائي على علاقات الملكية السائدة. وسيبقى كل تغيير ضربا من الخيال ما لم تتكامل الشروط المادية لاتمامه تاريخيًا، فإن شروط وجود الأفراد المادية، مقررة سلفًا. وتلك هي ظاهرة خضوع الأفراد المنعزلين للشروط المادية التاريخية. ولا يمكن الخلاص من هذه الشروط بمجرد إدراكها. فالمسألة تتعلق بإلغاء الملكية الخاصة. وإن هذه المهمة لا يمكن تحقيقها بمجرد إدراكها ومنازعتها من قبل مجموعات من الأفراد. فالأفراد لا يشكلون طبقة موحدة إلا بقدر ما يتوجب عليهم مجابهة عدوهم في معركة طبقية مشتركة وللدفاع عن مصلحة موحدة مشتركة. وخارج هذه المعركة، فستبقى الشغيلة أفرادًا لا يجمع بينهما سوى تقسيم العمل والمزاحمة.
إذًا علينا البحث عن إمكانية الشروط المادية للخروج من دائرة النظام الرأسمالي للإنتاج والتوزيع في التاريخ لا في رأسنا. وإن هذه الشروط هي بكل تأكيد:
1) تأزم المجتمع الرأسمالي اقتصاديًّا وسياسيًّا.
2) انتقال الأفراد من المزاحمين إلى أعضاء طبقة موحدة بفعل هذا التأزم بالذات.
وعدا ذلك فلا يغير المجتمع سوى سلطة بسلطة: صدام بالطالباني، ومبارك بمرسي. ولمجرد كونها طبقة اجتماعية، على الشغيلة تشكيل ذاتها على الصعيد الوطني ثم الأممي. فلا يمكن القضاء على نظام سيادة البشر على البشر، دون كسر مسبق لهذا الطوق الاجتماعي الذي تسمى الدولة والاستعاضة عنها بالكومونات -التعاونيات الشيوعية. فالثورة في العلاقات الإنتاجية لا النقد، هي التي ستضع حدًّا نهائيًّا بين عالم سيادة الإنسان على الإنسان وعالم التعاونيات الشيوعية التي ستضع حدًّا لفوضى الإنتاج الرأسمالي ومن ثم للنوبات الدورية التي لا تعد سوى مرض محتوم للرأسمالية. كما لا يمكن أن يصبح هذا الحد حقيقة من حقائق التاريخ، عبر اتحاد فيدرالي للدول الصغيرة المطابق لأوهام الحزب البرجوازي الصناعي الكبير -شكل أيام ثورة 1789 البرجوازية الفرنسية وأخذ اسم الجيرونديون نسبة إلى مقاطعة الجيروند- في عصر تمثله أكبر الفيدراليات في العالم مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي.
وهكذا، فمدرستنا ليست هي هذه النظرية أو تلك، الماركسية أو الأناركية، هذا الاقتراح أو ذاك لإقامة مجتمع اشتراكي، بل هي التاريخ، والتاريخ يخلف لنا الدروس والتجارب من الحركة الفعلية لا من أوهام الأفراد. وهذه الدروس هي دروس ثورة كومونية. ومهمة الاشتراكيين هي نشر هذه التقاليد الثورية ونقد أخطائها، فبفعل ثورة كومونية في نظام العمل، يتغير نظام التوزيع والاستهلاك، تظهر بموجبها التعاونيات الشيوعية. والشيوعية التحررية ليست سوى تكرار لأوهام ولى زمنها.
أما أوين هذا الرجل النموذجي الذي يستحق كل الاحترام وبوصفه أبا للتعاونيات، كان أكثر إدراكًا بشروط الاقتصادية لإقامة حياة تعاونية بالمقارنة مع التيار الأناركي الذي يعيد نفس تخيلات فلانستيرية بعد أكثر من قرنين من تطور الرأسمالية على الكرة الأرضية، فأوين كان يدرك أن "الربح" هو أساس البلاء في النظام الرأسمالي القائم، ومسؤول عن نشوء الأزمات الاقتصادية التي يزيد فيها الإنتاج على الاستهلاك، والربح والمنافسة وجهان لأمر واحد، والمشكلة تكمن في استخدام المال. والتعاونيات بحاجة إلى بيئة اجتماعية مناسبة.
أما البيئة التاريخية فليست لها أية قيمة واقعية لأصحاب فكرة التعاونيات الأناركية الحرة، فهم يبدؤون من نزعتهم الفردية، فمجموعات صغيرة من الأفراد تتجمع في هذه التعاونيات المتخيلة بصورة اختيارية حرة، تكفي لإقامة مجتمع اشتراكي داخل المجتمع الرأسمالي.
وهكذا، فشروط إقامة هذه الجزيرة الاشتراكية الخيالية، هي بدء الفرد من ذاته: فلنغير أنفسنا لكي نغير المجتمع!
ولكن قانون التغيير هو في الواقع قانون تغيير البيئة الاجتماعية المحيطة؛ فتغيير الفرد يبدأ من تغيير البيئة الاقتصادية والاجتماعية. لذلك فعكس هذا التيار الأناركي إن نقطة الانطلاق هي تغيير المجتمع وأسلوبه في الإنتاج والتوزيع فشكل الملكية لا الفرد هو الذي يجب أن يتغير. وهذا ما انطلقت منه ثورة الكومونة، فهي لم تبدأ بتجربة النظريات على الواقع، بل بتغيير الواقع، أي الحياة الاقتصادية للمجتمع. وضوابط العلاقات التعاونيات الشيوعية كانت العلاقات الناتجة من إعادة الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، لا الضوابط الأخلاقية.
وهكذا، فإذا أردنا فحص هذه الفكرة الأناركية من قريب -وهي ليست لها العلاقة ببلانكي أو بباكونين- نرى أن ميدان البحث عن هذه الاشتراكية هي "الأوحد وخاصته" للفيلسوف الألماني ماكس شترنر: "أنا خالق نفسي"، "إني أنسب كل شيء إلى ذاتي"، أو "النفس البشرية" لكارل بوبر، أو "الأنا العليا" لفرويد. وتتلخص كل هذه الأفكار المزيفة، في "محاكمة الذات الأخلاقية الداخلية "، تعود جذورها التاريخية إلى صراع المعرفة والجهل، الخير والشر، مثلما يعود فلانستير إلى المدينة الفاضلة لأفلاطون.
وهكذا، فبدل صرف أي جهد لفهم الواقع القائم، سنجد أنفسنا مضطرين للبحث عن مشاكل العالم وحله في "نفسي"، في "الأنا"، "الأنا" المستقل عن الشروط المادية لوجودي. وسنبدأ من جديد بصنع التاريخ من مخيلتنا وتأملاتنا عن المستقبل. هذه هي أساس التعاونيات الأناركية الحرة، تسمى "الشيوعية التحررية"، فحسب صديقنا سامح عبود مثلا: "فكرة التعاونيات الثورية التحررية من باطن وهامش المجتمع الحالى، هى فكرة صراعية بين نمطين للإنتاج أحدهما سائد والآخر هامشي، والصراع يحتمل النصر أو الهزيمة .. " (انظر فيس بوك سامح عبود).
وما خلفية هذا التفكير اليائس؟
يواصل سامح ويقول: "طالما الثورة العالمية والضربة القاضية الفنية غير ممكنة فما علينا إلا أن نكسب بالنقاط وأنا لست ضد الثورة والضربة القاضية الفنية بس تيجى.
التعاونيات حل عملي وليس مجرد الانتظار، ممكن نجاحه واستمراره مع قدر من المقاومة للراغبين والمصرين على التحرر الذاتى الآن وليس غدا، حتى لو كان التحرر والاستقلال نسبيين أو محدودين، على أساس أن التحرر والاستقلال خيار شخصى ومسئولية شخصية، وتحمل للمسئولية الفردية فى إطار حياة الناس القصيرة، أما أن نتحمل كل آلام البشر العبيد غير الراغبين فى الحرية والاستقلال بل المدافعين عن العبودية أحيانا فتلك مثالية مدعاة، وعلى البشر فى النهاية تحمل مسؤولية أنفسهم وأن لا نفرض عليهم التحرر يمكننا فقط إرشادهم لو رغبوا" (نفس المرجع).
وكأن التاريخ مسير بـ "إرشاد الناس لو رغبوا"، وحسب خطة مقررة من قبل مجموعات صغيرة من الأفراد. وهكذا، فالرغبة للخروج من النظام الرأسمالي للعمل، تحل محل الوقائع المادية، فالنوايا الحسنة، أو إرادة الأفراد، أو التخلي عن أنانيتهم، كما يقول شترنر، أو الرغبة، تكفي للوصول إلى التعاونيات الشيوعية، فالمسألة تنحصر في إيجاد مبادئ صالحة تطابق رغبات مجموعات من الناس، لا الإمكانية التاريخية للخروج من عالم الملكية الخاصة.
إن سيادة الرأسمالية ووجود دولتها، مشروطة بسيادة علاقاتها الإنتاجية، يعني بالسيطرة الفعلية للإنتاج والتوزيع والتبادل والاستهلاك الرأسمالي. والفرد لاصق بهذه العلاقات الإنتاجية قدر التصاق الحياة بالشمس. وكيف إنه من المستحيل إيجاد الحياة على القمر بمجرد إدراك البشر لعوامل الفيزيائية والكيميائية لوجود الكائنات البشرية، فإنه من المستحيل أيضًا، إقامة مجتمع اشتراكي، بإدراكه من قبل الناس، فالقوانين المادية هي التي تحكم علاقات الأجسام السماوية، مثلما تحكم القوانين الاقتصادية، علاقات البشر المادية. والفرد لا يمكنه الخروج من دائرة العلاقات التاريخية التي تقرر حياتها ووعيها، إلا بفعل التغيير في القوانين الاقتصادية العمومية. فالمسألة لا تتعلق بصراع الأفكار، بل بشكل الملكية.
إن نمطًا محددًا من الصناعة والزراعة والتجارة والتبادل، ترتبط بالضرورة، بشكل معين من الملكية والعلاقات الانتاجية والدولة. والفرد هو نتاج هذه العلاقات. إذًا فالقوة التاريخية للتغيير، توجد في الواقع لا في تفكيرنا. وإذا قلنا إن صانع شكل جديد للملكية هو النقد، فلم نقل إطلاقًا شيئًا واقعيًا عن التاريخ. فلكي نأخذ مسلكًا نقديًا للواقع القائم، وكما هو موجود فعليًا، علينا إلقاء نظرة على الشروط القائمة للإنتاج المادي وامكانية تحولها إلى شكل جديد.
إن وجود الملكية الخاصة والملكية الجماعية، مستقل كل الاستقلال عن الأفراد، أو عن الإرادة الخاصة لهذه المجموعة من الناس أو تلك، لذلك فالعلاقات فيما بين الناس لا يمكن ايجادها من خلال "عقد" يلتزم به الأفراد على هواهم، فالعلاقات لا ترتكز إطلاقًا على وحدة حرة لمجموعة من الناس وإرادة المتعاقدين الفردية، فكل شكل للوحدة، خاضع لنمط محدد من الملكية. وإن الشكل السائد للملكية هو الذي يسيطر في كل مكان. لذلك فلا يمكن لما تسمى بالتعاونيات الحرة إيجاد حاجز بينها وبين العالم الرأسمالي الموجود. وهذا ما يجبر هذه التعاونيات -مثلما أجبرت تعاونيات أوين- على التكيف مع قوانين سوق البضائع والتبادل الرأسمالي. وهذا ما يحول قياس العمل لهذه التعاونيات إلى نفس مقاييس الرأسمالية، إلى مقياس قانون القيمة. فخروجنا من عالم سيادة البشر على البشر من خلال تخيل جزر خيالية مستقلة عن العالم الموجود لا يعبر إلا عن عجز قراءة الحياة الاقتصادية للمجتمع كما هو موجود في الواقع. فلا يُتغلب على التنافس والمصالح المتباينة بين الأفراد باتفاق مجموعة من الناس على إنشاء نوع محدد من العلاقات، أو ما تسمى مثلا التعاونيات الحرة، أي "الشيوعية التحررية"، لأن الفرد والمجموعات مثل الشركات والمؤسسات، يفقد كل فعالية شخصية ضمن حركة عمومية. والحركة هذه لا يمكن إخضاعها للأفراد إلا في حال خضوعها لإشراف الجميع، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا باتحاد تفرضه شروط مادية لحركة عملية تمنح مصالح المجتمع المشتركة شكلا عموميا، وهذه الحركة هي الثورة في أسلوب الإنتاج والتوزيع.
إن التغيير الاجتماعي فعل تاريخي لا يمكن تحقيقه دون القضاء النهائي على علاقات الملكية السائدة. وسيبقى كل تغيير ضربا من الخيال ما لم تتكامل الشروط المادية لاتمامه تاريخيًا، فإن شروط وجود الأفراد المادية، مقررة سلفًا. وتلك هي ظاهرة خضوع الأفراد المنعزلين للشروط المادية التاريخية. ولا يمكن الخلاص من هذه الشروط بمجرد إدراكها. فالمسألة تتعلق بإلغاء الملكية الخاصة. وإن هذه المهمة لا يمكن تحقيقها بمجرد إدراكها ومنازعتها من قبل مجموعات من الأفراد. فالأفراد لا يشكلون طبقة موحدة إلا بقدر ما يتوجب عليهم مجابهة عدوهم في معركة طبقية مشتركة وللدفاع عن مصلحة موحدة مشتركة. وخارج هذه المعركة، فستبقى الشغيلة أفرادًا لا يجمع بينهما سوى تقسيم العمل والمزاحمة.
إذًا علينا البحث عن إمكانية الشروط المادية للخروج من دائرة النظام الرأسمالي للإنتاج والتوزيع في التاريخ لا في رأسنا. وإن هذه الشروط هي بكل تأكيد:
1) تأزم المجتمع الرأسمالي اقتصاديًّا وسياسيًّا.
2) انتقال الأفراد من المزاحمين إلى أعضاء طبقة موحدة بفعل هذا التأزم بالذات.
وعدا ذلك فلا يغير المجتمع سوى سلطة بسلطة: صدام بالطالباني، ومبارك بمرسي. ولمجرد كونها طبقة اجتماعية، على الشغيلة تشكيل ذاتها على الصعيد الوطني ثم الأممي. فلا يمكن القضاء على نظام سيادة البشر على البشر، دون كسر مسبق لهذا الطوق الاجتماعي الذي تسمى الدولة والاستعاضة عنها بالكومونات -التعاونيات الشيوعية. فالثورة في العلاقات الإنتاجية لا النقد، هي التي ستضع حدًّا نهائيًّا بين عالم سيادة الإنسان على الإنسان وعالم التعاونيات الشيوعية التي ستضع حدًّا لفوضى الإنتاج الرأسمالي ومن ثم للنوبات الدورية التي لا تعد سوى مرض محتوم للرأسمالية. كما لا يمكن أن يصبح هذا الحد حقيقة من حقائق التاريخ، عبر اتحاد فيدرالي للدول الصغيرة المطابق لأوهام الحزب البرجوازي الصناعي الكبير -شكل أيام ثورة 1789 البرجوازية الفرنسية وأخذ اسم الجيرونديون نسبة إلى مقاطعة الجيروند- في عصر تمثله أكبر الفيدراليات في العالم مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي.
وهكذا، فمدرستنا ليست هي هذه النظرية أو تلك، الماركسية أو الأناركية، هذا الاقتراح أو ذاك لإقامة مجتمع اشتراكي، بل هي التاريخ، والتاريخ يخلف لنا الدروس والتجارب من الحركة الفعلية لا من أوهام الأفراد. وهذه الدروس هي دروس ثورة كومونية. ومهمة الاشتراكيين هي نشر هذه التقاليد الثورية ونقد أخطائها، فبفعل ثورة كومونية في نظام العمل، يتغير نظام التوزيع والاستهلاك، تظهر بموجبها التعاونيات الشيوعية. والشيوعية التحررية ليست سوى تكرار لأوهام ولى زمنها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق