الثلاثاء، 5 فبراير 2013

ماركس بين إرادة التغيير والمادية التاريخية

أنور نجم الدين


تمهيد:

بعدما حاولنا سابقًا إبداء رأينا بخصوص تغيير العالم بفعل الفلاسفة في موضوع منشور في الحوار المتمدن، فنحاول في موضوعنا هنا، التركيز على فكرة تغيير العالم بفعل الإرادة. وسؤال موضوعنا هنا يتلخص في ما إذا كانت الإرادة تسيطر على القوانين المادية التاريخية، ففي موضوع منشور في الحوار المتمدن من قبل الأستاذ نعيم إيليا في الرابط الآتي:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?ecom=1&aid=327950
ناقشت تعليقات الأستاذ مالوم أبو رغيف، وأحاول هنا تكميل هذا النقاش من خلال الملاحظات الآتية حول ما يقوله الأستاذ أبو رغيف بخصوص التغيير بوصفه (عملية إرادية)، وهل ممكن نسبة هذه الفكرة إلى ماركس؟

لنبدأ أولا من ماركس:

"ان ما يظهر على انه ممكن الحدوث بالنسبة إلى العصر اللاحق في تعا رضه مع العصر السابق .. هو شكل للتعامل كان يقابل مرحلة معينة من تطور القوى المنتجة" (كارل ماركس، الايديولوجية الألمانية، ص 78).

وهكذا، فالعلاقة بين القوى المنتجة والعلاقات الإنتاجية لا الفرد الموهوم هي التي تحدد مكونات التاريخية لعصرنا، بالضبط مثل مكونات العصر اللاحق، فعندما التناقضات بين هذه القوى والعلاقات المطابقة لها تدخل مسرح التاريخ، فستكون آنذاك هذه العلاقات قد باتت قيدًا أمام تطورها. فإن تاريخ علاقات بشرية جديدة، هو نفس تاريخ المصاحب بتطور القوى المنتجة، وهو في الوقت نفسه تطور الأفراد أنفسهم ووعيهم الاجتماعي. وهذه الحركة التاريخية مستقلة كليًا عن إرادة الأفراد والطبقات، ودور الفرد وعن فكر الفرد، ودور الأحزاب السياسية أيضًا. ولكن لماذا؟
بكل بساطة، لأن القوى المنتجة العالمية والعلاقات الإنتاجية المقابلة لها (التبادل، التوزيع، الاستهلاك)، لا يمكن إخضاعها لفكر أي فرد -أو حزب- في العالم.
أما لدى الماركسيين الذين يحلون ماركس محل الله، فيمكن أن يمثل فرد وحيد وفكره قوةً محركة للتاريخ، فكل شيء مرهون بفكره وإرادتنا الفولاذية، فكأن خالق التاريخ هو فكر نموذجي للأفراد الذين لا يخلفون في الواقع أي أثر على حركة التاريخ من خلال الإرادة أو الأفكار.

الماركسية والإرادة:

إذا انطلقنا من الماركسية ذاتها، فسنكتشف فورًا أنها خليط من المادية القديمة والتأملات الفلسفية مثل: الإرادة، وتغيير العالم بفعل الفلاسفة، والجدلية، والأخلاق. وحسب الفلاسفة وتأملاتهم الفلسفية، فانك ذات إرادة حرة أن تختار بين الخير والشر. هذه هي فكرة الإرادة، فالإرادة فكرة دينية تتعلق بحياة الفرد. وأن تحويل هذا التأمل الفلسفي إلى قوة محركة للتاريخ، سيكون من شأن المثاليين فقط، المثاليين الذين يحاولون الاستعاضة عن الميتافيزيقا بدور الفرد في التاريخ.
فحسب هذه الفلسفة، يمكن تغيير العالم ببساطة من خلال أفكار ومشاريع لينين والإرادة الفولاذية لستالين، فالماركسية تحاول إذن مجابهة العالم بالتأملات. وهذه التأملات هيغلية في الأساس، تحاول استبدال قوانين المادية للتاريخ بإرادة الأفراد أو الأحزاب، فغيروا أفكاركم وأفكار الناس، إذ كنتم تريدون تغير الحياة الاقتصادية للمجتمع. وهكذا، ففي التأملات الفلسفية، ممكن الوصول إلى عالم جديد حسب وصفة ايديولوجية أو وصاياه أخلاقية أو عزيمتنا وإرادتنا.

ولكن السؤال الموجه إلى الماركسيين هو: لو كانت القوانين المادية التاريخية هي التي تحكم علاقاتنا، فما دور إرادتنا في تغيير العالم إذن؟ وهل ممكن أن يخضع النظام الاقتصادي والسياسي لإرادتنا الفولاذية؟

لنَدَعْ الآن ماركس الذي يتحدث الماركسيون باسمه، أن يجيب بكل هدوء على هذا السؤال.

ماركس والإرادة:

"إن القوة الاجتماعية، يعني القوة الإنتاجية المتضاعفة، التي تنشأ من تعاون أفراد مختلفين كما يحدد بفعل تقسيم العمل، لا تظهر في نظر هؤلاء الأفراد على أنها قوتهم الموحدة الخاصة، إن هذا التعاون نفسه ليس إراديا، بل نشأ بصورة طبيعية؛ إنها تظهر لهم، على العكس من ذلك، على أنها قوة غريبة قائمة خارجة عنهم، هم جاهلون بأصلها وهدفها، وبالتالي فهم عاجزون عن التحكم فيها، بل هي على النقيض من ذلك تجتاز سلسلة خاصة من أطوار التطور ومراحله المستقلة جدًا عن إرادة الإنسانية ومسيرتها، بحيث تتحكم هي في الحقيقة في هذه المسيرة وتلك الإرادة" (نفس المرجع، ص 43).

يواصل ماركس ويقول:

"مادامت القوى الإنتاجية لم تبلغ ذلك الحد من التطور الذي يجعل المزاحمة نافلة، فان الطبقات المحكومة سوف تظل طوال هذا الوقت راغبة في المستحيل إذا كانت تملك (الإرادة) في إلغاء المزاحمة، ومع المزاحمة الدولة والقانون" (ص 350).

وهكذا، فلا يمكن أن يغير العالم حسب الإرادة أو الاخلاق أو وصفة ايديولوجية من ماركس أو خلفائه، فالتاريخ ليس لعبة بين أيدي الناس، بل علاقات اقتصادية وبشرية عالمية متداخلة لا يمكن السيطرة عليها من خلال التأملات الفلسفية: الأفكار، الإرادة، الأخلاق، انه منظومة من القوانين المادية التاريخية، يتحرك المجتمع من ضمنها وبصورة مستقلة عن دور الأفراد والطبقات والفلاسفة والأحزاب. وهل ممكن أن يشير ماركسي إلى دور فرد ما أو فيلسوف ما في تغيير المجتمعات السابقة: من العبودية إلى الإقطاعية، ومن الإقطاعية إلى الرأسمالية؟ إذا كان الجواب كلا -وبالطبع سيكون الجواب كلا- فلماذا إذن يجب أن نصدقكم بأن التغيير الاجتماعي اللاحق سيكون من فعل ماركس ووصفته الأيديولوجية أو إرادتنا الفولاذية؟
إن فكرة التغيير من خلال وصفة أيديولوجية أو الإرادة، أو الأخلاق، أو الجدلية .. ليست سوى تعبيرات تأملية أيديولوجية عن العالم، وهي في الأخير تحويل كل الصراعات الموجودة بين القوى المنتجة والعلاقات الإنتاجية، والصراعات الناتجة منها بين الطبقات مسرحها العالم كله، إلى صراع الفرد مع أفكاره وأخلاقه، فحسب الفلسفة الماركسية، إن التناقض هو تناقض الفرد مع فكرته التي يقتحمها في رأسه حول الروح والأخلاق الدينية بالذات، فالصراع إذن هو بين أخلاق الملحدين وأخلاق المؤمنين وهي في الواقع نفس الأخلاق الاجتماعية في كل زمن محدد من التاريخ، وإذا نجحت الماركسية في تشجيع الناس في ارتكاب الخطيئة ضد الروح، فإنها تنجح في إقامة مجتمعها الإلحادية، وكأن الهدف هو مجتمع إلحادي، أو كأن الالحاد هو القوة المحركة للتاريخ.

أما عكس كل هذا الهراء المثالي، فمات الآلاف من أجل مجتمع جديد أثناء ثورة الكومونة (عام 1871)، تستهدف إنهاء سيادة الإنسان على الإنسان، ولكن دون أن يعرفون مناضلوها شيئًا عن الماركسية وفكرتها الإلحادية والأخلاقية والإرادوية المناقضة بالمنهج المادي للتاريخ، المنهج الذي ينطلق من الحياة الاجتماعية لا من الأفكار أو الارادة أو الإلحاد والإيمان، ولا بين النضالات الاقتصادية التي تشارك فيها الملايين من المؤمنين ضد النظام القائم.
إن القوى المنتجة والعلاقات الإنتاجية العالمية، هو الذي أَوْجَد الحالة الاجتماعية التي تقف ضدها أكثرية المجتمع بين فينة وأخرى، وتحاول تغيير شكل إنتاجي قديم بشكل جديد يتناسب وعلاقات جديدة ووعي اجتماعي جديد لا حسب أكثر الأفكار فلسفية صالحة للمجتمع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق