الأحد، 27 فبراير 2011

هل ستسلم الثورة نفسها للسياسيين (الجزء الثاني)


محمد المثلوثي
الحوار المتمدن - العدد: 3290 - 2011 / 2 / 27
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية
راسلوا الكاتب-ة مباشرة حول الموضوع

إن بحثنا في عناصر الضعف العميقة للموجة الثورية الحالية ليس منطلقه الوعظ أو تقديم الوصفات السحرية للانتصار أو بناء لنموذج خيالي جاهز للتطبيق، بل هو في الواقع رصد للمسار الثوري نفسه كما هو متحقق ومحاولة لكشف بعض عناصر قوته وعناصر ضعفه.
لن ندخل في هذا المبحث إلى الجدال الدائر حول طبيعة هذه الحركة إن كانت ثورة فعلية أم هي مجرد انتفاضة باعتبار وأن الأحداث نفسها مازالت لم تجب عن هذا السؤال بشكل عملي حاسم ولن يفيد كثيرا الدخول في تأملات ذهنية محضة تتعلق بالمستقبل. لكن من المهم أن نلفت الانتباه كون الخطاب الذي يتعمد إبراز هذه الحركة كثورة متحققة ومنجزة، أو أنها ثورة لم يتبقى من أهدافها غير بعض التعديلات هنا أو هناك في شكل الدولة، إنما هو خطاب يستهدف إيقاف المسار الثوري عند حدوده الراهنة، أو هو يحاول حرف هذا المسار صوب الإصلاحات السياسية الفوقية بما يحافظ على الأساس العام للنظام الاقتصادي والاجتماعي القائم. فمن الطبيعي أن شرائح عديدة من البورجوازية والبورجوازية الصغيرة تجد نفسها قد حققت جزء عظيما من أهدافها، ولم يبقى بالنسبة لها سوى الترتيبات السياسية لإعادة بناء الدولة بما يضمن شرعيتها وقبولها من طرف الجمهور بما يسمح بعودة الحياة العادية بعد أن تكون قد تخلصت من الشرائح البورجوازية التي كانت تحتكر الهيمنة الطبقية ممثلة خاصة في العائلة المالكة وملاحقها مما يسمى برموز النظام السابق، وضمان إدارة طبقية جديدة تجمع بين الحرية الاقتصادية والشفافية ومحاربة الفساد وبين الحرية السياسية للأحزاب والإصلاحات الديمقراطية التي تسمح بالتداول السلمي على السلطة ومنع احتكارها من طرف فئة بورجوازية ضيقة. فبالنسبة لهذه الشرائح من الطبيعي أن خطابها يتمحور أساسا إما حول بث الدعاية حول الثورة العظيمة ومنجزاتها التاريخية وتمجيد بطولاتها وضروة الحفاظ على مكاسبها وعدم الدخول في الفوضى، وترك المجال للحكومة لإدارة أعمالها في انتظار إجراء انتخابات ديمقراطية شفافة، وإما التركيز على ما يسمى المطالب السياسية وإدانة أي تحرك للكادحين يواجه مطالبهم الاجتماعية الملحة بدعوى أن ذلك سيهمش المطالب السياسية. وهذا الخطاب بكل تلويناته البورجوازية والبورجوازية الصغيرة، وبقدر تمجيده الشاعري للثورة، بقدر محاولته لجم جموحها وترويضها في الحدود الإصلاحية لهذا النظام البائس.
لكن وفي مقابل هذا الخطاب التضليلي حول الثورة المكتملة العناصر والأهداف، فان الخطاب الذي يصف الحركة بكونها مجرد انتفاضة، وبرغم أنه ينطلق من معطيات فعلية تتعلق بكون هذه الثورة في لحظتها الراهنة لم تبادر فعليا إلى الذهاب أشواطا بعيدة في وضع أسلوب الإنتاج موضع السؤال العملي، فانه يستبطن احتقارا للمبادرات العظيمة التي قامت بها الجماهير، ليخفي الطبيعة الحقيقة لهذه الحركة، بحيث يخرج بخلاصة كون ما يحدث لا يتعلق مطلقا بهبة ثورية على أسلوب الإنتاج، ولو في حدود مازالت جنينية وبمظاهر مشتتة وغير منتظمة، بل بمجرد انتفاضة ضد الديكتاتورية المطلقة، أو من أجل المطالبة بالشغل والزيادة في الأجور..الخ. وهذا الخطاب في أغلبه ينطلق من عناصر الضعف في الحركة (شعاراتها، اليافطات السياسية التي ترفعها، ضعف الفرز الطبقي داخلها..) ليخلص لكون الجماهير عاجزة عن تطوير نضالاتها نحو أهدافها الثورية الجذرية بدون وجود نخبة مثقفة في قيادتها، أو بدون ما يسمى بالطليعة الثورية أو الحزب الثوري القائد. فبالنسبة لهؤلاء فان الثورة غير ممكنة بدون اكتمال عناصر وعيها المسبق في أذهان القادة والزعماء، وبدون أن تسير وفق النموذج النظري الذي ترسمه هيئة أركان عليا، وبدون انتشار العقيدة الماركسية
أو اللينينية أو الماوية أو التروتسكية في أوساط الجمهور المنتفض، وبدون أن يرفع الناس الشعارات الجاهزة المعدة سلفا من طرف دستة من الأذكياء والعباقرة. وحالما تخرج الحركة عن هذا النموذج فانه يتم وصفها بالعفوية وانسداد الأفق، بما يقود إلى وصفها بمجرد انتفاضة، وكأنها حادث عارض محكوم بالهزيمة مسبقا بما أنه يفتقد لما يسمونه بالعامل الذاتي، والذي لا يعني سوى وجود تلك النخبة التي يمكنها تسيير العالم بعصا سحرية، وعبر مراحل مرسومة سلفا، نحو الخلاص النهائ
إن حركة الشغيلة سواء في تونس أو في غيرها من بلدان العالم لا يمكن فهمها إلا في حقيقتها الفعلية كرد فعل طبيعي على الأزمة العالمية للرأسمالية وما تسببت فيه من كوارث اجتماعية ليس أقلها اتساع رقعة البطالة وانخفاض المقدرة الشرائية للعمال وتدهور الوضع المعيشي والبيئي والصحي للقسم الأعظم من البشرية. وان التناقض المميز للرأسمالية الذي يزداد احتدادا بين الطابع الاجتماعي للإنتاج والطابع الفردي لتملك وسائل الإنتاج من طرف قلة صغيرة من المستكرشين لا يمكن له إلا أن يجد تعبيره في تصادم جمهور الكادحين مع أجهزة الدولة الديكتاتورية منها والديمقراطية. فمن هذه الزاوية فقط يمكن تحديد طابع هذه الموجة الثورية التي تزداد امتدادا وتوسعا كما تحديد أهدافها التاريخية الفعلية بغض النظر عن ظروف تطورها الحالي والدرجة التي وصلت إليها من النضج. فما تصوره وسائل الإعلام البورجوازية على أنه "حراك ديمقراطي في البلدان المتخلفة" أو "نضال شعبي ضد ديكتاتورية بن علي ومبارك والقذافي..الخ" أو "احتجاج من أجل تنمية عادلة " أو "ثورة الكرامة ومن أجل الحداثة والتقدم" ما هو في الحقيقة سوى هبة ثورية للشغيلة ضد نظام اقتصادي واجتماعي يدفعها إلى حضيض العبودية. فالرأسمالية بتنميتها وتقدمها وحداثتها أثبتت بنفسها أنها لا يمكن لها أن تقدم للبشرية سوى مزيد من الأزمات المستعصية ومزيدا من التفاوت الطبقي واختلال التوازن سواء بين الدول أو بين المناطق وحتى بين القطاعات. كما أن ديمقراطيتها قد واجهت الشغيلة في اليونان وفرنسا بالحديد والنار واستعمال قوانين الطوارئ ومنع الإضرابات، وهي تدفع آلافا مؤلفة في مراكزها الصناعية الكبيرة في أمريكا والهند والصين إلى أقصى أشكال الفقر والتهميش والتسول والتشريد من المنازل. وان هذا الواقع المهين الذي تعيشه الأغلبية العظمى من البشرية في ظل الرأسمالية يدفع الفقراء في كل أصقاع الأرض إلى النهوض ضد ظروف استلابهم وتجويعهم، كما يدفعهم إلى اكتشاف وحدة أهدافهم الأممية وضرورة تضامنهم العالمي في مواجهة التضامن العالمي بين البورجوازيين الذين يمدون العون لبعضهم البعض لكبح جماح حركة الشغيلة ومنع تطور لهيب هذه الانتفاضات إلى ثورة أممية تعصف بالنظام الرأسمالي برمته وتعيد طرح السؤال العملي لاستبدال أسلوب الإنتاج السائد القائم على الاستغلال الطبقي واستثمار إنتاج المجتمع من طرف زمرة قليلة من الطفيليين البورجوازيين بأسلوب اجتماعي يقضي على الطبقات ويقيم الإنتاج التعاوني بين المنتجين الأحرار.
وإذا كان نضال البروليتاريا ضد شروط استعبادها ينطلق ضمن الحدود الوطنية فان الأساس الواقعي لتطور هذا النضال ووضوح أهدافه لا يتعلق بوجود حزب ثوري أو طليعة مثقفة تقود العامة من الجهلة، بل بتوسع رقعة الموجة الثورية ووصولها إلى المستوى الأممي. فبدون توسع هذه الموجة الاحتجاجية لتشمل قسما كبيرا من البلدان وخاصة المراكز الحيوية الكبيرة للرأسمال فإنها ستجد نفسها تتقوقع شيئا فشيئا على نفسها وستسمح للقوى الرأسمالية العالمية الكبرى بإدارة الصراع وتطويقه ومساعدة الحكومات المحلية على الالتفاف على الثورة والاستفراد بها في كل بلد على حدة. ولعل ما نلاحظه اليوم من تهافت الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية بما هي القوى الرأسمالية الأعظم على حبك سيناريوهات "التحول الديمقراطي" و"الانتقال السلمي للسلطة" وتقديمها للدعم المالي والاقتصادي للأنظمة القائمة يمثل في الواقع حقيقة وحدة الطبقة البورجوازية على المستوى العالمي عندما يتعلق الأمر بمواجهة الثورة البروليتارية. وهذا ما يجعل من التجسيد الفعلي للتضامن العمالي الأممي شرطا حاسما في تواصل المسار الثوري. ولعل عناصر الضعف التي يمكن لها أن تظهر في الحركة ليست شيئا آخر غير التعبير عن عدم التوازن في تطور هذه الحركة والبطء في اكتساحها الأممي. فبقدر توسع الحركة يمكن للأهداف التاريخية للبروليتاريا أن تظهر على السطح أكثر فأكثر، ويبرز الاستقطاب الطبقي الثنائي وحقيقة المصالح الاجتماعية المتناقضة بين الشغيلة والبورجوازية. وبقدر تأخر هذا الامتداد أو تعطله فان الأهداف الاجتماعية للثورة تخبو شيئا فشيئا لتترك المجال للإصلاحات السياسية التي يقترحها الزعماء والساسة والأحزاب.
إن البورجوازية العالمية تسعى بكل جهدها إلى تقسيم طبقة الشغيلة سواء من خلال التقسيمات الجهوية والعشائرية والطائفية والدينية والعرقية والقومية..الخ، أو من خلال بث الوهم في أن أهداف البروليتاريا تختلف من بلد إلى آخر. ففيما يتم وصف حركة العمال في البلدان "المتخلفة" بكونها تستهدف الانتقال الديمقراطي والقضاء على الديكتاتوريات، يتم اعتبار هذه الحركة في الدول "المتقدمة" كونها حركة من "أجل الحفاظ على المكاسب الديمقراطية" أو "الدفاع عن المكاسب الاجتماعية للعمال" أو "من أجل مقاومة النيوليبرالية المتوحشة" أو "من أجل عولمة إنسانية ومقاومة المضاربين"..الخ. هذه الدعاية تهدف إلى إخفاء وحدة أهداف الشغيلة في العالم في مواجهة بربرية رأس المال، وذلك من أجل ضرب تضامنها الأممي. بحيث يقولون للعمال في "الغرب" إن الموجة الثورية الحالية أمر لا يعنيهم وهو متعلق فقط بشعوب متأخرة وبربرية تناضل ضد وحوش من القرون القديمة وليس ضد زعماء رأس المال والمتصرفين في إدارته في تلك الدول، بينما يقولون للعمال في "الشرق" إن الإضرابات والاحتجاجات العمالية في أوروبا وأمريكا لها أهداف لا علاقة لها بوضع العمال في إفريقيا وآسيا، بما أن عمال "الغرب" يعيشون بحبوحة من العيش وأنهم يطالبون بكماليات ورفاهية في عالم آخر غريب وبعيد. وليس غريبا أن فرقا يسارية تساهم في بث مثل هذه الأوهام، حيث ينسبون للبروليتاريا أهدافا مختلفة من بلد إلى آخر. فنجد، بالنسبة لهم، أن للبروليتاريا في بلدان ما يسمى العالم الثالث مهمة خاصة تتمثل في انجاز "المرحلة الديمقراطية" وبناء "الاقتصاد الوطني المستقل" و"فك الارتباط مع الامبريالية" بينما يكون للبروليتاريا في العالم المتقدم مهام "الحفاظ على المكاسب الديمقراطية في مواجهة اليمين المتطرف" و"إعادة دور الدولة الاجتماعي" و"مقاومة العولمة المتوحشة" أو هم يعتبرون في أحسن الأحوال أن مهمة "بناء الاشتراكية" مهمة منحصرة في البلدان الصناعية المتقدمة وأساسا أوروبا وأمريكا، وكأن الاشتراكية أمر ممكن بدون تطورها على المستوى الأممي. كل هذا الخطاب من شأنه شق صفوف العمال وضرب تضامنهم، بحيث يتحول كل قسم من البروليتاريا إلى فئة خاصة ذات أهداف خاصة، بما يسمح للبورجوازية بجر هذا القسم في مواجهة القسم الآخر، أو تحييد جزء منهم للاستفراد بالجزء الآخر، وهذا من شأنه إعطاء هامش مناورة كبير للبورجوازية لمحاصرة الانتفاضات وتحويل وجهتها صوب أهداف غريبة عنها.
لكن من المهم أن نبرز هنا أن مواجهة الشغيلة للدولة وأجهزتها القمعية لا يمكن له أن يحافظ على ديمومته واستقراره بدون خلق تنظيمات طبقية مستقلة وقارة. ففي غياب أطر للتنظيم الذاتي لعموم الفقراء وتقدم هذه الأطر لتشمل مجالات اجتماعية جديدة، بحيث تتطور كل أشكال النضال للتوحد وصب جهودها في أهداف طبقية شاملة، والانتقال من حالة الفوضى إلى حالة الانتظام، فان إمكانية الانتكاس تكون هي الأقرب، كما إمكانية إعادة استيعاب الحركة من طرف أحزاب بورجوازية جديدة وتحت يافطات جديدة تبقى خطرا محدقا. وإضافة لذلك فان غياب الأطر التنظيمية الطبقية يُبقي الباب مفتوحا أمام الأحزاب والتيارات السياسية لتقسيم الحركة وفق عقائدها ومصالحها الخاصة وأهدافها في أخذ نصيب من السلطة السياسية باستعمال الحركة نفسها كوقود لتحسين شروط تفاوضها في الترتيبات السياسية.
لكن ظهور وتطور أشكال التنظيم الطبقي الذاتي ليس مرتبطا مثلما يعتقد البعض بمهمات توعوية من قبل نخبة مثقفة أو نقل الوعي من قبل ما يسمى بالأنتلجنسيا الثورية إلى صفوف البروليتاريا، بل أساسا بوجود تقاليد ثورية في صفوف الجماهير. ولعل غياب هذه التقاليد في الحركة الحالية ساهم بدرجة عظيمة في التلاشي السريع للجان الأحياء التي أقامها الأهالي وعجزها عن تطوير نفسها لتتحول إلى أدوات نضال طبقي فعلية، أو أدوات للتسيير الذاتي وفرض ذلك على الدولة. وحتى اللجان التي أقامها العمال في المؤسسات والشركات تحولت، برعاية النقابة وأوامرها المباشرة، إلى مجرد لجان حماية لممتلكات البورجوازيين الذين انسحبوا لأيام طويلة ليعودوا بدون حتى أن يكلفوا أنفسهم بإعادة النظر في الوضع المادي المتدهور لعمالهم، وهذا ما دفع هؤلاء إلى العودة إلى موجة من الإضرابات التي شملت تقريبا كل القطاعات العمومية منها والخاصة.
هذا الواقع يفرض على التيارات العمالية والمناضلين والمثقفين الذين انحازوا لصف الثورة أن يبادروا إلى توحيد الصفوف من أجل المساهمة في إعادة تطوير أشكال جديدة من التنظيم الذاتي للكادحين. وهذا لن يكون إلا بالتخلي عن العقائد القديمة والتقاليد البالية والتقسيمات الايديولوجية التي تقوم على أساس أفكار تجاوزتها الحركة التاريخية للشغيلة. ولعل الوحدة النضالية الفعلية هي تلك التي تنطلق من دروس الانتفاضة نفسها ودرجة النضج التي وصلت إليها والعمل على تطوير أهدافها وتوسيع أفاقها، وليس من خلال التناحر المذهبي أو السياسوية الذليلة التي لا طموح لها سوى الوصول إلى موقع في السلطة السياسية ولو كان ذلك بعقد أكثر التحالفات انتهازية مع الأطراف البورجوازية والبورجوازية الصغيرة اليمينية منها والشوفينية التي بقدر لهجتها السياسية الثورجية بقدر تغييبها المطلق والتام لكل قضايا الجماهير الكادحة، بل تآمرها على مصالح العمال لحساب هذا الفصيل أو ذاك من البورجوازية وتكريسها لبرامج اقتصادية واجتماعية من شأنها تأبيد الاستغلال الطبقي والحفاظ على أركان النظام الرأسمالي القائم.
لكن عناصر الضعف في هذه الحركة لا تتعلق فقط بخفوت وتيرة تشكيل الأدوات الطبقية للتنظيم الذاتي، بل أيضا بالأساليب النضالية المتبعة والشعارات واليافطات المرفوعة، وهذا ما سيكون موضوع الجزء القادم

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق