محمد المثلوثي
الحوار المتمدن - العدد: 3276 - 2011 / 2 / 13
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية
راسلوا الكاتب-ة مباشرة حول الموضوع
لا أحد يستطيع أن يعترض على أن الثورة في تونس عند انطلاقتها وفي أوج تصادمها مع الدولة وأجهزتها الديكتاتورية كانت تطرح مطالب وأسئلة حول وضع الجماهير الكادحة والمفقرة من بطالين وعمال وعموم الأجراء والطلبة والتلاميذ وعديد الشرائح الاجتماعية المهمشة. فالثورة انطلقت أساسا ضد البطالة وارتفاع الأسعار والفساد المالي والإداري وتسلط أجهزة الدولة البيروقراطية على الناس وحرمانهم من أبسط مقومات العيش. وهذا لا يعني سوى أن ميدان الثورة الفعلي، والذي نهضت الجماهير ضمنه وطوّرت احتجاجاتها من خلالها، هو الميدان الاجتماعي. لكن البطالة والفقر والتهميش الاجتماعي واختلال التوازن بين المقدرة الشرائية لعموم الأجراء وبين لهيب الأسعار إنما هي في الواقع تعبيرة من تعبيرات النظام الاقتصادي والاجتماعي القائم. أي أن الموضوع لا يتعلق بشكل الحكومة وبشكل الدستور ولا بأي حزب من الأحزاب هو على رأس الدولة بقدر ما هو متعلق بالأسلوب السائد في إنتاج الثروة الاجتماعية وأسلوب توزيعها. هذا الأسلوب الاقتصادي يقود من جهة إلى مراكمة الثروة لفئة اجتماعية صغيرة ليقود من جهة أخرى إلى بؤس وفقر وبطالة أغلبية المجتمع، وما الدولة وأجهزتها إلا أداة لإدارة هذا الأسلوب الاقتصادي بالذات. فالدولة لا تقوم سوى بتسيير شؤون الأغنياء وضمان خضوع بقية المجتمع، أي أنها لا تمثل سوى الشكل السياسي الذي تدير به الفئة المستفيدة من هذا النظام الاقتصادي سيادتها على المجتمع وللحفاظ على مصلحتها العامة والمشتركة. وهكذا فالثورة إذ قامت بالتصادم مع الدولة فليس إلا بوصفها ممثلة للنظام الاقتصادي وأداة لإدارته. وهذا ما يقود إلى كون الثورة في الواقع إنما قامت ليس لوضع هذا السياسي مكان ذاك على رأس الدولة ولا هي قامت من أجل تغيير الحكومة وأعضاء البرلمان..الخ، أي مجرد ترميم جهاز الدولة، بل قامت ضد نظام اقتصادي يستغل الشغيلة وعموم الفقراء ويضعهم في موضع العبودية السافرة. فمثلما يستلبهم هذا النظام الاقتصادي ثمرة جهدهم وعرقهم فان الدولة تستلب منهم حقهم في إدارة أنفسهم بأنفسهم من خلال تعيين كل الوظائف الإدارية والتعليمية والأمنية والبلدية وفي مؤسسات الإنتاج وفي كل مناحي إدارة المجتمع من فوق وبطريقة تضمن ولاء الجميع لها وللسياسيين الذين يديرونها. بحيث أنه بدل أن يسيّر الناس شؤونهم من خلال الانتخاب المباشر لمن سيقوم بأداء المهمات الاجتماعية التي يكلفونه بها، أي بخلق أدوات تسيير ذاتي، فان الدولة تحتكر هذا الحق. وبدل أجهزة التسيير الذاتي التي هي وحدها تمثل مساهمتهم الفعلية والمباشرة في إدارة المجتمع تقوم الدولة ببناء أجهزة بيروقراطية معينة بطريقة تسلطيّة، بحيث تتحول هذه الأجهزة من أدوات لخدمة المجتمع إلى أدوات لقمعهم وإخضاعهم.
والثورة الحالية إذ بدأت ثورة اجتماعية بالفعل، أي ثورة ضد النظام الاقتصادي والاجتماعي ودولته الديكتاتورية، فان السياسيين بفضل خبرتهم في عقد التحالفات من وراء الكواليس، وتقديم الوصفات الجاهزة لفرضها على الجماهير، يعملون كل ما في جهدهم إلى تحويل وجهتها نحو أهداف غريبة عنها. فبدل الشعارات ذات المضمون الاجتماعي والاقتصادي الواضح التي اتسمت بها الانتفاضة في بدايتها، فرض السياسيون شعاراتهم التي تستهدف استبدال هذا الحزب بذاك، أو هذا السيناريو لترميم الدولة بذاك. فبينما كنا نسمع في الاحتجاجات الأولى ذات الطابع التلقائي للجماهير شعارات حول الشغل والتنمية والكرامة، أي وبرغم غموض هذه الشعارات فإنها كانت تواجه النظام الاقتصادي والاجتماعي، أصبحنا نسمع في الاحتجاجات التي التحق بها هؤلاء الساسة شعارات حول ضرورة "حكومة إنقاذ وطني" أو "حكومة تكنوقراط للتحضير للانتخابات" أو "حكومة يشارك فيها الجميع بدون استثناء" أو "من أجل دستور جديد" أو "من أجل مجلس تأسيسي"...الخ. أي أن الثورة بعدما كانت تجابه الجذر العميق الذي قامت من أجل اقتلاعه، أي أسلوب إنتاج الثروة وتوزيعها، وكانت شيئا فشيئا تطور بنفسها أساليب نضالاتها وتوضح مضمونها وتكثفه في شعارات ملموسة متعلقة بوضع الجماهير المعاشي، فإنها اليوم تواجه ثورة مضادة تستهدف استنزاف كل جهودها في لعبة الأحزاب وطموحاتها في أخذ مكان في أجهزة الدولة. والحزب الذي يتحصل على نصيب من الكعكة يقوم بسحب مناضليه ويتحول إلى جلاد جديد بسرعة فائقة، أما الأحزاب التي خرجت من اللعبة بيد فارغة فإنها بدأت بزرع بذور الانقسامات السياسية والإيديولوجية داخل الحركة، وفي حين كانت هذه الأحزاب مختفية تماما قبل سقوط الديكتاتور ولم ترفع يافطاتها، وفي غالب الأحيان اكتفت بمراقبة الأوضاع من بعيد وإطلاق الخطابات التلفزيونية النارية، فإننا نشاهدها اليوم، وبفضل مساحة الحرية التي فرضتها الانتفاضة، تحاول شيئا فشيئا السيطرة على الحركة وتوجيهها وجهة أهدافها الخاصة. فحركة النهضة التي كانت قبل اندلاع الانتفاضة تبعث برسائل تطمينية للنظام وتعبر عن استعدادها لكل التنازلات في سبيل مجرد أخذ التأشيرة القانونية ها هي اليوم وبطرق مناورة تحاول اكتساح الحركة واستعمالها لخلق توازن يسمح لها بالدخول في الترتيبات السياسية التي تطبخها الأحزاب. والأحزاب اليسارية في أغلبها لم تكرس طاقاتها وجهودها في سبيل تطوير العمق الاجتماعي لهذه الثورة، ولم تقم بأي خطوة ملموسة لتوحيد الجهود من أجل تطوير أدوات النضال الفعلية التي ابتدعتها الجماهير بنفسها، أي اللجان الشعبية للتسيير الذاتي. بل إنها تصب كل جهدها في تحصيل موقع أفضل في الخارطة السياسية، وهي في ذلك مستعدة لعقد أكثر التحالفات غرابة وتناقضا. والسياسيين إذ يتصارعون فميدان صراعهم هو حصة كل واحد منهم في الغنيمة المنتظرة.
وللأسف، وبحسب تجارب الثورات الاجتماعية السابقة، فان الثورة إذ تسلم مصيرها في يد السياسيين، فإنها لا تفعل سوى التخلي عن أهدافها الاجتماعية لصالح أهداف السياسيين ومزايداتهم التي لا تنتهي. وإذا ما واصلت في هذا الاتجاه الخاطئ فمصيرها المحتوم هو عدم تخطي عتبة الإصلاحات والإبقاء على جذور النظام القائم. ففي أحسن الأحوال، وإذا انجرّت الثورة تماما إلى ميدان الإصلاحات السياسية مهما كانت جذريتها، سيتحقق للسياسيين ما يحلمون به دائما: الحريات السياسية، الديمقراطية، انتخابات رئاسية وتشريعية حرة وشفافة، دستور جمهوري، حق الأحزاب في النشاط العلني..الخ. أما أهداف الثورة الحقيقية، تغيير الشروط المادية الفعلية لحياة الناس، فانه سيبقى معلقا ومؤجلا إلى انتفاضة قادمة لا أحد يعرف متى ستأتي. ذلك أن تغيير تلك الشروط الحياتية لا يمكن له أن يتحقق بتغيير السياسيين الذين يسيّرون الدولة، أو بمدى نزاهتهم، بل بتغيير في النظام الاقتصادي والاجتماعي، وهذا ما لا يمكن حدوثه بانتخابات حرة ونزيهة بل بمباشرة الناس بإدارة شؤونهم بأنفسهم وليس عبر الأجهزة البيروقراطية للدولة. فالبوليس لن يتحول إلى أداة لحماية الناس وتأمين تصريف حياتهم بدل قمعهم بمجرد صعود هذه السياسي أو ذاك، فطالما البوليس يتم تعيينه من فوق، بأوامر الأجهزة المركزية للدولة فانه لا يمكن أن يكون سوى أداة قمع. وعون البلدية طالما أنه لا يخضع للانتخاب وحق الناس في عزله فانه لا يمكن أن يتحول إلا إلى بيروقراطي نزيه في قليل من الأحيان ومرتش ومستغل لموقعه في أغلب الأحيان. والبورجوازي الذي ينهب عرق العمال سيبقى هو صاحب رأس المال والمتصرف فيه مهما كانت تركيبة الحكومة. والملاك العقاري سوف يواصل نهبه الطفيلي لثروة المجتمع مهما كان اسم رئيس الدولة أو الحزب صاحب الأغلبية في البرلمان. والنظام الرأسمالي عموما سيواصل تطوره الكارثي مخلفا وراءه آلاف البطالين والمهمشين والجهات المحرومة مهما كانت أشكال ترميم الدولة وتغيير الوجوه.
إن الساسة عندما يتحدثون عن الحرية فإنما يقصدون حريتهم هم بالذات، حرية أحزابهم في جر الجمهور إلى المنافسات الانتخابية الدورية. وعندما يتحدثون عن سلطة الشعب فإنما يقصدون سلطتهم هم بالذات من خلال تفويض من الشعب كل خمس سنوات. وعندما يتحدثون عن ضرورة عدم إقصاء أي طرف في الحكومة فان إقصاء الملايين الأخرى من غير السياسيين، ومنعهم من إدارة شؤونهم بأنفسهم، هو أمر ديمقراطي جدا بالنسبة لهم. فالديمقراطية هي ديمقراطية عشرة في المائة من السكان أو أقل من ذلك بكثير، ديمقراطية فئة السياسيين وحريتهم وتداولهم السلمي على السلطة، أما بقية الشعب فهم كالعبيد والنساء في الديمقراطية اليونانية القديمة مقصيّون ومبعدون، لأن السياسي هو الوحيد القادر على تنظيم الأمور، أما بقية الشعب فأميّ وجاهل ولا يعرف ما يصلح له. والسياسي هو الوحيد القادر على المعرفة بخبايا الأمور وفي يده التعويذة لحل كل طلاسم العالم وقيادة العامة من الجهلة والمتخلفين إلى فردوس العدالة الأرضية، وبفضله يمكن حتى الوصول إلى العدالة الإلاهية نفسها. ولذلك فعلى الشعب تسليم أمره إلى السياسيين ليجدوا الحلول اللازمة لمشاكله، وسوف يستدعونه للقيام بمظاهرة أو اثنين للضغط من أجل تحسين موقع هذا وتحجيم موقع ذاك ثم يقولون له شكرا لقد قمت بالواجب فدع الآن الوقت للسياسيين ليجدوا أفضل الحلول. وعندما يستتب الأمن سيقف هؤلاء السياسيين بالذات ضد أي حركة جديدة من الجمهور باعتبارها فوضى وتعطيل لشؤون الناس وإضرار بالاقتصاد الوطني وسيجدون ألف حجة للقمع، وشيئا فشيئا تتقلص مساحة الحرية التي فرضتها الانتفاضة لتعود طاحونة الشيء المعتاد، ويعود البوليس للقمع والإدارة للتعسف. وبازدهار الحياة السياسية تزدهر سوق المنافسة، وتتحول الحركة التي بدأت موحدة بدون السياسيين إلى فرق وشلل ونحل ومذاهب تحول طاقة الجمهور إلى الصراعات السياسية وتستنزفه في الحملات الانتخابية. وفي هذا الخضم والبهرجة الإعلامية وتقنيات صناعة الزعماء تتحول المطالب الحياتية للفقراء إلى شيء من الماضي. ويتحول الشهداء الذين قدموا أرواحهم من أجل حرية حقيقية وليس حرية الأحزاب إلى أيقونات يحاول كل طرف نسبها إلى نفسه ليزين بها تاريخه ويخلق عبرها شرعية قابلة للاستثمار في سوق النخاسة السياسي.
ليس غريبا أن يحاول اغلب السياسيين في هذه الانتفاضة اختصار موضوعها في شكل الحكومة وتركيبتها. فهم بذلك يحاولون إقناع الجمهور المنتفض بأن قيام حكومة تتخلص جزئيا أو كليا مما يسمى برموز النظام السابق هو الحل السحري للقضاء على هذا النظام. وهم يعملون كل ما في جهدهم الآن إلى إيجاد صيغة تضمن انبثاق حكومة ترضي الجمهور وتجعله يعود إلى البيوت والعمل والدراسة في انتظار انجاز تلك الحكومة "المؤقتة" لمرحلة التحول السلمي للسلطة من الفئة السياسية القديمة إلى فئة سياسية جديدة، ستقوم بفضل إرادتها الطيبة بتحقيق كل مشاكل الشعب من فقر وبطالة وتهميش..الخ.
لكن ما هي الحكومة بالضبط؟ وهل صحيح أنه بتغييرها ستتحقق كل الأهداف التي قامت من أجلها الثورة؟
في الواقع فالحكومة لا تمثل سوى احد أجهزة الدولة. فهذه الأخيرة تتركب من أجهزة متعددة ومتفرعة، من أجهزة القمع المادي (بوليس ،جيش)، إلى أجهزة التحكم الإداري المحكومة بتسلسل بيروقراطي هرمي (ولاة، معتمدين، عمد،كتاب دولة ومستشارين، مدراء عامين وصولا إلى رؤساء الأقسام..الخ)، إلى أجهزة القمع المعنوي (الإعلام، المدارس، المساجد..الخ)، إلى أجهزة الضبط الاجتماعي (نقابات، جمعيات..الخ). وكل هذا الأخطبوط هدفه العام هو إدارة المجتمع وفق المصالح العامة للطبقات والشرائح الاجتماعية المسيطرة. وكل حزب يستولي على الحكومة لا يفعل سوى وضع أنصاره، وأنصار المتحالفين معه شيئا فشيئا ضمن هذا الأخطبوط بما يسمح له بأخذ موقع يمكنه من الاستيلاء على الثروة الاجتماعية من خلال تلك الأجهزة بالذات. و الطبقة المسيطرة على المجتمع تترك لهذه الفئة من السياسيين والإداريين مهمة الحفاظ على مصالحها العامة، أي أنها تحوّل مصلحتها الطبقية الخاصة إلى مصلحة عامة تتجسد في الدولة وأجهزتها، بما يسمح لهذه الطبقة بالتواري، وعدم الظهور بمظهر صاحبة المصلحة المتعارضة مع مصلحة أغلبية المجتمع. وهكذا تظهر الدولة وكأنها بالفعل تحمي مصلحة جميع مواطنيها المتساوين حقوقيا، أو كأنها ذلك الجهاز المحايد الذي يشرف على المجتمع من فوق.
وإذا كانت الثورة قد قامت ضد أسلوب إدارة المجتمع الذي لم يجلب لها سوى البؤس من جهة وسلبها حقها في إدارة نفسها وإحالة هذه الإدارة إلى الجهاز البيروقراطي من جهة أخرى، فإنما هي تقوم ضد هذه الدولة القائمة وضد كل أجهزتها وليس ضد الحكومة فحسب. أي أن الثورة في جوهرها التاريخي وضعت ليس الحكومة فقط موضع السؤال بل الدولة نفسها. لذلك فسعي السياسيين إلى حصر الموضوع في الحكومة ومن هو الأجدر من السياسيين أن يكون في تركيبتها إنما هدفه إنقاذ الدولة من خلال وصفة سياسية تضع حكومة بدل أخرى لامتصاص الغضب، أي التضحية ببعض وجوه الدولة من أجل استعادة هذه الأخيرة لشرعيتها ودورها الطبيعي في حماية النظام الاجتماعي ككل.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو عن عناصر الضعف العميقة في هذه الثورة التي يجب تجاوزها لمجابة الثورة المضادة والانتقال إلى طور أعلى في المسار الثوري وما هي الشروط المادية لمثل هذا الانتقال؟
هذا ما سنحاول بحثه في الجزء القادم من الموضوع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق